«النداهة» و«الحورية».. «مصيدة الجمال» في الحكايات الشعبية

بجماليون وجلاتيا
بجماليون وجلاتيا

كتب رشيد غمرى

في لوحة «هيلاس والحوريات» يصور الفنان «جون وليام وترهاوس» فتى الأسطورة الإغريقية حاملا جرته إلى الماء، إذ تغويه الحوريات الفاتنات، ويأخذنه إلى الأعماق ليغرق.

القصة تذكرنا بالنداهة في الحكاية الشعبية المصرية، عن امرأة جميلة، تظهر على حافة النهر في الظلام، وتنادى الشخص باسمه، فيلبى نداءها مسحورا، ويغرق أيضا.

ويتكرر الأمر ضمن الحكايات الشعبية فى العديد من بلاد العالم، كتحذير من وجه مظلم ومرعب للجمال، لم تتوقف الفنون عن التذكير به عبر التاريخ. فكيف لبهجة الحياة أن تكون قاتلا فتاكا؟ وكيف للكمال والانسجام أن يصبح دمارا، أو فخا يخفى في باطنه الشر والفناء؟.

 

الجمال القاتل موضوع للعديد من الحكايات فى فلكلور الشعوب حول العالم منها «أم الدويس» المرأة الفاتنة كما يصورها الموروث الشعبي الخليجي، وهي أيضا تغوي الرجال، ثم تقطع رؤوسهم بمنجل في يدها، وتشبه بدرجة كبيرة «لاليرونا» فى تراث المكسيك وأمريكا الوسطى.

وفي التراث المغربي شخصية مماثلة هي «عيشة قنديشة»، التي تظهر كامرأة جميلة تغرى الرجال، ثم تقتلهم وتتغذى على لحومهم. ويري البعض أنها حيل الأدب الشعبي لإخافة الشباب من الوقوع فى الغواية. لكن يبدو الأمر أعقد من ذلك.

 

الأنثى المظلمة
وفقا لعالم النفس «كارل يونج» فهذه الحكايات هى من مشترك اللاوعي الجمعي الإنساني، الذى قام بتصنيف الأنثى عبر التاريخ إلى نمطين: متسامٍ مفيد، وشهوانى مظلم. ويرجع تاريخ حضور الأنثى المظلمة فى المخيلة الإنسانية إلى آلاف السنين، وأشهرهن «كالى» الهندوسية، و«إنانا» و«عشتار» فى أساطير بلاد الرافدين، و«ليليت» فى الأدبيات العبرية، التى تُعرف بأنها الزوجة الأولى لآدم ولكنها أرادت السيطرة عليه، فتحولت إلى شيطانة.

وهى معروفة أيضا لدى اليونان باسم «لميا». وكلهن إناث جميلات شهوانيات، يمتلكن رغبات وقوى تدميرية، وفي السياق نفسه يمكننا النظر إلى شخصية «سالومى» كواحدة من أشهر النساء اللائي تمتعن بالجمال القاتل عبر التاريخ.  

          

        لميا اليونانية لجون وليام وتر هاوس


الكاتب الأيرلندى «أوسكار وايلد» أعـــــاد تنــــاول حكايتهـما المعـــروفــــة بطريقة مختلفة، حيث جعل الملك يهيم عشقا بها، وحيث طلبت أن ترى القديس يوحنا الذى كان ممنوعا عليه أن يرى أحدا، فهامت به عشقا، ولكـــنه رفضـــها، فــقـــررت الانتقـــام. وعنها كتب «هيرمن سودرمان» عملا بعـــنوان «نــيران القـــــديس يوحــــنا»، كما وضع «ريتشارد شتراوس» أوبرا بعنون «سالومى». وكلها أعمال حول الجمال الخارق، عندما يكون مقصلة للفضيلة، وسببا للموت.

عشق وجنون

فى الأسطورة الشهيرة يظهر «بجماليون» كنحات كاره للنساء، بسبب تجاربه السيئة معهن. ويقوم بنحت تمثال لامرأة شديدة الجمال أسماها «جلاتيا»، كان يقضى الساعات والأيام فى التحدث معها، هائما فى عشقها.

وفي أحد الأيام تحقق «فينوس» أمنيته، وتبث الحياة فى التمثال، ليصير امرأة حقيقية. الأسطورة تقدم الجمال كطاقة حياة، لكن الأعمال الأدبية والفنية المأخوذة عنها عمدت إلى إظهار الوجوه الأخرى لهذا الجمال.

وكتب برنارد شو مسرحيته «بجماليون» عام 1912، وهى ما تحولت إلى مسرحية سيدتى الجميلة التى قُدمت فى أمريكا، وقُدمت نسخة منها فى مصر.

لكن ما يهمنا هنا هو مسرحية بجماليون لتوفيق الحكيم، التى قدمها ملتزما بأصلها اليونانى. وقد جعل «جلاتيا» تقع فى حب شخص آخر، وتهرب معه.

 

 

 

ويتدخل «أبولون»، ويعيدها إليه، لتصبح زوجة مطيعة له لكن مع الوقت، يرى بجماليون أن جلاتيا التمثال كانت أجمل من جلاتيا الفتاة. ويطلب إعادتها تمثالا، ويتم الاستجابة لطلبه.

يشعر بجماليون بالشوق إلى جلاتيا الإنسانة، ويهيم فى الغابات مريضا حتى الموت. ويظهر توفيق الحكيم بعبقرية تناقضات النفس الإنسانية فى تعاملها مع الجمال بين الواقع والخيال، وبين الفن والحياة، بل وترصد تناقض الجمال نفسه، ولكنها تشير إلى أن الأثر القاتل للجمال، لا يصدر عن الجمال نفسه، ولكن من اضطراب النفس المتعاملة معه.

النقاء القاتل

فى رواية «زئبق» للكاتبة البلجيكية «إميلى نوثومب»، تعتقد البطلة فائقة الجمال أنها شديدة البشاعة، لأن من يتولى رعايتها، أخبرها بذلك، بعد أن أخفى عنها المرايا، وكل ما يعكس صورتها. وكانت تلاحظ أن كل من تقع عينه عليها يصاب بالروع، ويرتسم عليه الاضطراب، ما فسر لها بأنه بسبب قبحها الذى لا يحتمل. وهكذا اقتنعت البطلة بالاعتكاف لترحم العالم من بشاعتها. والحقيقة أن الهلع الذى كان يرتسم على الوجوه مرده جمالها الشاهق. ومن المفارقات أنه يتسبب فى تعبير يشبه أثر البشاعة. ربما لأنه يفاجئ الناظرين بما هو ضد السائد والطبيعى والمألوف، ولذلك فهو يسبب الصدمة، والإزعاج، والقلق.

 

 

رعب الجمال
 

«فـوبيا الجميلات» أو «فينوسترافوبيا» هو مرض نفسي، يظهر المريض خلاله أعراض اضطراب شديدة عند رؤية الجميلات، تصل إلى حد الهلع والتعرق، والتشنجات والحركات اللاإرادية، واضطراب دقات القلب.

ويطلق عليه البعض عقدة «ليثيا»، حيث يكشف عن شعور بالخزى وعدم الجدارة أمام الجميلات.

وحتى دون المعاناة من الأعراض المرضية المتطرفة، وهو ما يفسر مشاعر الحقد على الجمال الذى يملكه الآخرون. لكن حتى محبو الجمال ومتذوقيه، يشعرون أحيانا برهبة أمام مستويات معينة من الجمال.

وهى حالة يعرفها العاشقون والناسكون على السواء، حيث يضطربون أمام جمال المحبوب، بشريا كان أو إلهيا.

ويعانى بعض الناسكين من الجذبة، فيبدون كمن غابت عقولهم، لأنهم يذوبون حين وصلهم بالجمال الذى لا يمكن الارتواء منه. ويحذر بعض المتنسكين الآسيويين -المبتدئين من حالات قد يفقدون فيها عقولهم أمام الجمال، وقد يموتون، وهكذا يقف الفناء عند الحدود القصوى للجمال.

عقاب الجمال
الجميل هو المتناسق والمتناغم والممتع والمفيد عند أغب الفلاسفة، ربطه أفلاطون بالحب الإلهــى، والعالم المثالى، والصعود إلى المطلق، ووصفه «هيجل» بأنه الجني الأليف الذي نصادفه فـى كل مكان.

كما عُرف كقيمة مطلقة مع الحق والخير، وإن اختلفت الأذواق حول موضوعه.

كما أظهرت الأسطورة الإغريقية الجمال كسبب للفناء عبر قصة «نارسيس» الجميل الذى تبهره صورته على سطح الماء، فيعكف على الافتتان بها، حتى الموت.

 

حكاية «النداهة»

وعالجت الأسطورة أيضا جانبا آخر للجمال المهلك من خلال قصة «ميدوسا» الجميلة التى تقع فى الخطيئة بسبب جمالها، فتعاقبها الآلهة بتحويل شعرها إلى ثعابين، وتقبح وجهها.

وهو ما يعود بنا إلى فكرة الفضيلة التى تتبناها حكاية «النداهة»، وأخواتها، التى ترى الجمال عدوا يستوجب الفرار منه أو عقابه. وقد أفرد «سيجموند فرويد» كتابا بعنوان «رأس ميدوزا» ربط فيه قطع رأسها بالإخصاء، وكأن عقاب الجمال الأنثوى هو فى النهاية حرمان للرجل. ويرى البعض «ميدوسا» كرمز أنثوى حسى، مقابل أثينا ذات الطبيعة الروحية. وحسب الأسطورة فبعد قطع رأسها خرج من جسدها الميت كائنان مجنحان كرمزين للتسامى.

«مصيدة الجمال»

وكلها حكايات تكشف عن تعقد المشاعر الإنسانية حيال الجمال، وخصوصا الأنثوى منه. وسنجد أنه ضمن الحيل الست والثلاثين فى التراث الصينى، والمنسوبة إلى الجنرال «تان داوجى» هناك حيلة «مصيدة الجمال»، وتقع فى بداية الفصل السادس المعنون بـ«الحيل اليائسة»، وتوصى بإرسال النساء الجميلات إلى قيادة معسكر الأعداء، حيث سينشغل القائد عن التخطيط والمتابعة من ناحية، كما ستدب الغيرة بين مساعديه من ناحية أخرى، فيقل التعاون بينهم، وتضعف روحهم المعنوية، وأخيرا سيؤدى ذلك إلى غيرة نسائهم، اللاتى سيبدأن بحيك المؤامرات.

 

الجمال والموت


العديد من الأعمال الفنية الحديثة تناولت فكرة الجمال القاتل مثل فيلم «غريزة أساسية» لشارون ستون، ولوحات الفنان البرازيلى «خوسيه ديل نيدو» الذى تجمع نساؤه بين الفتنة والاستعداد للقتل. كما تبدو رواية العطر لـ«بارتريك زيكوند».


أما عن خطورة الجمال على الجميلات، فقد قدمها الفيلم الإيطالي «ميلينا» وأجمل ما قدم الجمال فى ذاته كقاتل بريء، هو مشهد من الفيلم التونسي الفرنسي «صيف حلق الوادى» للمخرج فريد أبو غدير، الذى لعب فيه الفنان جميل راتب دور الرجل الوقور الصالح والكريم، الذي تتيح له الصدفة أن يطلع على الجمال الفاتن لفتاة صغيرة، فيتشتت عقله، ويخرج عن طباعه، ويسعى لابتزازها باسترداد البيت الذى تقيم فيه مع أسرتها. وهنا تقرر الفتاة إنقاذ عائلتها، فتذهب إليه مستجيبة، لكنها تكشف كامل جمالها أمامه بحركة واحدة، فيعجز عن التحمل، ويخر صريعا فى الحال.