بين توجُّه الحكومة وغياب النقد الموضوعى.. الفن التشكيلى الأردنى خلال عقدين

لوحة  للفنان: جهاد العامرى
لوحة للفنان: جهاد العامرى

دلندا الحسن

شهدَت مرحلة التسعينيات نشاطًا مغايرًا فى مجالات الفنون عبْر إسهامات المؤسَّسات الأهليّة حيث استطاعت بقدراتها الذاتيّة أنْ تُسهم فى تسويق العمل الفنّى الأردنى والعربى على حد سواء، واستطاعت أن تكرِّس قيمة اقتناء الأعمال الفنيّة كجزء من الاستثمار فى السلعة الثقافيّة

شهدَت حركة الفنّ التشكيلى الأردنى فى العقدين الأخيرين نشاطًا مميزًا فى مجالات الفنون كافة، ليصبحَ الفنّ محورًا أساسيًّا فى توجُّهات الدولة الأردنيّة لتنميته والنهوض به لتشييد حالة ثقافيّة متصاعدة، تتواكب مع متطلّبات الدولة المدنيّة، وكان للفن التشكيلى دور مهم فى المشهد الثقافى الأردنى الأمر الذى اسهم فى إعطاء صورة حضاريّة عن الأردن عبْر الفعل الفنى الجمالى. 


وفى البدء كانت البترا الأيقونة والحضارة النبطية وحضورها الطاغى على المشهد الفنى الأردنى، فالعرب الأنباط هم أول من أسس للوعى الفنى الجمالى مبكرًا فى المكان الحضارى من خلال بناء الحصون والقلاع والسواقى، وروعة جغرافية التكوين التى أثرت على البدايات الفنية التشكيلية فى الأردن بما فيها من ابداع وأصالة والتزام.


وتعود جذور الفن التَّشكيلى الأردنى المعاصر إلى عقد العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضى بعد تأسيس الإمارة فى العام 1921، من خلال الهجرات الفرديّة لبعض الفنانين الأجانب والعرب من لبنان وتركيا وروسيا وسورية، وفيما بعد من إيطاليا، ومنهم: عمر الأنسى، ضياء الدين سليمان، وإحسان إدلبى، وجورج ألييف الذى كان مرسمه يقع فى شارع السلط فى العاصمة عمّان، وفيه قام بتدريس مبادئ الرَّسم لبعض محبى وهواة الفن، واسهم الفنان رفيق اللحام فى تصميم العملة الأردنيّة وبعض الطوابع البريديّة.


وينفرد الفن التشكيلى فى الأردن بخصوصية لا يكاد يشارك فيها أى فن عربى آخر، ألا وهى تمازج واندماج الحركتين الفنيتين التشكيليتين الأردنية والفلسطينية، نتيجة لهجرة 1948، وحرب 1967، ومشاركة الفنان التشكيلى الفلسطينى مع الفنان الأردنى، حيث استقرَّت مجموعة من الفنانين الفلسطينيين فى الأردن وأسهمت فى إثراء حركة الفن التشكيلى الأردنى، ومنهم: إسماعيل شموط وتمام الأكحل وعفاف عرفات وسامية الزرو وجمال بدران وفاطمة المحب.

وعملوا على تطوير وتدريس مادة التربية الفنيّة لأول مرة ضمن المناهج التعليميّة الأردنيةّ، وفى العام 1952 جاء تأسيس ندوة الفن الأردنيّة، ويُعتبر هذا المنتدى أوَّل تجمُّع للفنّانين فى الأردن ومن بينهم: جميل مدانات، عبدالله السعودى، عيسى أبوالراغب روبيكا بهو، نعيمة عصفور وليلى مغنم، بعد ذلك، أسَّس د.حنا كيالى معهد الموسيقى والرسم فى عمّان بإشراف الإيطالى «أرماندو برون» ليلتحق به كل من مهنا الدرة ورفيق اللحام والأميرة وجدان على وسهى نورسى ونائلة ديب، وكان المعهد أوَّل بوادر مأسسة تدريس الفنون فى عمّان.


والفنان الأردنى الراحل مهنَا الدرة المولود فى عمَان فى العام 1938 هو رائد فن الرسم فى الأردن، واشتهر على نطاق واسع كونه أول من قدَم الفن التكعيبى والتجريدى. عمل الدرة فى السلك الدبلوماسى وكان رئيسًا لرابطة الفنون الجميلة وأستاذًا فى كلية التصميم فى الجامعة الأردنية.

والفنان الدرة أول أردنى يتلقّى تعليماً أكاديمياً فى الفن فى روما، وعرض نتاجه الفنى فى عدد من المعارض الفردية فى روما وفلورنسا والاتحاد السوفييتى وفى واشنطن العاصمة، وفى معرض بينالى البندقية فى عام 1988.


وأولت الدولة الأردنيّة اهتمامًا خاصًا بنهضة حركة الفن التشكيلى، ففى أواخر الخمسينيات من القرن الماضى تمّ إرسال مجموعة من الفنانين الأردنيين لدراسة الفن فى الخارج، منهم رفيق اللحام ومهنا الدرة وأحمد نعواش وكمال بلاطة وحنان الآغا، وفى العام 1966 تأسَّست دائرة الثقافة والفنون.

والتى أنشأت فى العام  1972 «معهد الفنون والموسيقى» بمبادرة من الفنان مهنا الدرة الذى ترأس إدارته، ومشاركة الفنان على الغول، والفنان محمود صادق، حيث أسهم المعهد فى تدريب ثلة من الفنانين الأردنيين، ورفد الساحة الفنية التشكيلية الأردنية بأسماء برزت وتركت أثرًا كبيرًا ومنجزًا يشار إليه بالبنان على المستويين المحلى والعربى.

وفى العام 1977 تأسَّست رابطة الفنانين التشكيليّين الأردنيّين والتى تضمّ مجموعة فنانين من الأجيال المختلفة، حيث نظمت مجموعة من المعارض التشكيليّة. وفى العام 1979، تأسَّست الجمعيّة الملكيّة للفنون الجميلة برئاسة سمو الأميرة وجدان على.

وأقامت الجمعية عدة معارض أردنية وأجنبية؛ لتقدم للمجتمع المحلى وعيًا مختلفًا فى طبيعة عروضه للفن العالمى، وبرزت فى تلك الفترة مجموعة من الفنانين منهم: كايد عمرو، عبدالرؤوف شمعون، عزيز عمورة، زكى شقفة، كرام النمرى، نبيل شحادة وغيرهم. 


وأسهمت الأميرة فخر النساء زيد فى تعليم مجموعة من سيدات المجتمع الأردنى للفنون حيث أنشأت مدرسة فى منزلها وهى معهد فخر النساء زيد للفنون الملكية الجميلة. استمرّ المعهد لمدة أربع سنوات من عام 1976 إلى عام 1980، فخر النساء فنانة تركية تركزت أعمالها على مزج عناصر الفن الإسلامي والفن البيزنطي من الشرق مع الفن التجريدي وغيره من المؤثرات الفنية من الغرب، تتلمذ فى معهدها كل من الفنانات: سهى شومان والأميرة عالية بنت الحسين، هند الشريف ناصر، أوفيميا رزق، جانيت جنبلاط، ماجدة رعد.


وشهدَت مرحلة التسعينيات نشاطًا مغايرًا فى مجالات الفنون عبْر إسهامات المؤسَّسات الأهليّة حيث استطاعت بقدراتها الذاتيّة أنْ تُسهم فى تسويق العمل الفنّى الأردنى والعربى على حد سواء، واستطاعت أن تكرِّس قيمة اقتناء الأعمال الفنيّة كجزء من الاستثمار فى السلعة الثقافيّة.


وففى عام 1992 تأسست دارة الفنون - مؤسسة خالد شومان والتى كان لها الدَّور الاحترافى الأبرز فى تقديم العروض الفنية العربية والعالمية، إضافة إلى مكتبة متخصِّصة فى الفنون التشكيليّة، وظهرت صالات عرض احترافية منها «جاليرى رواق البلقاء» و«جاليرى دار المشرق» و«الأورفلى» و«وادى فينان جاليرى» و«نبض» و«جاليرى رؤى» و«جاليرى جودار» و«جاليرى فخر النساء زيد»، و«جاليرى مهنا الدرة»، و«جاليرى رأس العين» التابع لأمانة عمّان الكبرى؛ الأمر الذى أدّى إلى تحوُّل مهمّ فى مسيرة الحركة التشكيليّة الأردنيّة. 


وظهرت فى السنوات الأخيرة الملتقيات الفنيّة كالملتقى الذى يقيمه «جاليرى رواق البلقاء» فى مدينة الفحيص بإشراف الفنان خلدون الداوود والفنان فادى الداوود، ويعمل الرواق على تعزيز الذائقة الفنية الجمالية من خلال تنشيط الملتقيات الثقافية الإبداعية فى المجتمع المحلى.

ويستضيف الرواق كل عام مجموعة من الفنانين من حول العالم لإقامة «سمبوزيوم» فنى منوع، أما «جمعيّة عرزال للثقافة والفنون» فى الأغوار الشماليّة تقيم ورشاً تدريبيّة متخصصة بإشراف الفنان محمد العامرى وفنانين عرب.


أغنت الملتقيات الفنية الجانب النَّظرى فيما يخصّ التَّجارب الفنيّة، وقد أسهمت تلك الملتقيات بإعطاء الفرصة لكثير من الفنانين الأردنيين للاحتكاك بالفنانين المشاركين الغربيّين والعرب، الأمر الذى انعكس على تجاربهم إيجابًا.

وحقَّقت الملتقيات مساحة مهمّة للحوار حول أسئلة الفن المعاصر ومصائره الجديدة فى العالم، ولمسنا ذلك من خلال التنوُّع البائن فى الاتِّجاهات الفنيّة حيث برزت أجيال فنية ناشئة درست الفن داخل الأردن وخارجه، وتناولت وسائل جديدة فى التعبير تنتمى إلى مرحلة ما بعد الحداثة، مثل التصوير الفوتوغرافى والرقمى، وفن الفيديو والإنشاءات الفراغية وفنون الأداء. 


وفى السنتين الماضيتين ظهر على الساحة الفنية تجمع فنى حديث تحت عنوان «دار آرت» فى العاصمة عمَان، حيث شاركت أعمال ما يزيد على 128 فنانًا وفنانة تشكيليًا وفوتوغرافيًا مستقلا من الأردن والدول العربية، بالإضافة إلى أعمال لفنانين من 15 «جاليرى» فنياً فى عمان. 


نلاحظ مدى التطور الذى طرأ على الفنون التشكيلية والبصرية فى الأردن، وانعكاسها على الحياة الثقافية والفنية فى المجتمع الأردنى ويعود الفضل لذلك إلى جهود الفنانين الأوائل فى تنمية الذائقة الفنية ونشاطاتهم المجتمعية. نستطيع القول إنَّ حركة الفنّ التشكيلى الأردنى استطاعت أنْ تتجاوز كثيراً من المعيقات.

ومن خلال توجُّه الحكومة الأردنيّة فى تطوير هذا القطاع المهمّ فى الثقافة الأردنيّة، إلا أن الفن التشكيلى الأردنى يعانى غياب النقد الموضوعى الجاد، وهو مهم لتقييم تجربة الفنان بشكل خاص والفن ومسيرته بشكل عام.

اقرأ ايضاً | مفلح العدوان يكتب : المسرح الأردنى بين المدرج الرومانى والمركز الثقافى الملكى!