الحرمان

رسم الفنان أحمد عبد النعيم
رسم الفنان أحمد عبد النعيم

رجل صعيدي يلبس الجلباب، أنيق في مظهره، يسرع الخطى إذا مشى، يبطئ الكلام إذا تحدث، يتقن اختيار الفاظه ويحسن مخارجها، أسمر البشرة جميل المنظر، هو من مدينة اسوان، ويعمل في التجارة، تعددت محلاته وبازاراته التجارية، وكثر العاملون معه، لكن يرى أن حظه قليل، إذ أنجب حتى الآن خمس بنات، ويكاد يموت شوقًا إلي الولد، لكي يحمل اسمه ويرعى تجارته ويرث عنه المال الوفير.

وكلما جاء خبر زوجته أنها وضعت بنتًا كانت تزداد سمرته سمارًا، وينقلب وجهه، وتزيل كلماته، وتندثر ضحكاته، وتبهت أحلامه وتنطفئ حذوة نفسه، فيكره دنياه ويسعي جاهدًا إلي أخرته، وكلما زاره طائف من أفكار شوقه إلي الولد بدأت الأفكار تتأرجح أمام عينيه، تتراقص وتتزاحم حروفها، حتي صار لا يطيق الصبر.

كثيرًا ما فاض صبره في كلمات ينطقها، ويقول يارب أين الولد، إما الولد وإما الصبر، فلم أعد أطيق الانتظار، فيثور علي زوجته ويحذرها إن لم تنجب الولد سيتزوج بغيرها، ولا تملك زوجته المسكينة غير الدموع سلواها في كل شئ، وكثيرًا ما شاركها بناتها البكاء فتصرخ مثلهن ويصرخن مثلها، فيسرع الأب علي صرخاتهن ويهرب من البيت، فتزداد صرخات الأم والبنات، وكلما ابتعد عنهن شعر بعاصفة صرخاتهن تدوي وتصم آذانه.

حملت زوجته واقتربت ساعة الوضع، الأم تبكي وتبتهل إلي الله تعالي أن يقيها شر الفراق وكسر فرصة البنات، وأن يجنبها التعاسة، وأن يجئ الولد حتي يهدأ روع زوجها وتستقر نفسيته، ويرضى عنها، وجاءت اللحظة وظهرت البشرى، وأنجبت المرأة ولدًا، حينها تعالت الزغاريد وذبح الأب الذبائح، وظل يوزع اللحوم والأموال للمباركين له، لكن يا أسفاه لم تنته الليلة السابعة إلا بخبر يناقض ويهدم كل ذلك، لقد مات الولد وانفجرت ينابيع الحزن في نفوس الجميع، وأغلق الأب الباب علي نفسه.

رفض أن يرى شمس النهار أو ظلمة الليل، حبس نفسه لا يتحدث مع أحدًا ولا يريد أن يرى أحدًا،  حتي جاءته زوجته ذات يوم بعد أن انفرد بنفسه ستة أشهر كاملة والمولودة الصغيرة علي يدها كانت باهرة الجمال، نظر اليها الأب فابتسمت له الصغيرة وارتمت في حضنه وراح هو في بكاء ونحيب يحتضنها بين يديه، ويطبع علي وجهها الصغير قبلاته، ثم نظر إلى زوجته ولا يدري، حتى ارتمى في حضنها وشعر برغبة جارفة إليها، فلما تغشاها حملت وبعد تسعة شهور وضعت توأمًا ذكورًا، فما كان منه إلا أن سجد لله شكرًا!