من دفتر الاحوال

ثمن الاختيار

جمال فهمى
جمال فهمى

الحياة اختيارات ولكل اختيار ثمن يدفعه الإنسان الذى اختار ، وقد يكون اختياره صائبا أو خاطئا لكنه فى أى من الحالين سيدفع الثمن ، أما قيمته وحجمه ، فهو أمر نسبى بحسب نوع الاختيار وما ترتب عليه من نجاح أو فشل مادى أو معنوى ، والثمن ربما يكون كبيرا وفادحا أو صغيرا وتافها ، اما نوعه فقد يكون ثمنا ماديا أو معنويا أو خليطا من كليهما معا.


حول هذا المعنى تدور مسرحية «الثمن» التى كتبها المسرحى الأمريكى الكبير آرثر ميلر (1915 2005) الذى يعد أهم وأبرز كتاب المسرح الاجتماعى فى الولايات المتحدة ، بل ومن أهمهم فى العالم كله خلال النصف الثانى من القرن العشرين.


المسرحية ربما تبدو مملة إذا أكتفينا بوصفها المتعجل والسريع ، إذ هى تخلو تماما من أى حدث أو خبطات مسرحية وعدد كل شخصياتها أربعة فقط ، اثنان منهما اساسيان يدور بينهما حوار وجدل ساخن جدا حول أحداث وافعال جرت فى الماضى ، فيما الشخصان الباقيان يبدوان من خارج الموضوع تماما ، لكنهما حاضران فى مشهد المسرحية الذى يدور كله فى غرفة واحدة وفى زمن واحد ، ومع ذلك فأن انطباع الملل يبدو أبعد ما يكون بمجرد أن ننغمس فى الموضوع الذى كرس له ميلر مسرحيته ، سواء ونحن نشاهدها على المسرح أو بمجرد أن نشرع فى قراءة نصها المكتوب.
شخصيات المسرحية الأربعة هم الشقيقان والتر وفيكتور، بالإضافة لزوجة الأخير وتدعى «إستر» ، فضلا عن تاجر الأثاث العجوز «سالمون» .. الجميع يدخلون الغرفة التى تدور فيها المسرحية تباعا ، أما اول الداخلين فهى إستر وزوجها فيكتور ، والباقيان يدخلون من بعدهما ، وبسرعة يدور الحوار بين الشقيقين اللذين يبدوان وقد أصبحا فى العقد السادس من العمر ، ونفهم أنهما يلتقيان للمرة الأولى من سنوات فى منزل والدهما الذى توفى ويريدان بيع أثاث المنزل للتاجر سالمون ، وسرعان مانفهم أن فيكتور كان رجل بوليس لكنه استقال من فترة طويلة لكى يبقى بجوار والده الذى أفلست تجارته فقعد فى البيت لا يأنس وحدته سوى ابنه المستقيل من عمله ، أما الابن الثانى والتر فقد استمر فى الدراسة حتى تخرج وصار طبيبا ناجحا.


بسرعة يتطور الحوار بين الشقيقين فنعرف أن فيكتور يشعر بأنه قدم تضحية كبيرة فى سبيل البقاء مع الأب ما أتاح الفرصة ل»والتر» كى يكمل تعليمه ويصير الطبيب الناجح الذى أصبحه .. باختصار ، هو يشعر ويقولها صراحة : أن فضله على أخيه واضح ولا يمكن إنكاره ، فلولا تضحيته ما استطاع هذا الأخ أن يحقق ما حققه .. إنه الآن يريد اعترافا بهذا الفضل ، بينما زوجته تنتظر أن يقدم والتر يد العون والمساعدة لأخيه ، وهو أمر بدا ممكنا جدا ، لو لم يحاول فيكتور بكلامه انتزاع الاعتراف من والتر بفضله عليه.


هنا تتصاعد سخونة الحوار بين الشقيقين بينما التاجر الذى يتابع حوارهما يبدو فى قمة المتعة والتسلية ، ويفاجئنا والتر بأنه لا يعترف لأخيه بأى فضل ولا يراه قدم أية تضحية ، بل يراه فعل أمرا لا لزوم له على الإطلاق ، وان دافع فيكتور لما فعله كان فشله وكسله ، وأنه اخترع حكاية التضحية هذه لكى تكون مجرد شماعة يعلق عليها حقيقته كخائب وكسول.
تستمر المبارزة الكلامية بين الأخوين وتنتقل من السخونة الى الاشتعال ، ولكننا نكتشف فى النهاية أن كليهما يعيش حال تعاسة حقيقية ، فلا الناجح فى حياته العملية سعيد رغم ما حققه من بحبوحة وسعة فى العيش، كما أن فيكتور البائس طبعا غير سعيد .. كل منهما دفع الثمن.