حسن محمود قرنى يكتب : تحولات الأدب الصومالى

حسن محمود قرنى
حسن محمود قرنى

لقد احتل الأدب مكانة بارزة عند المجتمع الصومالى فى مختلف مراحله وأجياله، فكان خزينة حكاياتهم وقيمهم وسجلات تاريخهم وتراثهم ومتاحف بطولاتهم وحِكمهم والمحرك الأول لشعب عشق الأدب، وظل شفهيا ينقل الأخبار بالأشعار.

وقد قُرن الأدب صوماليًا بالنضال والدفاع عن المقدرات والثوابت الوطنية حيث لا يوجد- عبر التاريخ- كفاح وطنى خاليًا من «أدب المقاومة» وشعراء بارزين حوّلوا الأدب إلى أسلحة فتاكة واستطاعوا تخليد قضيتهم عبر قصائدهم.

وبل كانت المقاومة تأخذ طابعًا وطنيًّا ودينيًّا قويًّا فى مشاعر المجتمع بضمّها عظماء يتقنون الأدب ومخاطبة الشعب بأشعار يحرك وجدانهم. ومن الأمثلة الشهيرة فى هذا المضمار السيد محمد عبد الله حسن الأب الروحى للحرية الصومالية الذى كان شاعرًا فحلاً أتقن أبواب الشعر وأغراضه واستخدمه لصالح قضيته.


ولاحقا وفى سنوات الكفاح المسلح ضد الحبشة المحتلة على الإقليم الصومالى (أوغادين) ظهر شعراء بارزون ناضلوا بقصائدهم مثل طودان (١٩٤١- ٢٠١٣م) الذى يعتبره البعض أنه ينتمى موهبة وإبداعًا إلى طينة العظام الذين عاشوا فى العصر الذهبى للشعر الصومالى (القرن الثامن عشر، التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين) وإن تأخر زمنه.

وكذلك الشاعر المناضل هيلالى صاحب الملاحم الشعرية والقصائد الحماسية، ومثلهما الشاعر الإسلامى أبشر بَعدْلِى الذى دافع بقصائده ثوابت الدين فى زمن كان الملتزمون يعيشون بغربة حقيقية فى وسط مجتمعهم.

لقد ركز الشاعر على ترسيخ القيم الإسلامية ومحاربة العادات الضارة الوافدة، ولا أنسى عبد الرزاق وأن لم يكن معروفا مثل هؤلاء إلا أنه كان شاعرًا عبقريًّا يحمل حسًّا إسلاميًّا فى أبيات قصائده الملتهبة.


والسيد ورفاقه الأشاوس استخدموا كافة أنواع الأدب وخاصة الشعر لإلهاب العواطف وبث الحماسة ونشر فضائل المقاومة ومدح أبطالها وذم المتخلفين عنها، والحث على محاربة المحتلين، وهجو أذيال الاحتلال والمتقاعسين حتى باتت أشعاره أحاديث السُّمار وحكايات الركبان وحقلا خصبا ساعد الكتاب والمؤرخين لفهم الدراويش وأيديولوجيتهم.

وبعد مئات السنين من بدء شرارة جهادهم ضد الطغيان الأوروإفريقى أما زال الصوماليون يحفظون أيامهم ويعرفون تاريخهم ويصونون تراثهم ويتبادلون حكاياتهم ويعشقون بطولاتهم ويسردون تفاصيلهم.

وما ذاك إلا لقوة الشعر وجزالته وجذوة الأدب المتّقدة فى نفوسهم حتى تعلقوا بأبطال الدراويش ومآثرهم، وصار إسماعيل مرى وحسين طقلى وآخرون أيقونات وطنية وقامات أدبية وقيادية بارزة، ولو لم تكن الأمة تتذوق الشعر وتمتلك حسًّا جمعيًّا يحب الأدب لكان ماضى الصومال يختفى وراء تتابع طبقات التاريخ وطيات النسيان.


ولقد اهتم الصوماليون فى تاريخهم بالشعر وجعلوه ذروة إنتاجهم الأدبى، وحظى بمكانة لا تصل إليها جميع أنواع الأدب، فالشعر ديوان حاضرهم وماضيهم، وسجل أهم الأحداث، ونقل إلينا جانبًا من سلوك الأجداد ويومياتهم المترعة بالتنقل ومقارعة النصارى فى المشرق الإفريقى.

وربما أن للأدب سطوته كانت القبائل تهادن وتتصالح وتتصارع وتغير بعضها على بعض خشية الهجاء وأن يخلد ذلك فى الذاكرة الأدبية لمجتمع لا ينسى الأدب ويحفظ الشعر مهما تقادم عهده، وهكذا صار الأدب بشتى صنوفه العنوان الأبرز للمجتمع حتى لقب الصوماليون بأمة الشعر.

وحافظ الشعر على هويتهم وخصائصهم وحمل قصائد مشبعة بالوطنية والولاء والاعتزاز بالموروثات والذات. ولم يكن من السهل ترميم الهوية الصومالية بعد أن قسم الأرض إلى خمسة أقاليم تخضع للاحتلال إلا بوجود أدب مترع بأشعار وأغانى ومسرحيات عابرة للحدود الوهمية.

وترسخ فى الوجدان وحدة الأمة وإن تقاسمت الآلام والمرارة واغتيال الأمل وراء قضبان الحدود ومخرجات مؤتمر «برلين».


ورغم المحاولة الاستعمارية الجادة لتضييق الخناق على الأدب الثائر وإغراق الشعب بالدوغما الفكرية إلا أن الأدب كان جامحًا بعيدًا عن المحتل ومزاجه الغثائى فكان سلاحا فتاكا واجه به الصوماليون الترويكا الأوروبية (فرنسا، بريطانيا، إيطاليا).

وأجبروهم على الرحيل. وبعد الاستقلال بدأ الأدب ينتعش ويحرك الجموع الصومالية الظامئة إلى الحرية، ومن الشعراء الذين برزوا فى تلك الحقبة الشاعر عبد الله سلطان تمعدى الذى ظل معلما من معالم الحرية فى ربوع «الصومال الكبير».


بعد ثورة أكتوبر عام ١٩٦٩ وجد الأدب اهتمامًا خاصًّا من الحكومة الصومالية فبنت المسارح وشكّلت الفرق الموسيقية وشجعت الكتابة باللغة الصومالية واعتمدت على الحرف اللاتينى، وانغمس الناس فى الفن الغنائى فأخذ دور الشعر يتضاءل فيما كانت المسرحيات والأغانى تسيطران على المشهد الأدبى.

ويعزى هذا إلى جغرافية الدولة الوليدة التى لم تستطع ضم أقاليم تعتبر منبع الأدب الصومالى، إضافة إلى الحكومة التى كانت تشجع على الأغنية والمسرح على حساب الأدب التقليدى، ولا ننسى الدور التحفيزى والامتيازات التى كان ينالها من يكتب أو يلقى قصيدة عن تمجيد الثورة و«الجيش الأحمر» والاشتراكية العلمية.

ومن هنا ابتعد شعراء بارزون عن الساحة خشية من «الرقيب الأحمر» وصونًا لقدسية الشعر ومسئولية الكلمة. وعموما كان الأدب فى تلك الفترة يخدم ثورة أكتوبر وأهدافها لذا كان يبعد عن النصوص الخالية عن الرموز الماركسية والإيحاءات الاشتراكية وتمجيد الشيوعية عن الأثير والمجالس الثقافية والمعاهد العلمية والجامعات والمدارس.

أما النص الذى يدعو إلى اعتناق الاشتراكية العلمية التى تحرر العباد من طغيان النيوليبرالية والرأسمالية المتوحشة – حسب سرديات الشيوعية – فكان يجد رعاية الدولة.


لقد حاول عرّابو الاشتراكية الصومالية تدجينَ الشعب وتوجيهه على نحو يقرّب المجتمع إلى الثقافة الشيوعية وبقوالب محلية وأسلوب يدغدغ مشاعر البسطاء، فكانت خطب الرفيق «سياد برّى» فى بداية حكمه رنانة وذات نغمات وطنية وقومية حالمة يجملها صوت جهورى وحبال صوتية عميقة وأبيات شعرية مفعمة بروح الثورة والكفاح وتحقيق أحلام طالما لامست عقول الصوماليين وقلوبهم دون أن تتحقق على أرض الواقع.

وكانوا يرونه مجدد مآثرهم وموحد وطنهم، ولكن لم تدم هذه التوقعات وانكشف زيف الماركسية عندما مارس الاستبداد وحاول إبعاد الدين عن المسرح السياسى وتطبيق المادية التاريخية وتفسير النصوص الدينية حسب مزاج الدولة.

وبما أن الدين يشكل هوية جامعة فى القُطر الصومالى كانت المساجد أكثر تأثيرا من المسارح والإعلام الحكومى، وكانت تغسل «أدران الاشتراكية» المستبدة وتدعو عبر أساليب تقليدية إلى تطبيق الشريعة والعودة إلى الوحيَيْن لرسم طريق جديد يوصلنا إلى سعادة الدارين بعد أن جربنا الديمقراطية الرأسمالية والشيوعية الإلحادية.

وكان الشعر الدينى والطرق الصوفية وبعدها الحركات الإسلامية تسهم فى بناء وعى جمعى يقاوم ضد الأفكار الوافدة «النفايات الأيديولوجية» ويرسخ المفاهيم الإسلامية.


وبعد سنوات من جهد الدولة ظهر على الساحة أدباء وشعراء تأثروا بنظريات چدانوف الثقافية وتشبعوا بالمبادئ الماركسية بعد أن درسوا الفن والأدب والمسرح فى الصين والاتحاد السوفيتى وكوبا وغيرهم من الدول اليسارية.

وكانت الفترة الذهبية لهذا الجيل السنوات العشر التى تفصل بين وصول العسكر إلى الحكم وحرب ١٩٧٧م الذى أدى إلى هوّة لم تستطع الأطراف – الصومال والدول الشيوعية – ردمها أبدًا، ومن الشعراء البارزين الذين انحازوا للاشتراكية وتبنوا مبادئها بل وجعلوها من صميم التقاليد الصومالية حاج آدم أفقلوع.

ويعتبر الشاعر الأديب الراحل عبد القادر حرسى يميم من فطاحل الشعراء الذين مجدوا الاشتراكية فى أشعارهم، وكذلك لا ننسى أغانى عبدى محمد أمين الشيوعية، وغيرهم كثير فى حقبة كان الإنتاج الأحمر رائجًا فكرة وسلاحًا.

وفى هذا الصدد أردت ترجمة نصوص الشعراء ولكن لم أتجاسر ولم أتحمس أن أترجم أشعار الأدباء ونصوصهم لأن «الشعر يضيع فى الترجمة» – كما يقول المختصون فى هذا المجال – ويفقد كثافته وكثيرًا من جمالياته ومعانيه ومضامينه.


وأخيرا ابتعد اليسار وترك الصومال يواجه مسيره، وبعد أن جرف تيار الحاجة الصومالَ نحو الرأسمالية لم يصمد «الأدب الأحمر» أمام الأدب الرأسمالى المتدفق على الوطن بأفلامه ورواياته المكتوبة وأغانيه ومسرحياته المدعومة بالمؤثرات إلى أن انحسر واختفى سحره نهائيا عن الخارطة الثقافية.

ورغم ذلك كانت للفلسفة الماركسية تأثيرها الواضح على مثقفى وأدباء الصومال وإفريقيا عمومًا فى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وكان الأدباء الصوماليون ضمن آلاف من كتاب وأدباء إفريقيا الذين ناصروا الفكر الماركسى.

ورأوا أنه يناصر القضايا العادلة ويناهض التمييز العنصرى والطبقى ويرفض العبودية ويوزع الثروة بطريقة عادلة. لذا تغلغل فى جميع المستويات وبات البلد مشبعا بالمفاهيم والمظاهر الاشتراكية على نحو جعل «مقديشو» موسكو صغيرة.


ورغم ابتعاد الصومال عن التيار السوفيتى بعد هزيمة الصومال الغربى، ونهضة الفن الغنائى والمسرحى الذى فاز فى مناسبات كثيرة فى إفريقيا، وظهور كتّاب تجاوزت شهرة أعمالهم الأدبية حدود الوطن إلى العالمية مثل نور الدين فارح.

إلا أنه وكغيره من الأدب والفنون الإفريقية كان ضحية للحروب الثقافية مما جعله أدبًا هامشيًا لم يجد إنصافًا من الدوائر الثقافية العالمية التى يهيمن عليها الغرب الغارق بالتنميط.

اقرأ ايضاً | القومي للترجمة يعلن عن الفائزين بمسابقة فؤاد حداد