خيرى بشارة يكتب: الكبرياء الصيني

خيرى بشارة
خيرى بشارة

فجأة تيقظ بقوة داخل عقل آدم وللمرة الأولى بعد اختفاء الأب، الشعور بأنه شخص واحد، ولكن بهوية مزدوجة. تدافعت تفاصيل حياته فى يقظته التائهة؛ وفى منامه الذى أصبح يفيض بأضغاث الأحلام.


لم يكمل دراسة الطب، وتوقف فى منتصف سبعينيات القرن الماضى لأسباب لا يحترمها الآن؛ لأنها تعبر عن افتقاده العزيمة القتالية الضرورية لمواصلة الحياة.


وما زال يتذكر جيدًا كيف بدأ ينفر من الجامعة، بعد أن امتدت الجماعات المتطرفة إلى ساحتها، وأخذت تبث الرعب والإقصاء.


وتذكر أنه أصيب بالغثيان والدوار فى أول درس تشريح على جثة حقيقية لامرأة متوفاة فى أواسط العمر، وفى نهاية اليوم الدراسى حين ذهب مع زملائه إلى مطعم الكباب الشهير فى القصر العينى تذكر كيف عاوده الغثيان ثانية؛ فلم يستطع أن يكمل أكل اللحم؛ واندفع إلى الحمام ليخرج ما بجوفه، وربما كان ذلك بداية نفوره من أكل اللحوم عمومًا وتحوله بعد سنوات إلى كائن نباتى.


ومن خلال نفس الفترة بدأ شغفه بالسينما؛ رأى أن سحرها يكمن فى الخلود، فمعظم نجوم الأفلام الأبيض والأسود القديمة قد رحلوا إلى العالم الآخر، ولكنهم ما زالوا أحياء داخل العوالم الخيالية للأفلام؛ نسمع أصواتهم ونحس بأنفاسهم؛ وتشدنا عيونهم وتأخذنا حيويتهم؛ ونجد أرواحهم لم تغادر أجسادهم.


وحين انخرط لبعض الوقت فى دروس اليوجا؛ وبدأ يمارس طقوسها اليومية، صفا ذهنه بصورة مدهشة لم يعهدها فى نفسه من قبل، عدا المرات التى كان يزوره فيها كابوس يرى فيه فحص الجسد العارى للمرأة المتوفاة خلال أول درس تشريح.


وقع آدم فريسة هلاوس تمزج بين الجنس والموت. وأدت حالته الفريدة التى جمعت بين نقيضين: صفاء الذهن فى اليقظة، وكابوس الجسد العارى فى المنام، إلى توقفه نهائيًّا عن اللهاث اليومى وراء الأمور الدنيوية الاعتيادية.


وصارت أحلامه الصغيرة والكبيرة تقع تحت الاختبار، وساوره الشك وعدم اليقين فى قيمتها وجدواها، بدأ يلتهم كتب الأديان والفلسفة وعلم النفس علَّه يجد فيها ما يعينه على فهم حياته، وقادته محاولاته لفك طلاسم الذات وشفراتها إلى مواجهة حتمية مع الأسئلة الوجودية والميتافيزيقية.

وأدرك بما لا يدع مجالًا للشك أنه لابد من أن يعيد حساباته؛ ليقرر وحده طريق الحياة الذى يريده لنفسه رغم الصورة الغامضة الملتبسة لهذا الطريق. 


وسأل: هل كانت رياح التغيير المسمومة التى بدأت تهب على جسد وعقل مصر خلال النصف الثانى من سبعينيات القرن العشرين ونخرت فيهما، هى المسئولة فى الأساس عن مخاوفه الغامضة ورغبته فى الهروب حين قرر أن يكون راهبًا، أم أنها الأشواق إلى حياة الزهد والتقشف التى تعلمها من دروس المسيحية؟
مثل غيره من المصريين، صدمه خطاب ألقاه الرئيس الراحل محمد أنور السادات فى يناير ١٩٧٢ برر فيه عجزه عن الوفاء بوعده بأن يكون عام ١٩٧١ هو عام الحسم الذى تندلع فيه حرب استرداد الأراضى التى احتلتها إسرائيل عقب نكسة 1967.


يومها تحدث السادات عما أسماه عام الضباب الذى جاء جراء نشوب الحرب بين الهند وباكستان، وانشغال حليفنا الاتحاد السوفيتى بها مما أعاقه عن تقديم المساعدة لمصر.


مثَّل الخطاب صدمة للشعب الذى أحس أن آماله وطموحاته تتهاوى، كما تأزم الشباب وشعر الجميع بالاحباط؛ وسرعان ما تحول هذا الاحباط إلى غضب عارم أجَّج الحركة الطلابية فى الجامعات؛ وأوجد تحديات اتسمت بجسارة لا تهاب النظام، وكشف عن روح ثورية عالية.


وصلت انتفاضة الطلبة إلى بيت السادات نفسه، واستمرت المواجهة معها ملتهبة لا تهدأ، وبدت الحركة الطلابية فى مصر كما لو أنها تستلهم شعار: «كن واقعيًّا واطلب المستحيل» الذى كان أحد أبرز شعارات انتفاضة الشباب فى مايو ١٩٦٨ التى زلزلت فرنسا وامتد تأثيرها إلى كل العالم.

ولم يخمد ذلك التأثير بعدها قط، حتى تخيلنا أن عالما قديما بدأ يتصدع وفى طريقه للانهيار وهو يفسح الطريق لعالم جديد ينتصر للشباب.


وتمنى آدم لو انخرط وسط هذا الحراك، ولكنه خاف بسبب ما استقر فى عقله وقلبه من مخاوف بشأن العمل بالسياسة؛ فالسلطة تتحجج عند الضرورة بوجود عناصر أجنبية متآمرة تقف خلف كل الاحتجاجات والتظاهرات.


وفيما بعد، سوف يتخلص من الإحساس الذى لازمه بأنه قد خان الجيل الذى ينتمى إليه، وسوف يجد أنه كان محقًّا فى توجسه وحذره الذى طالما أرَّق مضجعه.


وتعلم بالخبرة أنه ليس بالضرورة والحتمية أن يلعب البشر نفس الأدوار بنفس الطريقة لتكون مساهمتهم فى التغيير صائبة وذات فائدة وقيمة؛ فالمساهمة يمكنها أن تكون فى الخفاء، غير علنية، وغير معلن عنها فى أى وقت من الأوقات.


وفى تلك الفترة كانت هناك ثلاثة أسماء داخل الحركة الطلابية تثير إعجابه قبل أن يبتعد تماما ويحذر من الاختلاط بالطلاب الثائرين؛ أول هذه الأسماء أحمد عبد الله رزة الطالب بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية الذى كان زعيمًا وقائدًا بارزًا داخل الحركة، وفوق ذلك كله المتهم الأول فى محاكمات النظام للطلبة.


انبهر آدم بخطبه النارية كخطيب مفوه يمتلك كاريزما قوية، كان يراه كل مرة بقوامه الممشوق ملتفحا كوفيته الحمراء الشهيرة التى لا تخفى ملامحه الوسيمة، المزينة بالنمش، باختصار كان الكبرياء والشموخ يطلان من روحه ويصبغان شخصيته الآسرة. 


وأما الثانية فهى سهام صبري؛ زهرة الحركة الطلابية، وطالبة كلية الهندسة التى تمتعت بموهبة خطابية عالية إلى جانب جسارة نادرة، كانت فتاة لا تخاف وذات تأثير طاغٍ، لدرجة أن آدم أحس فى لحظة أنه قد وقع فى غرامها؛ فقد جمعت بين الجمال والثورية وقوة المواجهة.


وكانت أميل إلى الطول، لها عيناها زرقاوان تومضان بالذكاء وبشرة بيضاء ناصعة، تمشى وتترك شعرها البنى الفاتح يمرح خلفها مسدلًا على كتفيها.


كثيرًا ما حلم بها آدم وهى تتحدث بصوت عالٍ وحماسة منقطعة النظير، كان يشعر أنها تمثل صوته المحبوس فى الأعماق وقد تحرر وصار مسموعا من الكون بأكمله.


وأما الشخصية الثالثة فكانت مثل الآخرين، مناضلة تحلم بتغيير العالم، لكن مصيرها كان أسوأ، انتمت إلى حزب العمال الشيوعى المصرى الذى تأسس فى ٨ ديسمبر 1969، وحين قرر آدم أن يبدأ ابتعاده التدريجى عن زخم الحركة الطلابية كله احتراما لهويته الملتبسة، اقتربت هى منه ذات مساء لن يتكرر.


وكان جالسا على مقهى ريش يشرب البيرة، ورآها تمر أمامه فتاة رشيقة القوام، ورقيقة الملامح، تقدمت منه خطوة وقدمت نفسها بصوت خفيض لكنه مفعم بالحماس:
أروى صالح
ثم جلست وشاركته الشراب، اخترقته عيناها اللتان تشعان بالعمق والخجل والذكاء إلى درجة هزته وأفقدته اتزانه.


سيطر حضورها الأخاذ على اللقاء القصير بينهما، بدت مميزة وفريدة إلى أقصى حد، وشعر عن يقين أنه لن ينساها إلى أن يموت، وتمنى أن تكون حبيبته وزوجته وصديقته فى حياته الثانية لو حدث وتحقق الأمل فى حياة جديدة.


وقالت إنها كانت تظنه فى البداية أجنبيًّا بسبب ملامحه غير المصرية، وتطمع فى انضمامه إلى حزبها، لكن آدم ارتبك حين عرف أن اسم عايدة هو اسمها الحركى داخل الحزب، واسم صفاء إسماعيل على هو اسمها الحركى خارجه، لم يتقبل الأمر برمته.


شعر كأنه يقابل دكتور جيكل ومستر هايد فى وقت واحد، أو كأنه فى صحبة فتاة تعانى انفصاما فى الشخصية، وفيما بعد انزعج بشدة من انطباعاته السلبية الساذجة والبلهاء، وقرر أن يتلاشى تمامًا ويهرب من طوفان تلك الحركة ورموزها خشية أن يضعف ويصبح واحدًا منهم.


وغير أنه فى قرارة نفسه تمنى أن يصبح بطلًا ويزج به فى السجن مثلهم، ليذكره أحمد فؤاد نجم فى قصيدة مثل «بكائية يناير» التى خرجت من زنزانته وعبرت أسوار المعتقل.

اقرأ ايضاً

ألبير كامى يكتب .. السقوط