أمير الصراف يكتب: منقريوس بن إبراهيم.. المستشار القبطي لشيخ العرب همام

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

تسلِّطُ هذه الدراسة الضوءَ على أحد أهمِّ أفراد رجال الإدارةِ الأقباط وعائلتِه فى صعيد مصر، فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر؛ وهو منقريوس بن إبراهيم المُكنّى فى بعضِ وثائقِ وحججِ المحاكم الشّرعيةِ بـ بولس منقريوس، وزيرِ الأميرِ همّام بن يوسف بن أحمد بن محمد بن همّام بن سبيك، وذراعه فى الإدارة.

تزامنَ اشتغالُ منقريوس فى إدارة الأميرِ همّام زعيم قبيلة هوّارة مع توّلُّد فكرة الدولة المستقلة فى الصعيد، والموازية للسُّلطةِ المركزيةِ فى القاهرة، ذاتِ الجَناحينِ المُتمثلينِ فى الوالى العثمانيِّ وشيخِ البلد؛ الّذى كان بِحوزةِ البكواتِ المماليكِ، واصطلحَ رفاعةُ الطهطاوى عليها جُمهورية همّام الالتِزامية التى كانتْ متراميةً بعمق الوادى منَ المنيا إلى أسوان، وهو السياق ذاته الذى تحدَّث عنهُ علماء الحملة الفرنسية فى شروحاتِهم عن دولة همّام؛ كونُها مشابهةً للجمهوريةِ الفرنسية، من حيثُ العدالة الاجتماعية والمساواة. 


وحرص همّام على توسيع إقطاعيته المترامية تدريجيًا، بعدة سبلٍ بعد تنصيبِه زعيمًا لهوّارة، ومصرّفًا لشؤون القبيلة، ومتحدثًا باسمها لدى الآستانة بإسطنبول وجناحى السلطة فى القاهرة؛ خلفًا لوالده، ممّا ألهمهُ فكرةِ الاستقلالِ عن السُّلطة المركَزِيّة؛ بفضل مواردِها الاقتصادية التى لا تنضُب وازدهارِ قطاعاتِ الزراعةِ، والتجارةِ، والصناعةِ؛ على رأسِها معاملُ استخراجِ السكر. 


وتأصلت رغبة هوارة فى الحكم الذاتى للأقاليم التى يعيشون فيها، قبل ميلاد همّام نفسه، وربمّا تكونُ هذه الأفكارُ عن أصولِ ونسب المماليكِ سببًا فى ألا يتقبَّل هوّارة فكرةَ الرّضوخ لحكم جناحيّ السّلطةِ المركزية سواءً الوالى العثمانيّ أو البكوات المماليك؛ فضلًا عن الجموح التقليديِّ نحو امتلاك السّلطة والنفوذِ، الذى يعد من التّطلعاتِ الموروثة لدى القبيلة، منذ استيطانِهم ببلاد الصعيد. 


نمتْ جمهورية شيخِ العرب وازدهرتْ فى الوادي، فى الوقتِ الذى كانتِ الدلتا والقاهرة والإسكندرية تعيشُ فى حالةٍ من الاضطرابات السّياسية العنيفةِ، وخللٍ فى الأمنِ العام، إضافةً إلى تراجعِ مستوى الحالة المعيشية للسُّكان بشكلٍ بائسٍ حسبَما يرصدُ الرّحالة الأجانب، بينما يتحدث الجبرتى تزامنًا مع ذلك الوقت.

عن وحداتِ إنتاج طعامٍ، يشغلها عشراتٌ من الطُّهاة وموردى السّلع الغذائيةِ، على اختلافِ أنواعِها؛ لإنتاج ثلاثِ وجباتٍ يوميًا لعابرى السّبيل، وضيوفِ شيخ العرب همّام، وهو ما يوضحُ مدى الرخاءِ الاقتصاديِّ والمعيشيِّ الّذى أوجدَته إدارة همّام لإقليم الصعيد. 


وأدارتْ دولةُ همّام الواثبة اقتصاديًا، والمستتبّة أمنيًا، والمتجانِسة اجتماعيًا، حكومةٌ على قدرٍ كبيرٍ من الكفاءة، نجحتْ فى استغلالِ الموارد المحلية والكوادر البشرية، ووظفتها لخِدمة تحقيق حلم همّام بمنطقةٍ ذات حكمٍ ذاتيٍّ تحت قيادتِه حتى وإن لم يُكتب لها الاستمرار طويلًا. 


أدارتْ طبقةُ التكنوقراط بحكومة شيخِ العرب همّام بن يوسف، الالتزاماتِ الزراعيةَ الكبيرة بآلياتٍ شديدة التعقيد، وبالغةِ الحنكة، وربمّا كان هناك نظام تشغيلٍ لدوائر الإدارة فى حكومة همّام؛ بنظام نوباتِ العمل، وتوزيعِ المهام، ونظام إجازاتٍ لتغطيةِ وإنجاز الأعمال المتعدِّدة والأعباءِ الكبيرة؛ التى كُلفت بها دوائر الموظفين.

خاصةً فى السّنوات الأخيرة من عهدِ همّام؛ فقد نشطتْ هذه الحكومةُ بموظفيها وتسلسلهم الإداري، فى إدارة إقليمٍ كبيرٍ يمتدُّ بطول الوادى بنحو 800 كيلو متر عمقًا من الجيزة إلى أسوان، جنوب مصر.


أوجدتْ حكومةُ التكنوقراط التى ترأّسها همّام اقتصادًا موازيًا، يتفوقُ على اقتصاد الدّولة المركزيّة، بل وينقذُ الحكومةَ المركزيةَ من الإفلاس، ويمدها بالمُؤن والغِلال والسّلع كلما استدعت الحاجة، وهيأتْ لهمّام الفرصةَ لتعزيزِ موقفِه السياسيِّ ونفوذِه سواءً فى المشيخَة أو لدى السُّلطان العثمانيّ، بهذه المنحِ المالية والقروضِ التى لا ترد، لخدمة مصالحِ همّام السّياسية. 


وفَّرت حكومةُ التكنوقراط مصادرَ تمويلٍ؛ لتسليح جيش همّام بالأسلحة، والمعدّات، وأجورٍ مُجزيةٍ للمماليك المستقرّين فى الصعيد من أصدقاء همّام، الّذين أُسندَت لهم مهامُ إكساب أبناء القبائل والمزارعين مهاراتِ القتال واستخدامِ السلاح؛ فى محاولةٍ لإيجاد رَدعٍ لأطماع القاهرة فى ثروات الإقليم شديدِ الثّراء، ولتوفير ردعٍ آخر من الأخطارِ الإقليمية. 


وربّما عملتْ دوائر الموظفين الواسعة، التى أدارت إقليم الصعيد فى عهد همّام، بتسلسلٍ وظيفيٍّ تصاعديٍّ؛ فقد تَزيدُ الصّلاحياتُ والأجورُ مع اكتساب المناصبِ، وازديادِ مهام الوظيفة؛ على أنَّ هذا التسلسلَ كان ينتهى عند همّام نفسِه، ووزيره منقريوس بن إبراهيم، برئاسةٍ مطلقةٍ لهمّام، وصلاحيات واسعةٍ لوزيره منقريوس بن إبراهيم، الذى كان جالسًا على قمَّة الهَرم الوظيفيّ، ومعهُ اثنينِ من عائلته، فى عهد همّام. 


ووثقَ همّام بن يوسف، فى منقريوس بن إبراهيم، وجعله ضمن دائرةِ صُنع القرار داخل هوّارة فى أيّام عُنفوانها، ونائبًا عنه فى إدارة الحكومة المؤلَّفة من طبقاتِ الموظفين والمباشرين، التى تديرُ وتباشرُ القطاعاتِ الاقتصاديةَ المختلفة فى الإقليم. 


أدى المستشار القبطى لهمّام مهامًا بالغةَ الحساسيّة فى تلك الفترة، المتزامنة مع صراعاتِ همّام مع طبقات المماليك، على رأسِهم على بك الكبير مدير المشيخة. كان لحاجب شيخ العرب حقوقُ الوكالةِ عن همّام بن يوسف فى بيع وشراء الأراضى.

وسدّاد الخراج والغلال للحكومة المركزية فى القاهرة، وربمّا جمعِ الجِزيةَ من سكّان الصعيد من المسيحيين، فضلًا عن مهامّه فى إدارة شؤونِ الإقليمِ مع همّام بن يوسف. 


توارثَ المسيحيون الأقباط، بعدَ الفتح الإسلامى لمصر سنة 642 ميلادية على يدِ القائد عمرو بن العاص، وظائفَ إدارةِ شؤون البلادِ المالية والإدارية على مر القرون والعقود. تغيرَ دور الأقباط فى إدارة الدولة.

وتسيير أمورِها؛ كما خضع لتوجُّهات الحكّام المسلمين، وولاة الأمورِ تجاهَ الأقليّة الدينية، ولم يكن إسنادُ المناصب الإداريّة تمثيلًا لسُّكان البلاد، بقدر ما هو استفادةٌ من خبراتِهم بإدارة بلادِهم، باختصارٍ شديد. 


وأما القرنان السابع عشر والثامن عشر الميلادي، فقد شهدا شهود سطوعٍ لعدةٍ أسماءٍ من طبقة التكنوقراط الأقباط من المباشرين؛ كان من بينهم المعلّم رزق، وزير على بك الكبير، الذى تبوأ عدّة مناصب، وكان علمُه بالتنجيم والفلك من أهمّ المهارات التى جعلته مقربًا من على بك، لدرجة أنّه لم يكنْ يتخذ قرارًا إلا بالرجوعِ إليه؛ كذلك الأخَوَان إبراهيم، وجرجس الجوهريّ؛ وغيرهم. 


ومن بين هؤلاء الكبارِ من الموظفينَ، الّذين اعتلوا قمة الهرمِ الوظيفيِّ فى حكومة همّام منقريوس بن إبراهيم، وزير همّام بن يوسف؛ بالتزامن مع وجود المعلّم رزق فى إدارةِ المشيخةِ مع صديقه وصفيِّه على بك الكبير، إن اختلفت نهاية كل منهما؛ فقد قُتل المعلّم رزق بيد محمد أبى الذهب بعد إزاحة على بك الكبير من المشيخة وموته.

وتُوفى منقريوس بن إبراهيم فى حياة همّام، فاستعان بشقيقه أسطاسيوس بديلًا عنه لشغل الفراغ الذى تركه منقريوس فى حكومةِ همّام، بعد أنْ وافتْه المنيّةُ بشكلٍ طبيعيٍّ فى مسقط رأسِه بقريةِ بهجورة.


ولم يحظَ الوزير بولس منقريوس بن إبراهيم بأيِّ ذكرٍ مفصلٍ أو مقتضبٍ بالمراجع الرئيسة التى تُؤرخ لهذه الحقبة كالجبرتي، أو المراجعِ المتّصلة بتاريخِ المسيحيينَ الأقباط، ودورهم فى الحياة السياسية والإدارية فى مصر فى القرنين السابع والثامن عشر الميلادي. 


واستهدفتْ هذه الدراسة إيجادَ معلوماتٍ مباشرةٍ ومحققةٍ، عن الوزير منقريوس بن إبراهيم، وأصوله العائلية، ودوره فى هذه الفترة المهمّة فى تاريخ مصر والصعيد؛ من خلال ترأّسه للموظفين والمباشرين بحكومة الأمير همّام بن يوسف.


وأيضًا تتبع أحفادِه وسلسالِ عائلتِه، منذُ سطوعِ نجمه فى حكومة همّام فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر؛ مع تتبع دور هذه الأجيالِ المتعاقبةِ فى الحياة العامة والسّياسيَّة.

والوظائفِ التى تبوَّأها خلال كلِّ عقدٍ أو حقبةٍ تاريخية، ومدى نفوذهم الاقتصادي؛ وكذلك الحياة الاجتماعيّة لهذه العائلة، من خلال صلاتِ النّسب والمصاهرة، وربطِها بالأحداثِ السياسيّة، وتغيّر أنظمة الحكم. 


وبما يتيح الفرصةَ لملءِ الفراغِ عن هذا الرجل، ودورِه فى هذه الفترة؛ الذى كان له دورٌ مفصليٌ ورئيسٌ فى إقطاعية همّام التى مدّ حدودها حتى ضمَّت الوادى بأكملِه، وأسّسَ لها جيشًا يزودُ عنها، بعد أن انتهى من وضعِ نُظمٍ لتنظيم مواردِها الاقتصادية، من خلال شبكاتٍ من الموظفين والمديرين؛ كان منقريوس وعائلته على رأسهم. 


المصادر 
وواجهنا فى اقتفاءِ أثر الوزير منقريوس بن إبراهيم صعوباتٍ تصلُ إلى حدِّ التعقيد، فأغلب المراجعِ التاريخية المتّصلة بتاريخ هذه الحقبةِ ذاتِ الزّخم والحوادث والاضطرابات، لم تمرّر منقريوس ضمن أسماءِ طبقة التكنوقراط الأقباطِ العاملين بخدمَة البكوات المماليك أو مشايخ العربان الحائزين على الالتزاماتِ الزّراعية. سَقطَ منقريوس وأفرادُ عائلته من التدّوين بهذه المراجع إجمالًا. 


وكان غياب المعلومات عن منقريوس بن إبراهيم، وعائلته فى مراجع ومصادر القرن الثامن عشر، هو المشكلةُ التى واجهتْها الدراسة، فى البداية، وكان يأخذُنا إلى فرضيّةٍ قائلةٍ إنّ هذا الرجلَ ربمّا كان موظفًا عاديًا، حظيَ ببعض الثّقة من همّام، فمنحهُ صلاحياتٍ إضافية.

وغير هذه الفرضية كانتْ تخفتُ أمام الإفاداتِ الواردة بشأن دورِ الأقباط فى إدارةِ إقليم همّام، كذلك التبجيل الذى يحْظى به هذا الرجل فى أديبات الهمّامية أحفاد الأمير همّام بن يوسف، الشفهية المتوارثة جيلًا بعد جيل. 


وهذا الغياب لمنقريوس وعائلته عن التدّوين فى المراجع المتّصلة بتاريخ هذه الفترة، لا يعنى بالضّرورة إسقاطَ ذكرِه، لهامشيته أو ضآلة دوره وعائلته، خاصةً أنّ هذه العائلة توارثَ أفرادُها رئاسةَ مصلحة فكّ الزمامِ فى العاصمة. 


ويبدو أنّ هذا الغياب مرتبطٌ بفكرة توجُّهات التأريخ وكتّابه، وكذلك وُلاة الأمورِ نحو الأقباطِ من جهةٍ، وهامشيةِ الصّعيد لدى هؤلاء المؤرخينَ من جهةٍ أخرى. نجد أنّ رجالَ الإدارة الأقباط فى العاصمة لم يحظوا بالسردِ الكافى بالمراجعِ إلا فى استثناءاتٍ معدودة.

ورغم حساسيّة أدوارِهم، وتعاظمِ نفوذِهم فى فتراتٍ كثيرة، كذلك فإن الصّعيدَ فى هذه الفترة أيضًا لم يحظَ بالذِّكر الكافي؛ أما التفاصيلُ المطوّلة التى ترد فى هذه المراجعِ المتّصلة عن الصعيد، كانت جزءًا من حوادثَ متعلقةٍ بالمركزيّة بالأساس.


اقرأ ايضًا

 دنيا «جاهين» الكبيرة