الجناح المصري لـ«شيطان باريس».. «الفن والحرية» تاريخ سيريالي فى منافي الذاكرة

من أعمال رمسيس يونان
من أعمال رمسيس يونان

كتب: رشيد غمري

كامل التلمساني، رمسيس يونان، جورج حنين، فؤاد كامل، وإنجي أفلاطون فى بداياتها، هم الأشهر ضمن أجرأ حركة فنية وأدبية فى تاريخ الإبداع المصري الحديث.  تواصلوا مع مدارس الفن العالمى قبل مائة عام، واختاروا السيريالية فى أوج تألقها. شاركوا بندية ضمن معارضها فى باريس. وكان نجاحهم سريعا، وخاطفا. لمعت جماعتهم مثل شهاب، عبر سماء الإبداع والثقافة العربية، وانطفأ سريعا.

لكن الأثر الذى تركوه ما زال حاضرا. وبسبب تمردهم، وسبقهم لعصرهم، عاشوا جميعا مصائر درامية، ومات أغلبهم فى المنافى. هى صفحة استثنائية، ومسكوت عنها من تاريخ الفن المصرى الحديث، اسمها «الفن والحرية». 

عندما غزا السيرياليون المصريون قاعات أوروبا
رسائل «بريتون» لجورج حنين تؤكد أهمية السيرياليين المصريين
هل تمتد جذور السيريالية للفن الفرعونى والقبطى؟
الجماعة المشاكسة بدأت نشاطها بعنوان «يحيا الهند المنحط»

ينظر البعض للسيريالية كفن غامض، ودخيل على الذائقة المصرية والعربية. ولا يعرف الكثيرون أنها كانت الحركة الوحيدة تقريبا التى ظهرت فى مصر بالتزامن مع الحركة العالمية خلال ثلاثينيات القرن الماضي؛ إذ كانت المدارس الأخرى تفد إلينا بعد عقود من ظهورها فى الغرب، وأحيانا بعد نهايتها. وهى لم تكن مجرد محاولات محصورة فى فعاليات محلية، ولكن شاركت ضمن معارض عالمية، ولاقت الاعتراف فى أهم قاعات باريس. وكان روادها المصريون على اتصال وثيق بأقرانهم فى أوروبا، وقد رأوا أن جذورها الأصيلة تتصل بالفن الفرعونى والقبطي.

فوق الواقع
المعنى الحرفى للسيريالية هو «ما فوق الواقع». ظهرت كحركة إبداعية فى فرنسا وبلجيكا خلال العشرينيات، وبلغت أوجها فى الثلاثينيات، واستمر تألقها خلال الأربعينيات. وهى تعتمد على اللاوعي، وإبداع العقل الباطن، وتدفق الأفكار والمشاعر دون ارتباط بالمنطق أو المتعارف عليه. كما اعتمدت على كتابات «فرويد» المتعلقة بتفسير الأحلام. كانت بمثابة ثورة على مستوى الأدب والفنون البصرية.

وهى لم تنشأ من الفراغ، فقد مهدت لها الميتافيزيقية، والدادئية، كما كانت رافدا مهما لتيارات تالية عليها. ويعتبر «سلفادور دالي» أشهر فنانيها، كما يعتبر «أندريه بريتون» مُنظِّرها الأول. وكان الأخير على اتصال وثيق مع الشاعر والكاتب المصرى جورج حنين مؤسس جماعة «الفن والحرية». تعارفا فى باريس حيث كان «حنين» يدرس، وصارا صديقين. وبعد عودته، تبادلا الرسائل، والتى كتب بريتون فى إحداها: «إن للشيطان جناحين، أحدهما هنا فى باريس، والآخر فى مصر». وكان يقصد شيطان السيريالية. وهو اعتراف بأهمية ما قدمه السيرياليون المصريون من أعضاء «الفن والحرية للحركة السيريالية العالمية.

«المحاولين»
لا يمكن الحديث عن «الفن والحرية» دون التطرق لجماعة سبقتها بنحو عشر سنوات، وكان أعضاؤها أول من اهتموا بالسيريالية، وهى جماعة «المحاولين». أسسها مجموعة من المصريين ذوى الثقافة الفرانكفونية، مع أجانب مقيمين فى مصر عام 1928. وكان أشهر أعضائها «جابريل بقطر» رئيس تحرير مجلة «الصورة» التى كانت تصدر عن دار الهلال باللغة الفرنسية. كما أصدرت الجماعة مجلة خاصة بالفرنسية اسمها «آن أيفور».

ووفقا للمؤرخ الفنى محسن البلاسي، فقد كانت نظرة الجماعة فى بداياتها لمصر استشراقية الطابع. ويبدو من بعض مقالاتهم أنهم كانوا ينظرون للمجتمع المصرى بشيء من الدهشة. وهو ما خفت حدته مع الوقت.

التاريخ المستعاد
ويرجع الفضل لمجلتهم فى تأسيس جماعة «كتاب مصر للتعبير الفرنسي»، كما أخذوا على عاتقهم رعاية المواهب المصرية، وتقديم صورة أكثر حقيقية عن المجتمع المحلي. وقدمت المجلة أعمالا للكاتب والشاعر السكندرى أحمد راسم، والذى يعد من أهم رواد الشعر المنثور فى العالم العربي. وكان «راسم» قاضيا، وملحقا ثقافيا لمصر فى عدة دول أوروبية، ومحافظا للسويس فيما بعد. كما كتب فيها كل من جوزيف حبشى وجورج حنين والذى سيقوم لاحقا بتأسيس جماعة «الفن والحرية». ومن المفارقات أن ينحاز أعضاء الجماعة وكتاب مجلتها للفلاحين والفقراء المصريين، وأن يدعو «إسكندر فهمي» أحد أعضائها إلى وقف تدريس اللغات الأجنبية، واستبدالها بالعربية المصرية. كذلك انضم يوسف العفيفى للجماعة، وهو من أدخل إليها تلميذه كامل التلمساني، الذى سيصير أبرز مؤسسى «الفن والحرية». 

أهم من أعاد التاريخ المجهول للسيريالية المصرية إلى الواجهة، هو الناقد والكاتب سمير غريب من خلال كتابه «السيريالية فى مصر»، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب. ولفت الانتباه إلى تأثير الحركة على مبدعى العالم العربي. وأعاد سرد صفحات مسكوت عنها من سيرة الثقافة المصرية القريبة، ضمن حقبة ازدهار وانفتاح، فى مرحلة تاريخية مفصلية. ومنذ صدور الكتاب تحركت فى النهر مياه.

وكلل ذلك بإعادة الاعتبار للسيريالية المصرية، من خلال معرض أقيم لها فى متحف «جورج بومبيدو» فى باريس فى الفترة من نوفمبر 2016 إلى يناير 2017، واشتمل على لوحات للسيرياليين المصريين. كما تضمن جانبا توثيقيا لتاريخ الحركة، وضعها فى سياق عصرها. وجرى التركيز على تميز الجماعة عن غيرها، وخصوصا جمعية محبى الفنون الجميلة، والتى كانت مدعومة من النظام الملكي، وتهتم بالمدارس التأثيرية والكلاسيكية والواقعية، المكتفية بمحاكاة الواقع.

مشاكسون
منذ لحظة تأسيسها نظر إلى «الفن والحرية» كجماعة مشاكسة. بدأت نشاطها ببيان تحت عنوان «يحيا الفن المنحط». وكان ذلك مناصرة للفنون الحداثية فى أوروبا، والتى اضطهدتها الفاشية والنازية، ووصفها هتلر بالانحطاط، كما حظر أعمال «بول كلي» وماكس أرنست» و«كاندينسكي» وآخرين. وهو ما جعل إحدى المجلات الفرنسية تصف البيان بأنه دفاع الشرق عن قيم الغرب. ودعوا عبر مجلتهم «التطور» إلى تبنى فن وثقافة جديدين، كما نددوا بتحالف النظام الملكى مع الرجعية ممثلة فى جماعة الإخوان المسلمين. وعلى المستوى الفنى تبنوا السيريالية، وتعمدوا كسر القواعد الفنية السابقة، فاتهموا بتقليد السيريالية الفرنسية، والانفصال عن الواقع المصري.

ولكن أحد أعضائها، وهو كامل التلمسانى تصدى للدفاع قائلا إن للسيريالية جذوراً فى الفنين الفرعونى والقبطي. كما اعتبرت بعض أعمالهم صادمة، خصوصا التى رسموا فيها الموتى، والأشلاء البشرية، للتنفير من الحروب.

ولم يكتفوا بذلك بل  سخروا من الفنون التى تكتفى بمحاكاة الواقع، وكتب جورج حنين: «ما من شيء عديم الجدوى كالواقع. فلماذا نبحث عن الحقيقة حيث لا توجد؟ إن العالم الحقيقى الوحيد إنما يكمن فى أنفسنا.

«وكان ذلك بمثابة دعوة للانطلاق بالكتابة والفن بعيدا لتنبع من اللاوعي. كما انتقدوا كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى رأوا أطروحاته للمستقبل مهادنة، وغير كافية. 

اقرأ أيضًا | 

الأفيال الصغيرة
إلى جانب الأعضاء الأكثر شهرة، ضمت الجماعة آخرين مثل موريس فهمي وآمى نمر وأنور كامل، وظهر الكاتب ألبير قصيرى ضمن أنشطتها، وكذلك الفنان راتب صديق. وجميعهم كانوا أصحاب آراء أثارت مخاوف أصحاب المصالح والاتجاهات المحافظة والإقطاعيين، فتعرضوا للملاحقة. أغلقت مجلتهم، فتحولوا للكتابة فى «المجلة الجديدة» التى كان سلامة موسى قد أسسها قبل سنوات. وسجن بعضهم، وهرب آخرون ليعيشوا فى المنافى، وليموتوا وحيدين. ولهذا كان آخر ما قاله جورج حنين لزوجته عند وفاته: «يموت أبناء الفيلة الصغيرة وحداء».

إنجازات
رغم كل الظروف والتحديات، وحتى بعد التجاهل اللاحق على مدى عقود لتارخ الجماعة، فإنه بوسعنا الآن أن نرى أثرها الكبير فى الثقافة المصرية. فالجماعة كانت قد توجت إنجازاتها بالمشاركة بالمعرض الدولى للسيريالية فى باريس عام 47، ووضعت نفسها على قمة المشاركة المصرية والتفاعل مع فعاليات الفن العالمي. وقد نظر لفنانيها كأنداد.

كما واصل أعضاؤها الكتابة، والإبداع من منافيهم. وأثرت أفكارهم فى أجيال لاحقة، وإن لم يبلغوا جموحها. كما ألهمت تجربتهم الفنية الكثيرين، وحركت الركود، وأثارت الأسئلة حول علاقة الفن التشكيلى المصرى الناشئ بنظيره العالمي، وبالتراث المحلي، ما أسفر عن حراك، أدى لتشكل جماعات جديدة تراوحت بين التأصيل والتحليق، ربما أبرزها جماعة «الفن المعاصر»، التى حضر بعض أعضائها فعاليات «الفن والحرية»، وتأثروا بها، ثم وجهوا لها النقد، وشقوا لأنفسهم طريقا حداثيا أكثر استلهاما للجذور. 

عودة للواقع
رغم التمرد والجموح، فقد هجر بعض أعضاء الجماعة - السيريالية لاحقا. لكنها بقيت ذات أثر فى تطوير لغتهم الفنية، ورؤيتهم للواقع. اتجه رمسيس يونان بعد السيريالية إلى التجريدية مواصلا التحليق بعيدا.

وضع رؤيته للفن فى كتابه «غاية الفن العصري». وحث الفنانين على التمرد الدائم، كوسيلة للإبداع. وعندما اضطر للخروج من مصر، واصل تمرده فى فرنسا، مطالبا بحرية بلاده. وعندما طرد منها أيضا عاد إلى مصر، وعانى من التجاهل، لكنه ترك تراثا من الفن والترجمة والكتابة التى رفدت الثقافة المصرية ببواعث التحرر والتقدم، رغم رحيله المبكر فى الثالثة والخمسين من عمره.

وعلى النقيض، توقف كامل التلمسانى مسائلا التجربة برمتها، وجدوى الالتحام بتيارات الحداثة. وشعر بالألم لأن لوحاته تلقى الحفاوة لدى طبقة الأغنياء، وتعلق فى القصور، ولا تعود بالنفع على الفقراء الذين انحاز لقضاياهم.

وهنا اتجه إلى السينما، وبدلا من اللوحة السيريالية أخرج وكتب أفلاماً واقعية، أشهرها «السوق السوداء»، و«الناس اللى تحت» و«موعد مع إبليس»، مواصلاً تمرده الاجتماعى، ما اضطره إلى الهجرة إلى لبنان، حيث بدأ من جديد، وعمل فى الإدارة الفنية مع الرحابنة، حتى رحل. أما تلميذته إنجى أفلاطون التى بدأت سيريالية، فقد خرجت من عباءتها، وشقت لنفسها طريقا، عبرت من خلاله عن هموم الناس، وقضايا المرأة والفقراء والمهمشين. وعاش «ألبير قصيري» الذى ارتبط لفترة بالجماعة فى باريس، وآثر ألا يغير غرفته الصغيرة فى بنسيون باريسى بسيط طوال عقود. وبقيت مصر موضوعا لأعماله.

السيريالية نفسها، لم تعد صرعة العصر، وتشعبت إلى اتجاهات وأساليب. وخرج الفن ما بعد الحداثى برمته من قوالب المدارس. مع ذلك تبقى السيريالية لحظة فارقة فى تاريخ التعبير الإبداعي، انفتح فيها على مجهول النفس البشرية وأغوارها.