على قديمو

سقراط و«زانتيب»

عبد الصبور بدر
عبد الصبور بدر

تبدأ القصة بظهور فتاة جميلة من الطبقة الراقية فى مجلس سقراط، تثير انتباه الجميع بوجهها الخجول، وعينيها الجريئتين ولسانها الذى لا يكف عن المجادلة، فتاة صغيرة فى الخامسة عشرة من عمرها، لا تتوقف عن لكم الشيخ بكلماتها الجريئة ومخالفته الرأي!

إنها «زانتيب» حسناء مجلس الفلاسفة التى جردت المعلم سقراط، من فضيلة الزهد، ليطمع فى احتكارها، أملًا فى أن يعوض حبه القديم من «أسبازيا» التى رفضته، وارتمت فى أحضان أحد السياسيين الأثرياء. 

وشاع الخبر فى أسواق أثينا، سقراط سوف يتزوج من «زانتيب».. سقراط الذى يسير حافيًا فى الشوارع بصدره العارى، وأنفه الأفطس، وعينيه الجاحظتين، وظله الثقيل أقنع البنت الرشيقة الغنية المتأنقة أن تقترن به.. كيف يستطيع الرجل «الكُبارة» ترويض المهرة الشهباء وهو أكبر منها بـ 40 عاما؟!

وفى الوقت الذى كان النسوة فى أثينا يتغامزن ويتلامزن على «زانتيب»، ربما ترجع عن قرارها، كانت «زانتيب» تؤمن أن زواجها من سقراط سوف يمنحها كل ما تريد من متعة عقلية، ويمكّنها من ثروة أفكاره، ويجعلها أسعد امرأة فى العالم لأنها تزوجت فيلسوفًا!

وفى بيت سقراط عانت بنت الأصول من الحرمان،  ومع أول قرصة جوع صرخت فى وجهه، وهى تلعن عقله وأفكاره وفلسفته التى لا يحصل فى مقابلها على « دراخما» واحدة تشترى بها قطعة حلوى، وكلما اشتعلت غضبًا، تضاعف بروده، وهو يتأمل ثورتها، ويدون ملاحظاته عن المرأة!

وحين أنجبت زانتيب، ظنت أنها قادرة على تغير مساره من أجل أطفاله الثلاثة، فى حين كان سقراط مشغولًا عنها بأحاديثه التى لا تنتهى حول الوجود والحياة والحب والخير والجمال!

ولم تستسلم زانتيب، ضاعفت من غضبها، لتتحول إلى عود ثقاب مشتعل، وفى المقابل كان سقراط مثل لوح خشب مبتل، كلما اقتربت منه انطفأت نارها، يواجه ثورتها العارمة بابتسامة، ويرد على تطاولها بحكمة.. لم ترغمه على مجاراتها..

لم يشتبك معها - ولو - مرة.. ولم يؤنبها بكلمة.. وكأن «زانتيب» خلقت لتتمرد،  وكأن الله خلق لها سقراط ليحتوى تمردها!

عانت الفتاة الشابة من انصراف زوجها عنها، وانشغاله برسالته، لكنها تعلقت برقبته، ولم تهجره، ظلت محتفظة بمكانها إلى جواره، تربى أطفالها، وتعبر عن سخطها منه -أمام الجميع- بعبارات لاذعة، ثم ترهف السمع لتنصت إلى الحكمة التى سوف يقولها، أو تنظر فى وجهه لتشاهد ابتسامته التى تحبها!

لمحته مرة يجلس وحيدا أحد أركان البيت ويبتسم، فأسرعت إليه تسأله بتجهم عن سر ابتسامته، قال  لها: «تذكرت حزنى وابتسمت»، فعادت إليها الطمأنينة وهى تقول: «حسبتك تبتسم لغير هذا».. كانت زانتيب تغار على سقراط، وكان سقراط يعرف كيف يتعامل مع غيرتها. 

وحين اقتاده الجنود إلى السجن لطمت خديها الناعمين وهى  تقول للنساء الذين تحلقوا حولها ليتشفوا فيها: لم ينهرنى قط، ولم يضربنى كما يفعل أزواجكن!.. وقبل أن يتجرع سقراط السم أمر تلاميذه أن يعودوا بها إلى البيت فأبت، وهى تدق على صدرها، وكأنها لا تصدق أنه يفضل الموت بعيدًا عن حضنها.