شيرين أبو النجا تكتب : ما تبقى لنا

محمد عنانى
محمد عنانى

برحيل العلامة محمد عنانى تُقفل أبواب فصل طويل من الرؤى والمناوشات الفكرية والأطروحات والترجمات، يغيب الكثير برحيله - ليس أقلها الشعور بوجود سند وقامة- لكن يبقى الكثير أيضا. ما تبقى لنا كان الشعور الذى سيطر على محبيه وتلامذته وأسرته فى العزاء الذى أُقيم فى مسجد عمر مكرم يوم 6 يناير. وما تبقى لنا كثير يفيض على كل نقطة فى مسار التطور الفكرى الذى حظى به تلامذته وأنا منهم.

حظيت بمحمد عنانى كأستاذ لمادة الشعر وأنا طالبة فى السنة الثالثة والرابعة، ومرة أخرى فى مادة البيبلوجرافيا فى مرحلة التمهيد لبرنامج الماجستير، ثم قضيت ثمان سنوات بعدها أشد الرحال صباح كل يوم جمعة لمنزله فى المهندسين. لم أتخلف أسبوعا واحدا وهكذا أنجزت تحت اشرافه رسالتى الماجستير والدكتوراة. 


كان قادرا على استيعاب تمرد الصغيرة التى أصرت أن تبحث فى مجال المسرح وحاول أن يثنينى عن ذلك بكل الطرق المقنعة. لم اقتنع ولجأت إلى رفيقة عمره نهاد صليحة التى كانت روحها جزءا من المسرح فأوجدت لى بابا للخروج.

وسأعمل على المسرح الشعرى- وكنت أريد العمل على مسرح العبث. فتح لى مكتبته ووجدت كنوزا عن مسرح العبث وبدأت رحلة القراءة ثم تنبهت أنه لم يتبق أى مساحة لإضافة الجديد. وعندما أخبرته بذلك ابتسم ولم يقل شيئا. لم أتنازل عن الفكرة فوجهنى إلى قراءة مسرحيات ت.اس.اليوت.

وبعدها أدركت أننى أميل أكثر إلى شعره. ألمح لى الراحل أن الدكتور ماهر شفيق فريد- علامة أيضا- قد أنجز رسالته عن اليوت. اطلعت على الرسالة ولم أجد أى مساحة للإضافة (من وجهة نظر طالبة تخرجت حديثا). وفى النهاية قررت أن أعمل فى مجال الشعر. 


وكان قد أدرك حبى للمسرح فعلمنى القاعدة الأولى. قال: «من يتمكن من فهم الشعر وتحليله يمكنه أن يكتب عن أى جنس أدبى آخر»، واتضح أنه كان محقا تماما، فحتى يومنا هذا لا يجرؤ سوى قلة من الطلاب على التخصص فى مجال الشعر.

وهكذا كان أول مقال أكتبه باللغة العربية- بتشجيع منه- عام 1988 عن المسرح وتم نشره فى مجلة المسرح التى كانت تصدر عن هيئة الكتاب. كان دائما يؤكد لى أهمية اللغة العربية وعظمتها، وعندما استخدم المفردة الخاطئة لا يتوانى عن تقريعى بشدة.

وكان عاشقا للغة العربية (ونابغة فى الإنجليزية) ونقل لى هذا العشق الذى لا يكتمل بدون المعرفة. لكن فى حضرة عناني- حتى مجرد المرور على مكتبه لإلقاء التحية- تبقى المعرفة مؤلمة، كشوكة تنغرز فى جسدي، معرفتى ناقصة بشدة.  


وتبقى من الراحل الكثير ومنه نصيحته فى بداية تعيينى معيدة بقسم اللغة الإنجليزية، ومفادها ألا أحبس أفكارى داخل أسوار الجامعة. وبتشجيعه بدأت الكتابة، وكانت الفرحة (المتحفظة) تبدو عليه عندما أقوم باطلاعه على مقال نُشر لي.

وعلمنى كيف أختار العنوان الملائم وكيف أبسط اللغة لقارئ غير متخصص. وعندما كنت أرفع المنصوب وأنصب المرفوع كنت أتلقى هجوما ساخرا لا يتوقف إلا عندما تظهر على وجهى ملامح التذمر.

وعلى الجانب الآخر، كان يقدمنى لمن يزوره فى مكتبه بالقسم أننى النابغة التى لا مثيل لها، فأنسى الهجوم الساخر وأستعيد ثقتى بنفسى. علمنى أنه لابد من اتقان الشيء أولا لأتمكن من كسر قواعده لاحقا وفيما عدا ذلك ليس إلا جهلا. 


وكانت رسالة الماجستير عن شعر ويستان هيو أودن بين الحربين، ويبقى هذا الشاعر هو حبى الأول. ثم قررت فى رسالة الدكتوراة- بإيعاز من مشرفى- أن أتناول شعر ويليام وردزورث وبالتحديد عن مفهوم الذات فى الزمن كما تجلت فى قصائد ديوانه الأول.

وأعتقد أن ما تعلمته فى هذه الفترة يشكل جزءا كبيرا مما أستند عليه الآن. فمفهوم الذات ليس بالسهولة التى يظنها الكثيرون ومن ثم يتم استخدامها بشكل يعمل على تسطيح المعنى، أما الزمن (وليس الزمان كما تعلمت) فقد دفعنى الراحل إلى القراءة عنه كثيرا.

وفى عدة مرات شكوت له صعوبة ما أقرأ بسبب اللغة الفلسفية المجردة فكان رأيه أن أكملى وسوف تفهمين كل ذلك فيما بعد، وكان ما يدهشنى دائما هو قدرته على شرح أكثر المفاهيم صعوبة بشكل واضح وبسيط. فلا أنسى شرحه لمفهوم الزمن المشظى والصيرورة فى الزمن ثم كل المفاهيم المتعلقة بالطبيعة لدى المدرسة الرومانسية فى الشعر. 


وعندما توجه العديد من تلامذته إلى البحث فى مجال دراسات الجندر (هدى الصدة، سحر الموجى، منى إبراهيم، مها السعيد، أميمة أبو بكر، وأنا وأخريات) تجهم قليلا (ربما كثيرا). فى يوم ما أدركت أنه كان يشعر أننا خذلناه وكأننا خيبنا أمله مثلا.

وكان هذا الشعور يلح على فأشعر بغصة.  توجهت إلى مكتبه وبعد التحيات والسلامات، اقتربت من الموضوع بالكثير من الحذر وقلت له إنه لولا اتقان أدوات التحليل الأدبى والمرجعية الفكرية الفلسفية التى تعلمتها ما كان يُمكن أن أخوض مجال أبحاث الجندر.

وكنت صادقة فيما أقول. شعرت أنه اطمأن قليلا. بعد مرور سنوات دعانى لأناقش رسالة تحت اشرافه ففهمت أنه اطمأن كثيرا.  


وتبقى لنا ارث كبير من الراحل محمد عنانى، إرث يكفينا لهذه الحياة وغيرها، ارث به ترجمات متقنة تتصدرها مقدمات ثرية، وكتب عن الترجمة، وعلم النفس والنقد والمصطلحات الأدبية، ومقدمات كتب...ارث تلامذة وطلاب، وباحثين، وباحثات، ومحبين.      

اقرأ ايضًا | المترجمون يودعون شيخهم: الرجل الذى أنطق «شكسبير» بالعربية