صلاح جاهين.. أوراق قديمة منسية

صلاح جاهين
صلاح جاهين

جائتنى فترة نسيت فيها كل ما يبتعد عن لحظتى بما يزيد على عام أو ربما عن شهر.. نسيت طفولتى وأيام التلمذة والجامعة وما بعد الجامعة وكل شىء.. كأنما ولدت هكذا رجلا أفنديا سمينا أصلع له شنب ولحية لم تحلق منذ بضعة أيام ولا يعرف من الشوارع إلا شارعا مظلوما حيث يعمل، وأى شارع آخر يتصادف أنه يسكنه وخلاص.

ثم حدث أنى عدت ذات يوم فتذكرت كل شىء، الأشياء التى يحلو للمرأ أن يتذكرها، تذكرتها والأشياء الأخرى أيضا تذكرتها لحسن الحظ ووجدتنى فأحسست بألم بكل صغيرة وكبيرة من حياتى الماضية ربما منذ عهد الفطام.


وصدق أو لا تصدق- أنت حر طبعا- أنى فى تلك الأيام التى حدث لى فيها أن تذكرت كل شيء، كنت مطالبا بكتابة كلام ما بالفرنساوى، الأمر الذى أرتعد الآن من مجرد الإشارة إليه.

وإذا بى يا أفندم أمتشق القلم وأظل أرص حروفا إفرنجية هائلة مائلة بديعة رفيعة فى الخطوط الصاعدة غليظة فى الخطوط الهابطة وأما عن الهجاية فقد كدت أصعق عجبا من نفسي.

كنت أسمع من داخلى صوتا صبيانيا نزقا (يبدو أنه صوتى وأنا فى الثانوي) يملينى إملاء سليما مائة فى المائة، هاتيك الهجائيات الفرنساوي، التى لا علاقة لها بالنطق مطلقا والتى تنتهى دائما نهايات غير متوقعة بشهادة الجميع، ناهيك عن قواعد اللغة وتصريف الأفعال الشاذة والاعتيادية فى الماضى والماضى المركب والحاضر والمستقبل وكل تلك الهوسة المعروفة.. وكتبت الكلام الفرنساوى المطلوب كأننى بخرزانة مسيو « نوبار» للتو مضروب!


وماذا يمكن أن نسمى هذا؟ ذاكرة طبعا، مخ بشري، المكنة المتملعنة، التى تخرب ويتصلح حالها على كيفها هى وليس على كيف النفر منا.. يبدأ الفنانون المصريون ذكرياتهم الفنية – عادة- بلحظة وصولهم إلى القاهرة قادمين من بلدانهم الريفية المحبوبة أو المكروهة بحسب نوعهم- فالشعراء مثلا يكرهون القاهرة.

، ويتحسرون على القرية التى قدموا منها بينما المغنواتية يفعلون العكس تماما ولو أردت أن أبدأ ذكرياتى من لحظة وصولى القاهرة لوجدت استحالة مطلقة حتى فى عنفوان قدرتى الأسطورية على التذكر، فحتى فى تلك الفكرة لم أكن أتذكر لأبعد من عهد الفطام.

وأنا ولدت فى القاهرة، لم أحضر إليها من أى مكان جغرافى محدد فما العمل؟ ولكن – عشان خاطر قراء صباح الخير بس- سأحاول أن أدفع بذاكرتى الفنية إلى الوراء بقدر ما أستطيع لكى أصف أول ما رأيته من الجو الفنى فى القاهرة.


وكان هناك صندوق خشبى بنى اللون وضعوه فوق مكتبة أبى فى الطرقة الطويلة بجانب باب المطبخ وكان هذا الصندوق يخرج أصوات بشرية أذكر منها صوت الشيخ محمود صبح، حنجرة ونايا وصوت أم كلثوم طبعا وصوت عبدالوهاب أيضا... ومع أن هذا الصندوق كان أعجوبة فى وقتها بالنسبة للناس السذج الذين عاصروا فترة ما قبله.

إلا أنه بالنسبة لى لم يكن غريبا بالمرة، إذ ما وجه الغرابة فى أن تفتح الراديو فتنطلق منه أم كلثوم؟.. العكس هو الغريب.. الغريب حقا هو أن تفتح الراديو فتسمع مديحة عبدالحليم مثلا أو نازك أو فيروز أو أى صوت جميل آخر عدا صوت أم كلثوم.. مش كدة؟


ولن أتاجر على إخواننا من القراء الصغار السن بحكاية المحطات الأهلية الكثيرة التى كنا نقلب مفتاح الراديو بينها يمينا وشمالا، فهذا لا يدهشهم.. لأن عندهم الآن أيضا مثلها: العام، وصوت العرب، ومع الشعب، والشرق الأوسط.

والقنوات التليفزيونية، الكثيرة العدد التى ينظر إليها أصحابها وكأنها أنفاق السد العالي.. فأين بالله عليك تذهب المحطات الأهلية المتواضعة إلى جانب كل هذا؟ من هذه الناحية لا فرق بين الماضى البعيد والحاضر القريب.

كانت هناك أشياء أخرى تسترعى انتباهى أكثر من الصندوق البني، الذى فوق مكتبة أبي، وحتى أكثر من أخيه البوق الخرافى الذى يغلظ صوته أو ينحف بحسب امتلاء جوفه أو خوائه.


وكنت أنظر من نافذتنا وأينما وليت وجهى فى عصارى الصيف القاهرى الثقيلة الهواء أرى هاويا للموسيقى مطلا من بلكونته بين القلل المرطبة وأوانى الأزهار محتضنا عوده أو نايه أو كمنجته عاكفا يتمرن. وكان فى بيتنا أيضا موسيقيون محترفون.

وفى الشقة رقم 2 بالدور الأرضى وأنت داخل على إيدك الشمال كان يسكن الأستاذ محمد رشاد، الذى أقابله الآن متصدرا الفرق الموسيقية الكبرى بكمنجته العتيدة فأبتسم لأننى رأيته وهو مايزال يحبو فنيا بينما كنت أنا أحبو فعليا وماديا.

وكان يزورهم فى تلك الليالى السحيقة ولد صغير اسمه أحمد عبدالقادر وكانت له أغنية مؤثرة ساحرة اسمها «أغنية الراعى» وبالمناسبة أين ذهبت هذه الأنواع من الأغاني؟ لماذا كل الأغانى الآن عبارة عن حب فى حب يتخللها أغانى حماسية جافة لكى تخزى العين؟ كانت الأغانى فى تلك الأيام أكثر تنوعا وأغزر مادة، وأنا لا أقولها على طريقة «وهى أيامكو دى أيام يابنى » ولكنى أقول الحق ورزقى على الله.


كلا. لم يكن هذا فى شارع محمد علي.. كان هذا فى شبرا فى الثلاثينات المبكرة وكانت القاهرة كلها مليئة بالموسيقى والأنغام.. ومن الموسيقيين الذين قابلتهم أيضا فى تلك الحقبة التاريخية الهامة، حذروا فذروا مين؟ ... بليغ حمدى.


وكنا طفلين، ما نزال ننقل من مكان إلى آخر بواسطة الآخرين، وكانت أسرتانا تسكنان شقتين متجاورتين، فإذا أرادت الوالدتان مثلا أن تشربا فنجانى قهوة معا كان عليهما أن تضعانا على الأرض فى ركن من أركان الحجرة.

وحتى تتمكنا من الدردشة بسلام دون مخافة سقوطنا وإصابتنا. وكنت أكبر من بليغ ببضعة شهور وطبعا لم أكن أعتقه، كنت أضربه وأهبشه وأضع أصابعى فى عينيه، صحيح أنه كان يعضنى دفاعا عن نفسه ولكن المنتصر دائما كنت أنا، لا لشىء إلا لفارق السن طبعا.


ولى رجاء واحد فقط.. لا تظنوا أن هذا هو السبب فى أن بليغ لم يلحن لى أية أغنية حتى الآن، فبليغ قلبه أبيض ولا يمكن أن يظل حاقدا علىّ طوال هذه السنين!


ذكريات كثيرة تتدافع إلى ذهنى الآن، بمجرد أن عدت بالفكر إلى عمر العام والعامين، والقلم يتوثب فى يدى يريد أن يحكى ويحكى بالرغم من ضيق المجال. وأنا بعد لم أحك حياتى العاطفية، ومغامراتى النسائية فى تلك الأيام.


ولكن لا..!!
الأفضل أن تظل هذه الصفحات أوراقا قديمة منسية.!

اقرأ ايضًا |منى قطان تكتب: صورة شخصية لزوجة شاعر