«جريس» عاصمة «الفخار» فى مصر

ابداع انسانى جميل من الصلصال
ابداع انسانى جميل من الصلصال

هانئ مباشر

على خلفية الأراضى الخضراء المورقة فى قرية جريس بالمنوفية، يمتلك الحاج فوزى غنيم، شيخ الفخارين بالقرية، ورشة عمل لصناعة الفخار ملحقة بمنزله الريفي.. إنه يكافح للحفاظ على هذه المهنة التقليدية وإبقائها على قيد الحياة، المهنة التى ورثها عن والده منذ صغره، ويمارسها منذ أكثر من ٤٠ عاماً: «علاقتى بهذه الحرفة وجدانية أكثر من كونها علاقة عمل.. هذه المهنة فنية أكثر منها وظيفية.. هذه المهنة فيها إبداع، وجمال فى العمل».

يقول الحاج فوزى، لقد تعلمت تحويل الأتربة إلى طين متماسك مع بعضه البعض، ومن ثم وضعه على الآلة الدوارة التى تعمل بالقدمين من أجل صنع الأواني، والتى تنقل إلى الشمس للتجفيف وللفرن للتحميص، وأنا أعمل بالمهنة منذ كان عمرى 5 أعوام حيث كنت أحمل الطين لوالدى ثم بعد ذلك بدأت فى صناعة الأوانى كما تعلم والدى المهنة أبًا عن جد، لقد تعلمنا منذ الصغر أن التعليم من أهم الأشياء على الإطلاق ولكن الأهم من ذلك هو تعلم مهنة إضافية بجانب التعلم والعمل بها مع الدراسة، وأبناؤنا جميعا فى كليات عالية «قمة»، وأهل القرية جميعا يعملون بهذه المهنة، فلا تفرق أحدا عن آخر إلا بالإتقان ويعمل الجميع من «نساء - رجال - أطفال» تحت سقف واحد.
ويواصــل شــــيخ الحـــــرفيين: «التوجه الحديث حالياً نحو تطوير المنتجات يتمثل فى دمج الخزف مع الفخار وإكساب القطع المنتجة ألواناً متعددة لإضفاء المزيد من اللمسات الجمالية، ما يساهم فى تسويق المنتجات ورواجها، كما قمنا مؤخراً بالتوسع فى إعداد الورش وتزويدها بالآلات الحديثة لزيادة الإقبال على الطلب نظراً لجودة منتجاتنا، وتمر الصناعة بمراحل متعددة بعد تحديد نوع المنتج والبدء فى التنفيذ يتم عقب ذلك نقله إلى الفرن ليتم تشكيله بالصورة النهائية وتأتى عقب ذلك مرحلة التخزين وغالبا ما يكون ذلك بأسطح المنازل حتى يتم البيع النهائى للمنتج وما يتم إنتاجه يوميا يصل إلى 120 قطعة من القلل والأبرمة، أما الأنتيكات فيتم إنتاج 50 قطعة منها تقريبا».
الرجل لم يقل سوى الحقيقة، فعلى ضفاف نهر النيل، تقع قرية «جريس» التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية والتى لا تزال حتى الآن محتفظة بملامحها الفرعونية حيث البيوت الطينية واهتمام الأهالى بزراعة الأرض وصناعة الفخار وهى المهنة التى لا يزال أهل القرية محتفظين بها إلى الآن.

وبدون أدنى مبالغة لقد تعلم الأهالى فى تلك القرية منذ طفولتهم كيفية تحويل الأتربة إلى طين متماسك مع بعضه البعض، حتى يصل إلى شكله النهائى، ومعه تحولت «جريس» إلى ورشة كبيرة لصناعة الفخار فلا يكاد يخلو شارع أو زقاق أو سطح منزل فيها من كميات كبيرة من الفواخير مصفوفة أو معدة للبيع.

ومن أشهر منتجات الفخار بالقرية القلل، الأزيار، طواجن الطبخ، المباخر، أطباق الحمام أو أواديس لأبراج الحمام، أوانٍ فخارية مختلفة الأشكال والأحجام، قصارى خاصة بالمشاتل، والأوانى الخزفية..إلخ، لتصبح قلعة صناعة الأوانى الفخارية فى الوجه البحري، وهى تشتهر منذ القدم بصناعة الفخار وتصديره لكل القرى والمدن عبر نهر النيل حيث كانت تحظى يوما ما قبل إنشاء قناة السويس بشهرة واسعة كميناء مهم على النيل ترسو عليه القوارب والصنادل وكانت تأتى فى الأهمية كميناء بعد روض الفرج ودمياط ورشيد.

وتعتمد صناعة الفخار بالقرية أساساً على الخامات المحلية المتوفرة حيث التراب الطينى ومخلفات الزراعة من القطن والذرة، لتقوم 700 ورشة بإنتاج ما يقرب من 15 مليون  قطعة سنويا، وتمر بعدة مراحل وتبدأ بخلط الأتربة الناعمة باللون اللازم لعمل العجين لتصنيع المنتج من خلال دولاب خاص بذلك، قبل أن تبدأ عملية التجفيف بتعريض المنتج لأشعة الشمس، أما عملية الحريق فتتم فى أفران معدة لذلك.

الصورة حاليا ليست وردية تماما فهناك حالة من الركود تعيشها صناعة الفخار بشكل عام، فقد واجهت الحرفة صعوبات كثيرة خلال السنوات الماضية بداية من ظهور أدوات مصنوعة من خامات أخرى غير الفخار أقل تكلفة، وترتب عليه هجرة عدد من شباب القرية لصناعة الفخار والتوجه لمهن أخرى لكسب قوت يومهم، مروراً بأزمة فيروس «كورونا» التى أوقفت التصدير ثم الأزمة الاقتصادية الحالية التى تمر بها البلاد والعالم، فهناك أعداد كبيرة من أهالى القرية كانوا يعملون بشكل جيد وتمكنوا من التصدير، لكن تدريجيا، انخفضت الأرقام وقل عدد الورش، وهذا ما يدفعنا لأن نكون مبدعين ونجد طرقا للاستمرار، لقد واجهنا العديد من الأزمات بلا شك، لكن بصراحة هذه أكبر وأعمق الأزمات التى نواجهها.

أحمد صالح، ٦٥ عاماً أحد العاملين بالفخار بالقرية، يحكى عن المهنة وصناعة الفخار فيقول إنها: تتم عبر استخدام اليد والطين فقط، ولا يزال هذا النهج مُتبعاً فى الوقت الحالي، حيث يتمّ ضغط كُرة الطين باليد وتشكيل وعاء، ثمّ يتم لف الطين فى حبال أو لفائف حتّى الوصول للارتفاع المطلوب، ثمّ يتمّ تنعيم الطين فى وقت لاحق، أنا وإخوتى كنا نعمل فى هذه المهنة مع والدنا، وهذه مهنة الآباء والأجداد منذ القدم والمنتجات التى نصنعها هى «القلل» و«الأزيار» و«طواجن الطيور» و«المبخرة» أو فواحة - أطباق للحمام و«أواديس» لأبراج الحمام وكل ما يتناسب مع متطلبات الريف من منتجات الفخار.
أما أحمد عبد الله، الحاصل على ليسانس الحقوق، فيقول إن هذه المهنة لا تستلزم التخصص أو الدراسة، لأنها من أقدم الصناعات، لأن أجدادنا القدماء كانوا يعملون بها وفتحوا بيوتا من دخلهم منها، وللعلم نحن نمارسها، والغالب علينا الطابع والحس الفني.

واقع الحال الآن فتح آفاقاً جديدة تحت راية «مبادرة حياة كريمة».. حيث تُدلل تلك المبادرة الرئاسية على أهميتها كل يوم وأنها أحد المشاريع القومية الفارقة فى تاريخ مصر، بما تُبديه من مرونة فائقة فى تعميم الأفكار التنموية، بهدف تحقيق أقصى استفادة ممكنة تعود بالنفع على حياة المواطنين، فى القرى والمدن المستهدفة، ولعل تعميم فكرة إنشاء مجمع صناعى، التى انطلقت من محافظة المنوفية، لتشمل الوحدات المحلية بقرى المبادرة خير دليل على ذلك، كما يقول اللواء أحمد إبراهيم أبو ليمون، محافظ المنوفية، والذى أوضح أن المجمعات الصناعية بالوحدات المحلية تهدف إلى الحفاظ على الصناعات والحِرف التى تتميز بها قرية ما أو مجموعة قرى، حيث تخطط المبادرة لإنشاء ٣١٧ مجمعًا صناعيًا، لجمع الورش المتناثرة فى كل وحدة محلية فى مبنى واحد مزود بأحدث الآلات ونظم معالجة الصرف الصناعى، كما فى حالات صناعة الفخار، إلى جانب توفير التمويل اللازم للتوسع فى الإنتاج، مع تقديم الاستشارات الفنية، وإقامة المعارض، واستخدام أساليب الدعاية الحديثة فى الترويج للمنتجات، ولقد تم الانتهاء من تسليم مدرسة خالد بن الوليد وكذلك مدرسة النصر الإعدادية بجريس بعد رفع كفاءتها، بعد أن كان أطفال القرية - كما قال أحد الأهالى: يجلسون على مقاعد محطمة، والآن سوف يتعلم أولادنا صح ويجلسون على مقاعد تليق بالعملية التعليمية، ولو كنا نحلم لن يتحقق الحلم بهذا الشكل الجميل والسرعة فى الانتهاء من المشروعات، كما شهدت «جريس» العديد من المشروعات التى غيرت حياتها وتم إنشاء وحدة إسعاف وموقف نموذجي، ومجمع خدمات للمواطنين بعد أن كانت الأهالى تعانى عند الذهاب للمدينة، وتم توصيل مياه نظيفة للمناطق النائية بالقرية، لقد كانت القرية محرومة من الخدمات نهائيا.

الدكتور وليد أحمد، المنسق الميدانى لمبادرة حياة كريمة فى محافظة المنوفية، قال إن الخدمات التى تنفذ فى الوحدة المحلية الرئيسية لقرية جريس بمحافظة المنوفية تخدم 80 ألف نسمة وتوفر الوقت والمجهود والمال، وبدأنا فى تنفيذ إدخال الغاز الطبيعي، حيث قمنا بمد الخط الرئيسى لكى يحيط بالقرية، حتى يصل الغاز إلى البيوت.

أقرأ أيضأ : مياه المنوفية: 113 نشاطا توعويا بقرى «حياة كريمة» بأشمون| صور