فنون الصعيد

الكف و التحطيب و المديح و الإنشاد.. تاريخ توارثته الأجيال

فنون الصعيد
فنون الصعيد

سيد محمود

الفنون في صعيد مصرقديمة قدم الزمن، فقد كشفت الرسومات المحفورة على المعابد سواء في أسوان أو الأقصر بأن الفنون كانت جزءا مهما من مفردات الحياة في العصر الفرعوني، وهي تختلف من مدينة إلى أخرى، ففنون النوبة قد لا يشترط أن تكون هي نفسها في المحافظات المجاورة لأسوان، وتختلف أيضا فنون أهل المنيا عن أسيوط وسوهاج، لكن يجمعهم رابط واحد هو الإلتزام بالعادات والتقاليد، وما تم توارثه من قديم الأزل.. لكن مع بدايات القرن العشرين طرأت تغيرات على تلك الفنون، بخاصة في الفرق، إذ لم تكن المرأة تشارك الرجل في الفن الشعبي عملا بما جاء على المعابد، ففي معبد الأقصر بينما يؤدي الرجال رقات شعبية أو بالعصا، نجد في جانب آخر النساء بمفردهن يؤدين رقصات وفنون أخرى دون إختلاط بالرجل.

الفنون في صعيد مصر أنواع، حتى الغناء والموسيقى أيضا لهجات، وتختلف الكلمات وطريقة أداء الأغنيات من مدينة لمدينة، بل من قرية لأخرى، وما توارثته الأجيال من فنون غير ما أستحدث عبر الزمن، المتوارث ما زال موجودا، برغم ما طرأ عليه من تغيرات، لكنه يتراجع في الأهمية، بل والشواهد كلها تؤكد بأن المتوارث من تلك الفنون قد يصبح من العادات والتقاليد المنسية، إذ تراجعت فنون الأفراح مثل فنون حفلات “ليلة الحنة، ليلة الزفاف، الطهور، السبوع، رحلة الحج ذهاب وعودة”، تلك المناسبات منها ما كان يستمر لأسبوعين، زفاف الإبن الأكبر في الصعيد في الستينات وحتى الثمانينات يبدأ الاحتفال به مع بداية شهر هجري حتى إكتمال القمر ليلة 14، وفي تلك الفترة تبدأ العائلة فى الإعداد ليومي “الحنة” و”الزفاف”، وتعد “ليلة الحنة” هي الأهم، ولها طقوس مهمة لابد منها، فيها تعلق الزينة، وترص “الدكك” في الشارع، ويعرفها العام والخاص من خلال الأغنيات التي تؤدى في بيت العريس، وكانت تعلق مكبرات الصوت على منزل العريس، وكل ليلة يؤتى بفرقة مكونة من مغن وطبال ووراءه كورس عادة من أبناءه، يقدم أغنيات تراثية منها ما يقوم بتأليفه هو وما حفظه من والده أو الأجداد.

وفي ليلة الزفاف عادة ما تفتح الساحة للرجال، حيث المزمار البلدي الذي يبدأ بطواف القرية كلها، حتى يستقر في الساحة التي بها منزل العريس، وهنا يعلم الجميع مَن سيبارز مَن من كبار أبناء القرية، والمبارزة وهي الرقة القديمة التي عرفها الصعايدة من خلال رسومات المعابد وتسمى”التحطيب”وهي أهم لون من ألوان التعبير عن البهجة والتنافس الشريف فى أفراحهم، وقاسم مشترك فى كل محافظات الجنوب، وتستخدم فيها العصا المصنوعة من سيقان البردي، يزينها كل على طريقته تغلف بجلد حيوانات، أو برسومات، وما زالت العصا تستخدم للحماية من الحيوانات المفترسة، وبخاصة لمن يسكنون في مناطق جبلية.

هناك فنون يتميز بها أهل محافظة عن أخرى، مثل فن “الكف”، وهو فن نوبي، لا تجده سوى في أسوان، ويعد الفن النوبي هو الأكثر عمقا بين كل فنون الصعيد، لأنه ظل لسنوات طويلة يقدم كما هو دون تشويه، وهناك من يحافظون عليه حتى اليوم، مثل فن “الأراجيد” أو “الرقص الشعبي الفلكلوري”، وهي الطريقة التي يعبر بها جميع النوبيين عن مشاعرهم العميقة من فرح وحزن، ثم فن “الكف”، وقد نجحت إحدى الفرق المعاصرة في نشره مرة أخرى، وهو فن أصيل يقوم فيه الشباب بالتصفيق بالكف بشكل متناغم، مع أغنيات وأشعار تراثية تتخلها مسابقات وألغاز.

في محافظة قنا، لم يكن هناك فن أكثر شهرة من فن المديح بالسير الذاتية، كـ”السيرة الهلالية”، التي تميز بها أهل تلك المحافظة، وكان سيد الضوي وجابر أو حسين وعلي جرامون، وحسن حفني، وتم تأصيلها كتراث مع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، ولازالت تلك السيرة التي تزيد على مليون بيت من الشعر الأكثر إنتشارا.

وفي مدينة الأقصر، والتي كانت تابعة إلى قنا قبل أن تصبح محافظة، وبها نفس الفنون من السيرة، لكن ظهر بها نوع من فنون المديح تحول إلى ظاهرة، وما زال، وهو الغناء الشعبي المستمد من الطبيعة، الذي قدمه “الريس متقال” من حكايات قديمة فى الصعيد، وهو من مواليد 1924، وتوفى عام 2004، وتحول بهذا النوع من الإنشاد إلى ظاهرة عالمية، بأغنيات “بص على الحلاوة” و”يا حلوة يا شايلة البلاص” و”بتاع الفراولة” و”ضيعت مالي”،  وكلها تغنى حتى اليوم.

فى سوهاج فنون بها مزيج مما يقدم فى مختلف المحافظات ،وتتميز ايضا برقة العصا، يؤديها الرجل ، والرقص بالحصان. لكنها كانت أكثر محافظات مصر شهرة

أما أسيوط فقد أشتهرت بـ”التحطيب”، ومع انتشار الفن الصوفي في الستينات، بفضل الموالد، وبخاصة مولد سيدي “الفرغل” بمركز أبوتيج، عرفت حلقة الذكر التي تعد هي الأساس في المناسبات، وكانت كل الأفراح تختتم بليلة الذكر، حتى الاحتفال بالمولد النبوي يستمر 12 ليلة، وفيها تقدم حلقات الذكر كل ليلة، ومع ظهور الشيخ أحمد التوني تطورت حفلات الذكر لتصبح طقسا مهما، وكان التوني - رحمه الله - يطوف صعيد مصر كله، ينشد بالرق فقط، وتطور الأمر في الثمانينات فأدخل “الكمنجة”، وكان أول من أنشد بـ”الكمنجة” في ليالى الذكر، ومع شهرة تلميذه الشيخ ياسين التهامي، تطور فن الذكر ليصبح من أهم الفنون الإنشادية التي تقدم في كل محافظات مصر، وليس صعيدها فقط، ونجح الشيخ ياسين في تطوير هذا الفن بقصائد ابن عربي وابن الفارض، وأدخل “الأورج، الكامنجة، الناي”، وآلات أخرى حديثة، وتسجيلات ومكبرات صوت، حتى أن حفلات الشيخ ياسين تطورت، وأصبح هو أيضا ظاهرة عالمية، حيث طاف أكثر من 30 بلدا عربيا وأجنبيا، والشيخ التوني من علامات أسيوط البارزين.

تعد الفنون في باقي محافظات الصعيد مزيج مما سبق، نظرا لإلتحام الحدود، فما كان يقدم في أسيوط نجده بالمنيا وبني سويف والفيوم.. وبالطبع كلها فنون نابعة من التراث المصري الأصيل، تتطور مع الزمن وتستغل من قبل مطربين، ومغنيين، وفرق حديثة، وحتى الأغنيات التي عرفت بأنها معدة من قبل مطربين أمثال محمد رشدي، محمد فوزي، شريفة فاضل، صباح وفاطمة عيد وغيرهم من المطربين، لم تعد هي المنتشرة في صعيد مصر، بل تطورت إلى أغنيات حديثة، كتلك التى يقدمها مطربو “المهرجانات”، وشيبة، أو مصطفى حجاج.

أقرأ أيضأ : رئيس مهرجان التحطيب : اللعبة متوارثة عن الفراعنة | فيديو