من شيطنة الحداثة إلى الذعر الأحمر.. محارق الفن في الغرب الحديث

لوحة مصادرة للفنان إميل نولد
لوحة مصادرة للفنان إميل نولد

كتب: رشيد غمرى

فوجئ الكثيرون بالطريقة التى تعاملت بها مؤسسات ثقافية غربية، من استبعاد لبعض الأعمال والمبدعين الروس، مع بداية الغزو الروسى لأوكرانيا، ما يتنافى مع القيم المعلنة للحضارة الغربية، من حرية الإبداع وإنسانيته. الأسئلة التى طرحتها الأزمة الراهنة، أعادت للذاكرة تاريخًا حديثًا من المنع والحرق والمصادرة، وقعت أحداثه فى القرن العشرين، في كل من أوروبا وأمريكا، تحت شعارات مختلفة، وهى فرصة لإعادة فحصه، للوقوف على مدى النضج والاتساق مع الأفكار المعلنة، وما إذا كان الغرب قد تعلم من دروس تاريخه القريب، خصوصا أنه من يضع المعايير والتعريفات، والتى تمثل أفق الحريات المنشود للكثيرين حول العالم.

مصادرة الإبداع تاريخ معاصر يخجل منه الغرب

«المكارثية» محاكم تفتيش أمريكية فى الخمسينيات

متحف الفن الممنوع فى طشقند أنقذ ضحايا ستالين

الحصار والتشويه وسائل حديثة لحرق المبدعين فى الغرب

مع بداية غزو أوكرانيا، استبعد عمدة ميونخ- الموسيقار الروسى «فاليرى جيرجييف» من قيادة أوركسترا ميونخ الفيلهارموني. وأعقبه سحب أوركسترا «زغرب» مقطوعتين من برنامجه للموسيقار الروسى «تشايكوفسكي».

ووصل الأمر إلى إلغاء إحدى الجامعات سلسلة محاضرات عن أدب «ديستوفسكي»، مع سيل من التصريحات والمطالبات الداعية لمقاطعة الإبداع الروسي. ورغم أن البعض اعتبرها تصرفات فردية غير ناضجة، لكنها تشير إلى تيارات فى الغرب، أغلبها من يمين يعاود الصعود إلى الساحة السياسية والاجتماعية من وقت لآخر، ويذكرنا بتاريخ ليس ببعيد، جرى خلاله حرق اللوحات الفنية والكتب، ومطاردة المبدعين.

عندما احتفل الألمان بحرق لوحات فان جوخ وكتب همنجواى

محارق فان جوخ وبيكاسو

أهدى الألمان للإنسانية تراثا إبداعيا وفكريا عظيما، ومع ذلك وخلال مطلع الثلث الثانى من القرن العشرين شهدت بلادهم احتفالات شعبية بحرق الكتب واللوحات لنخبة ممن نعتبرهم الآن من أهم المبدعين، ومنهم فان جوخ وإميل نولده وبريخت.

أوروبيون احتفلوا بحرق اللوحات والكتب فى القرن العشرين

فى مايو ١٩٣٣ أقام النازيون محرقة فى ساحة أوبرا برلين ضمت نحو عشرين ألف كتاب، أمام سبعين ألف شخص من المحتفلين. وشملت أعمال «بريخت» و«ريمارك» و«هاينه»، و«توماس مان» و«كارل ماركس» و«ألبير أينشتين» و«سيجموند فرويد» وغيرهم.  وتوالت المحارق بعدها فى أكثر من عشرين مدينة ألمانية للكتب واللوحات الفنية التى تخالف العقيدة النازية أو الذائقة الفنية التقليدية لزعمائها. وكان «إميل نولده» أحد رواد التعبيرية الألمانية التى طاردها هتلر، قد صودرت لوحاته وأحرق بعضها، فعاش منعزلا فى الريف، ممنوعا من شراء أدوات الرسم.

اقرأ أيضًا | إعادة إنشاء لوحة « فان جوخ» بعد اختفائها قبل 135عامًا  

معارض فضائحية
«الفن المنحط» هو العنوان الذى صاغته النازية فى ثلاثينيات القرن الماضي، لتضع تحته أعمال فنانين نعتبرهم الآن من العباقرة، وقامت بإحراقها. ووصف هؤلاء المبدعون بالمرضى وعديمى الأخلاق. بدأ الأمر عام ١٩٣٣ عندما نظمت معارض محلية تحت عنوان «غرف الرعب» أو «معارض العار»، جمعوا خلالها الأعمال الحداثية، ليسخر منها الجمهور.

ثم أقاموا فى «دريسدن» معرضا تحت عنوان «الفن المنحل»، تجول فى اثنتى عشرة مدينة. وفى عام 1937 جمع وزير الدعاية النازى «جوبلز» أعمالا فنية من المتاحف، وعرضها فى ميونخ تحت عنوان «الفن المنحط»، وجرى عرضها مكدسة، وبطريقة غير جذابة مع تعبيرات ساخرة مثل «هكذا تنظر العقول المريضة للطبيعة» أو «مجنونة بأى ثمن».

وكانت المفارقة أن أكثر من مليونى شخص زاروا المعرض المقام فى مكان ضيق وغير مجهز. واستمرت الدعاية ضد الفنون الحداثية مع حرق الآلاف منها، ثم قاموا بمصادرة عشرين ألف عمل، وشرّعوا قانونا يتيح بيعها، وجنوا الثروات من ورائها، وضمت القائمة أعمالا لماتيس وفان جوخ وبيكاسو. ويبقى فى الذاكرة ما جرى عام ١٩٣٩، حيث أحرق ما يزيد عن خمسة آلاف لوحة فى ساحة إطفاء برلين الرئيسية.

وقد اختفت ثلث الأعمال المصادرة ضمن عمليات فساد، جنوا من ورائها أموالاً من أعمال اعتبروها غير أخلاقية. وشملت قائمة الفنانين الممنوعين «ماكس أرنست» و«إيجون شيلي» و«مودلياني» و«إميل نولدي» و«مارك شاجال» و«سلفادور دالي»، و«خوان ميرو» و«كاندنسكي»، و«موندريان»، و«مونش»، و«جوستاف كليمت»، و«بول كلي» و»كورت شفيترز»، و«أوسكار شليمر»، و«فرانز مارك»، و«كوكوشكا»، و«كريشنر» و«جروز»، و«أتو ديكس»، و«مان راي»، و«ماكس بيكمان». كما جرى لاحقاً حرق آلاف الأعمال التى كانت فى قلعة «شلوس إميندورف». 

محاكم تفتيش أمريكية
استخدم الخوف من الشيوعية فى أمريكا للتنكيل بالخصوم السياسيين، على يد النائب الجمهورى «جوزيف ماكارثي»، وتصاعد على يديه الهوس بمنع ومطاردة العديد من المبدعين تحت ذريعة استئصال الفكر الشيوعي.

شمل الأمر العديد من الكتب لـ«هنرى ديفيد ثورو» و«جون شتاينبك» الذى اتهمت روايته «عناقيد الغضب» بأنها تظهر أمريكا كمكان لا يمكن العيش فيه، بسبب معاناة العمال من الاضطهاد، وتسبب الأثرياء فى الكساد. ووصف بأنه دعاية لينينية.

كذلك تم حظر شخصية «روبن هود» عام ١٩٥٣ وهو الشخصية المعروفة بأنه كان يسرق الأغنياء، ليعطى الفقراء، ومنع ذكر أى إشارة له فى الكتب المدرسية. كما جرى سحب كل المجلات الليبرالية من المكتبات، وفصل أمناء بعض المكتبات مثل «ذا نيشن»، و«نيوريبابليك» لأنهم تقاعسوا عن حجبها. ووصل الهوس فى أمريكا بلد الحريات مطلع الخمسينيات إلى سحب كتاب مصور لفنانة شابة تدعى «ناتاليا» لأن به صورة كلب كبير ينزع عظمة من كلبين صغيرين، ووصف بأنه كتاب تخريبي. كما سافر «روى كوهن» أحد أعضاء لجنة مكارثى لسحب 46 كتابا من مكتبات سفارات أمريكا فى الخارج، باعتبارها تحرض على الشيوعية لتشكيكها فى نمط الحياة الأمريكي. وللعجب فقد شملت القائمة أعمال «أرنست هيمنجواي»، و«مارك توين»، و«توماس باين»، والشاعر «لانجستون هيوز» والصحفى الروائى «أبتون سنكلير»، والكاتب المسرحى «ليليان هيلمان»، والكاتب البوليسى «داشيل هاميت» وغيرهم.

جنون المنع
فى مجال الفن التشكيلي، قاد «جورج دينديرو» النائب عن ولاية ميتشجن حملة لتطهير أمريكا من الفن الحديث باعتباره شيوعيا، وهو الفن نفسه الذى كان يتعرض للمطاردة فى الاتحاد السوفيتى.

وفى خطابه أمام الكونجرس فى ١٦ أغسطس ١٩٤٩ قال إن التكعيبية تهدف إلى التدمير والفوضى المصممة، وأن الدادئية تدمر عن طريق السخرية، والتعبيرية تدمر من خلال تقليد البدائى والمجنون، والتجريدية تدمر بواسطة العصف الذهني، والسيريالية بإنكارها للعقل.

ووصفها بالفنون الشيوعية، لأنها مشوهة وقبيحة، «ولا تمجد حياتنا الأمريكية. وقام بوضع قائمة بالفنانين المخربين ضمت «بيكاسو» و«براك» و«ليجر» و«دوشامب» و«إرنست» و«ماتا»، و«ميرو» و«دالي» و«شاجال»، ووصفهم بأنهم أسلحة نشطة للكرملين. وبناء على ذلك جرى إثارة الجماهير ضد عدد من المتاحف التى تعرض أعمالهم، ومنها «الميتروبوليتان» و«الفن الحديث»، ومعهد الفنون فى شيكاغو، ومتاحف «فوج» و«كوركوران» و«فيرجينيا» لدعمهم معارض الفن الحداثي.

واتهم عدة جمعيات فنية بالشيوعية. وفى عام ١٩٤٧ وبسبب ضغوط دعائية دخل الرئيس الأمريكى ترومان على الخط، واصفا لوحة (مشهد من السيرك) للفنان «كونيوشي» بأنها ليست فنًا، وأن الفنان ألقى بالطلاء على اللوحة.

الهوس ضد الفن الحداثى وصل إلى حد الجنون حين اتهم المكارثيون بعض اللوحات المعروضة فى أحد معارض لوس أنجلوس بأنها خرائط مموهة لأهداف عسكرية أمريكية لصالح السوفييت. وفى منتصف الخمسينيات هوجم معرض تحت عنوان الفن فى الرياضة بمناسبة دورة الألعاب الأولمبية، وطالبوا باستبعاد أعمال «هيش» و«جروس» و«بيكاسو» و«ديفيدسون» و«رفيرا» و«ويبر».

وصدر بيان بأن الكرملين يستخدمهم كأدوات للتدمير. وانصاع متحف «دالاس» مصدِرًا بيانًا بأنه مع حرية الفن، لكنه لا يقبل عرض أعمال شيوعيين تخريبيين. وهو ما أثر سلبا على المعارض، حتى أن بعض الأماكن قررت عدم عرض أى أعمال رسمت بعد عام 1917 على سبيل الاحتياط.

تدمير ومصادرات
هناك واقعة شهيرة تتعلق بجدارية رسمها الفنان المكسيكى «دييجو ريفيرا» بتكليف من رجل الصناعة والرأسمالى المعروف «إدسل فورد» بعنوان «عصر الفولاذ»، وهوجمت بوصفها دعاية شيوعية. وفى عام ١٩٥١ جرت الدعوة لتدمير جدارية على مدرسة ترجع للثلاثينيات للفنان المكسيسى «خوسيه كليمنتى أوروزكو» بدعوى تمجيد الشيوعية.

الفنان «ريفريجيه» الأمريكى من أصول روسية تعرض أيضًا للهجوم واضطر لتعديل تصميم جدارية فاز بها فى إحدى المسابقات، وهاجمها «ريتشارد نيكسون»، عضو الكونجرس وقتها. ودشنت عدة منظمات حملة للمطالبة بإتلافها. وبسبب المكارثية فر الكاتب المسرحى بريخت من أمريكا وهو الذى فر من ألمانيا قبل ذلك. وحتى شارلى شابلن اعتبرته المكارثية غير مرغوب فيه.

عرف الغرب مصادرة الإبداع طوال القرن العشرين، ومن المفارقات أن رواية جورج أورويل 1984 التى منعها الاتحاد السوفيتى، وكان ذلك مفهومًا، قد منعت فى أمريكا نفسها إبان أزمة الصواريخ الكوبية. كذلك نذكر رواية «ابنتا الريف» لـ«إدنا أوبريان» التى صودرت فى أيرلندا عام ١٩٦٠ بذريعة محتواها الإباحى، وللسبب نفسه منعت رواية «أغنية الياقوت الأحمر» لـ«إجنار ميكله» فى النرويج عام ١٩٥٧، كما منعت رواية «أمريكان سايكو» لـ«بريت إيستور إيلس» فى ولاية «كوينزلاند» الاسترالية. ومنعت الحكومة البريطانية فى الهند فى الثلاثينيات رواية «أنجاري» للكاتب «سجاد ظهير». وفى بريطانيا منع كتاب «إيروباجيتيكا» لـ«جون ميلتون».
وفى طشقند الأوزباكستانية يوجد الآن متحف للفن الممنوع، يضم الأعمال التى كانت محظورة فى عهد ستالين. 

إلى الآن ترتفع شكوى البعض من محاصرة هوليوود للإبداعات التى تسبح عكس التيار. كذلك تشويه المبدعين الذين يناوئون ما يعتبر ثوابت أو مناطق محرمة. والسؤال: هل يتمتع الفن فى الغرب الآن بالحرية المطلقة؟ طرحت مجلة الاقتصاد الثقافى فى أمريكا القضية، وقامت بفحص ظروف الإنتاج الفنى والثقافى وعلاقته بالتوجهات والتأثيرات الاجتماعية والسياسية والديموجرافية مؤخرا، وخلصت عبر تحليل أجرى على عينة تقارب ألف فيلم، أنتجت فى هوليوود خلال السنوات الأخيرة إلى أن أغلبها يعمل لخدمة تيار يسار الوسط. كما أشارت إلى شكوى تتعلق باستبعاد اللاتين من صناعة السينما، وهم أكبر مجموعة عرقية فى كاليفورنيا معقل الصناعة. 

ورغم تربع الغرب على قمة هرم حريات التعبير والإبداع، فإن الصورة ليست ناصعة، ولا مثالية. وإلى الآن هناك وسائل غير مباشرة لمحاصرة الإبداع غير المرغوب فيه، وبعضها ذو مظهر ديمقراطي، ومع ذلك فالوضع لا يقارن بما يجرى فى أغلب مناطق العالم.