عاجل

خطوات المسيح على أرض مصر تراث إنساني

تجليات «الرحلة المقدسة» في فنون العالم

أيقونة قبطية حول رحلة العائلة المقدسة إلى مصر
أيقونة قبطية حول رحلة العائلة المقدسة إلى مصر

رشيد غمرى

نجحت مصر مؤخرا فى تسجيل رحلة العائلة المقدسة إلى بلادنا ضمن قائمة اليونسكو للتراث الإنسانى غير المادى، وذلك خلال الاجتماع الذى عقدته اللجنة المختصة فى العاصمة المغربية، مطلع ديسمبر الجارى. الرحلة التى استغرقت أكثر من ثلاث سنوات من عمر المسيح، شملت إقامته وعائلته فى حوالى خمسة وعشرين موقعا داخل الأراضى المصرية. وتمثل طفولة الشخصية المقدسة لدى معظم سكان العالم. وترتبط الذكرى بعدد من الاحتفالات الشعبية والدينية المحلية جرى تسجيلها ضمن ملف اليونسكو. وتتضمن ترانيم وحرفا ومأكولات وطقوسا احتفالية، يحضرها الملايين كل عام. وهى الرحلة نفسها التى احتفى بها عدد من أهم فنانى العالم فى مجالات الموسيقى والفنون التشكيلية.  

وفقا لإنجيل متى، بدأت الرحلة بعدما زار الملاك القديس يوسف فى المنام، وطلب منه أن يفر بالعذراء ووليدها من وجه الحاكم «هيرودس» الذى أمر بقتل كل الأطفال المولودين حديثا، خوفا من نبوءة بزوال حكمه على يد أحدهم. وحدد له مصر كوجهة آمنة، حتى يزول الخطر. وبالفعل خرج الثلاثة فى رحلة من بيت لحم فى فلسطين إلى مصر. ومرت العائلة المقدسة خلالها بعدد من الأماكن منها رفح والعريش والفرما وسخا بكفر الشيخ وتل بسطة بالشرقية وسمنود بالغربية ووادى النطرون والمطرية ومسطرد ومصر القديمة والمعادى وجبل الطير بالمنيا وصولا إلى أسيوط، والعودة فى مسار يقدر بحوالى 3500 كم ذهابا وإيابا.

فنون قبطية

الذكرى التى يجرى إحياؤها منذ قرون، تتضمن عدة احتفالات محلية قبطية الطابع، وُضعت فى الملف الذى جرى تسجيله ضمن تراث الإنسانية مؤخرا. ويتضمن عيد مجيء العائلة المقدسة إلى مصر، فى 24 بشنس الموافق بداية يونيو، ومولد العذاراء فى شهر أغسطس. والعروض الفنية والتمثيلية، والمدائح الدينية، كالتى كان يقدمها الفنان الراحل مكرم المنياوى، الذى جمع بين مدائح المسلمين والمسيحيين، وكذلك أعمال كورال الترانيم، وفن الوشم المتعلق بالرموز المسيحية الجالبة للبركة. بالإضافة للطقوس والألعاب المرتبطة بالموالد، وبعضها مشترك بين موالد الأولياء المسلمين والقديسين المسيحيين. ويعتبر قبول الملف نجاحا كبيرا وثمرة تعاون بين وزارتى الثقافة والخارجية، لما يوثقه من ممارسات شعبية تراثية، وهو بالطبع سيعزز مشروع إحياء مسار رحلة العائلة المقدسة الذى تتبناه مصر منذ سنوات، الذى يمكن أن يكون أحد أهم فرص الجذب السياحى.
وبالطبع كان للفن القبطى دور كبير فى الاحتفاء بالرحلة طوال ألفى عام، من خلال أيقونات وجداريات تظهر الاعتزاز بكون مصر ملاذ العائلة المقدسة وقت الشدة. بالإضافة لتراث معمارى فريد للعديد من الأديرة والكنائس التى بُنيت فى المواضع التى نزل فيها المسيح ووالدته لبعض الوقت مثل أديرة وادى النطرون، وكنيسة أبى سرجة بمجمع الأديان بمصر القديمة، وجبل الطير، ودير المحرق بأسيوط. وتتميز الأيقونات القبطية التى تسجل الرحلة بالرمزية، والبعد عن التفاصيل، حيث يظهر فى أغلبها العائلة المقدسة على بغل أو حصان وفى الخلفية تظهر الأهرامات، أو ما يبدو مدينة أو سورها الخارجي، وأحيانا الصحراء.

الرحلة إلى مصر

ارتبطت رحلة العائلة إلى مصر بحدث الميلاد، لأنها جرت بعده مباشرة. لكن غالبا ما يجرى استبعادها فى الغرب من الاحتفالات الشعبية بعيد الميلاد، نظرا للطابع الرثائى لمذبحة الأبرياء التى سبقتها، وما تضمنته من خوف، وهروب، ومخاطر، يراها البعض غير ملائمة للطابع المبهج للأعياد. ورغم ذلك فقد حظيت الرحلة باهتمام عدد كبير من فنانى العالم، وأبدعوا لأجلها العديد من الأعمال الموسيقية والتشكيلية والدرامية، العشرات منها تحمل اسم «الرحلة إلى مصر».
الكثير من الأعمال تناول الرحلة كأحد فصول طفولة المسيح، يأتى مباشرة بعد حدث الميلاد. ومنها «أوراتوريو المسيح» الذى ألفه الموسيقار «فردريك هاندل» عام 1741، ويبرز خلاله رحلة العائلة المقدسة إلى مصر. وهو العمل الذى ارتبط بعادة متوارثة، حيث يقف الجمهور عند عزفه، وذلك تقليدا للملك جورج الثانى الذى انفعل عند سماعه لأول مرة، فوقف إجلالا له. هناك أيضا مقطوعة «وداع الرعاة» الشهيرة التى ألفها «هيكتور بريليوز» منتصف القرن التاسع عشر. وتعبر عن وداع الرعاة للعائلة المقدسة خلال رحلة هروبهم، واستراحتهم على الطريق، والترحيب بهم فى مصر. وقد تناولها بنعومة، وبعيدا عن الألم، والرثائية المأساوية. وهى الجزء الثانى من عمل كبير بعنوان «طفولة المسيح». وتحت عنوان «الرحلة إلى مصر» توجد عدة ترانيم وأغنيات كنسية متوارثة، ذات أصل أيرلندى، ويرجع عمرها إلى خمسة قرون على الأقل، وهى من تأليف رهبان الأديرة. كما توجد أغنية تدعى «أنشودة شجرة الكرز» لشاعر غنائى مجهول، تستند لحكايات شعبية. وفى العصر الحديث أُلف الكثير من الأعمال حول الرحلة، ومنها عمل مهم بعنوان «رحلة إلى مصر» للموسيقار «جون هاريبسون» وهو من حركة واحدة، ومدته 14 دقيقة، مكتوب لأوركسترا الحجرة والسوبرانو والباريتون، وفاز عام 87 بجائزة بولتيزر. كذلك أغنية «رحلة إلى مصر» التى كتبها «فنسنت وليام أوهير الثالث» عام 1963، وهى أنشودة جماعية للكورال. وتوجد أغنية معاصرة تدعى «الهروب» من تأليف وألحان «ديفيد جون أرندت» من ألبوم «شاهد الحب». بالإضافة إلى أغنية «رحلة إلى مصر» من ألبوم «أخبار جيدة» لفريق «أوردنارى تايم»، صدرت 2016، وأغنية «لاجئ» لـ»ستيف بيل» وصدرت 2012 وتصوِّر المسيح كطفل لاجئ من الاضطهاد، وتلقى الضوء على معاناة أمه.

جداريات ولوحات

سُجلت رحلة العائلة المقدسة كحدث دينى، أمرت الكنائس والأديرة بتنفيذه على هيئة جداريات من الفريسك أو الفسيفساء، وأيقونات، ولوحات. وكان الفنانون يلتزمون برسم مواقف محددة وردت فى الكتاب المقدس، مع إضافات رأوها منطقية، أو مما ورد فى بعض الرؤى. لكن نظرا لكون رساميها لم يشاهدوا البيئة المصرية، فقد ظهرت المشاهد على خلفيات من الطبيعة الأوروبية، ومبانيها. وبالطبع تنوع تناول الفنانين للرحلة، من مكان إلى آخر، وعبر الزمن. وخلال العصور الوسطى وُضعت رسوم الرحلة داخل الكتب الدينية فى ترجمة بصرية شبه حرفية للمحتوى المكتوب، على سبيل التوضيح، وتعزيز التخيل. ويلاحظ أنه فى الأعمال المبكرة تظهر العائلة تسير على الأقدام، والمسيح محمولا. ولاحقا أضيف الحمار أو الحصان أو البغل، وفق التصور الخاص لصانع الجدارية أو اللوحة. وقد نُظر إلى كلٍ من الحمار أو البغل كحيوان يسهل الحصول عليه، وهو ضرورى لحمل امرأة فى حالة إعياء وتعجل، مع رضيعها. أما الحصان فيعبر عن العظمة التى سيصير عليها الطفل الوليد. كما تم إضافة شخصيات فرعية أحيانا، وملائكة تظلل وترعى العائلة، أو تقود الدابة. ويظهر المسيح الرضيع محمولا من قبل أمه فى معظم الأعمال التى تصور رحلة الذهاب، بينما يظهر الطفل ماشيا على قدمية، أو محمولا من قبل القديس يوسف فى أغلب الأعمال التى تصور رحلة العودة. ويمكن القول بأن التناول الرمزى غلب على رسوم العصور الوسطى، وغابت البيئة المصرية حتى فى أعمال عصر النهضة، رغم البراعة فى رسم الشخوص والحركة. ويظهر ذلك فى جدارية كنيسة «سكروفينى» فى «بادوفا» بإيطاليا للفنان «جيوتو»، وكذلك جدارية الفنان «تيرامو بياجيو» بكنيسة سيدة النعمة فى «شيافارى» بإيطاليا. وجمعت بعض الجداريات بين مشهد مذبحة الأبرياء والدخول الآمن إلى مصر كجدارية الفنان الإيطالى «فرانشيسكو دى ميلانو» والموجودة فى كاتدرائية «كونجليانو» فى «فينيتو» بإيطاليا. ومن عصر النهضة أيضا توجد لوحة للفنان المعروف «رافييل» بعنوان العائلة المقدسة، وكذلك لوحة للفنان «كرافاجيو» الذى رسم العائلة المقدسة فى مشهد بديع خلال توقفها فى أحد البساتين بعد سفر ثلاثة أيام متواصلة. والمشهد يستند إلى الفلكلور والحكايات الشعبية فى العصور الوسطى أكثر من استناده للإنجيل، ويتضمن البغل الذى سافروا عليه، وملاكا أنثى تعزف على الكمان، وهو إضافة من الفنان الذى لم يُعرف عنه التدين.. ويظهر الولع الباروكى فى التناقضات البصرية بين النور والظلام فى لوحة الفنان الألمانى «آدم إلشيمر» من القرن السابع عشر، الذى اختار مشهدا ليليا للرحلة. ومن الحقبة نفسها توجد لوحة للفنان الإسبانى «بارتولومى موريللو» عن رحلة العائلة، فيما يفترض أنها منطقة فى محافظة الشرقية الآن، ويظهر فيها الثلاثى مع الملائكة الحارسة فى السماء. ويغلب عليها حالة درامية، تعكس القلق والترقب. وله لوحات أخرى تصور مراحل عديدة من الرحلة. كما جسد الألمانى «فيليب أوتو رونجى» من العصر الرومانسى المبكر فى القرن الثامن عشر الرحلة فى مشهد «استراحة داخل مصر». أما الفنان الإيطالى «جيوفانى ديمونيكو تيبولى» من القرن الثامن عشر أيضا فرسم الرحلة فى سبع وعشرين لوحة متسلسلة. وظهر مشهد عبور العائلة المقدسة لنهر النيل فى العديد من الأعمال، منها لوحتا الإيطاليين «فرانشيسكو فونتيابسو»، و«بيترو موناكو» من القرن الثامن عشر، وتظهر العذراء فى الثانية، ترضع طفلها داخل قارب بينما يمسك ملاك صغير رسن الدابة.

رحلة المستشرقين

استمر تصوير الرحلة، خلال القرن التاسع عشر، وظهرت البيئة المصرية الحقيقية لكون بعض الرسامين من المستشرقين قد زاروا مصر، وعرفوا تضاريسها ومبانيها. وحتى الذين لم يزوروها، تأثروا بأعمال المستشرقين، فظهرت الخلفيات أقرب للواقع فى أعمالهم. وضمت بعض الأعمال آثارا فرعونية مرسومة بكثير من العناية والإتقان. وسنجد الأبنية الأثرية، والأهرامات على سبيل المثال فى لوحة الفنان الإنجليزى «إدوين لونج»، الذى استخدم خياله فيما يتعلق بالبشر، ووضعهم بشكل مسرحى كخلفية للعمل، بدت غنائية على نحو كبير. ومن أعمال تلك الفترة أيضا جدارية بازليكا القديس «أوغسطونيوس» للرسام «بيترو جاجلياردى». وتظهر البيئة الصحراوية المصرية بشكل واقعى، وتبدو كفضاء شاسع وموحش يكاد يلتهم المشهد فى لوحة المستشرق الفرنسى الشهير «جون ليوم جيروم»، مع ملاك يطير أعلى اللوحة حارسا للعائلة. كما رسم الرحلة كلٌ من الفنان الفرنسى «جيرارد ديفيد» والأمريكى من أصول أفريقية «هنرى تاتر»

وما زالت «الرحلة إلى مصر» تلهم فنانى العالم إلى اليوم، ويستخدمها البعض للتعبير عن قضايا معاصرة مثل الاضطهاد الدينى، وحق اللجوء الإنسانى، خصوصا للأطفال والنساء، وغير ذلك من القضايا. وبشكل عام فإن الصورة التى تقدمها الرحلة دائما وعلى مر الزمن هى أن مصر بلد الأمان التى استضافت العائلة المقدسة. وهو ما يستحق تعزيزه بأفكار إبداعية، تروِّج للمسار من الناحية السياحية، وتؤكد صورة مصر كبلد مضياف، ومتسامح، على مر العصور.

أقرأ أيضأ : محافظ أسيوط يتابع الأعمال النهائية لتطوير مسار رحلة العائلة المقدسة بطريق دير درنكة