د. دينا محمد عبده تكتب: نبوءات أدبية تحولت لواقع ملموس

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

يعتبر أدب الخيال العلمى أحد الأنواع والاتجاهات الأدبية التى أثرت فى الحياة الفنية فى مختلف العصور والآداب، وقد اعتمد هذا النوع على العالم الخيالى الذى يختلقه الكاتب أو المؤلف مستعينا بتقنيات أدبية تتضمن وتعتمد على نظريات علمية فيزيائية أو بيولوجية أو تقنية.

يترك الكاتب لخياله العنان لكى يستنتج ظواهر جديدة ويتنبأ بأشكال مختلفة للحياة فى المستقبل. ويتنوع الإطار الزمانى والمكانى لدى كاتب الخيال العلمى، فقد تسير أحداث روايته فى المستقبل القريب أو البعيد أو فى أزمنة بديلة وأيضا يتنوع الإطار المكانى فقد تجرى الأحداث على سطح كوكب الأرض أو على سطح كواكب أخرى أو فى الفضاء أو فى أى مكان فى الكون.

 يربط النقاد بين أدب الخيال العلمى وعلم الأساطير، ويرجعون بوادر ظهوره إلى القرن الثانى والثالث عشر، ويرون أن حكايات ألف ليلة وليلة تمثل النواة الأولى لهذا النوع الأدبى. أما التطور الحقيقى له فيظهر فى القرنين الثامن والتاسع عشر، حيث تعتبر «رحلات جاليفر» (1726) للكاتب الإنجليزى جوناثان سويفت ورواية فرانكنشتاين» (1818) للكاتبة الإنجليزية مارى شيلى من أوائل أعمال أدب الخيال العلمي. 


وفى دراسة حديثة للباحثة الروسية ناتاليا جالاتسان رصدت أهم عشر روايات من أدب الخيال العلمى تحولت إلى واقع ملموس بعد أن كانت مجرد أساطير من نسج خيال مؤلفيها ويمكن رصد تلك الأعمال على النحو التالى. 


رواية (باريس فى القرن العشرين) للكاتب الفرنسى جول فيرن التى أنتجت ما بين عامى 1863 و1864 والتى لقت عراقيل فى نشرها بسبب الأحداث القاتمة التى وردت فيها فيما يتعلق بالعاصمة الفرنسية فى ذلك الوقت. ومن الغريب أن هذه الرواية لم تر النور إلا عام 1994عندما عثر علىها أحد أحفاد الكاتب بمحض صدفة.

يصف الكاتب باريس البائسة فى المستقبل الذى كان يمثل له ستينيات القرن العشرين. فبطل الرواية الشاب ميشيل كان لديه قدرات إبداعية خاصة ولكنه لا يستطيع تطبيقها فى ظل هذا العالم القاسى. وقد كان دائما فى رحلة كفاح للبحث عن عمل ولكنه لم يتمكن من ذلك.

وتصف الرواية أن الجماليات فى هذا الزمن بدأت تندثر  حيث بدأت تظهر التقنيات الحديثة التى تهزم الجمال والفن. يصف الكاتب فى الرواية أجهزة حاسوبية معقدة تعمل بالكهرباء تنفذ عمليات مختلفة داخل البنوك ولها القدرة على نقل المعلومات عبر مسافات هائلة. كانت الرواية بالطبع استشرافاً مدهشاً للمستقبل واكتشاف لعالم الكمبيوتر والإنترنت. 


رواية (عشرون ألف فرسخ تحت الماء) التى صدرت لنفس الكاتب الفرنسى جول فيرن عام 1870م قد أثارت دهشة الكثيرين. كيف لكاتب كان يعيش فى القرن التاسع عشر يمكن أن يختلق فى روايته جسماً اصطناعياً يشبه القوقعة يستطيع أن يغوص فى أعماق المحيط ويسير لمسافات طويلة دون إعادة شحنه.

فقط فى ستينيات القرن العشرين ظهرت الغواصات المائية بمحركات كهربائية. أما الغواصات الحديثة فى يومنا هذا هى الوحيدة القادرة على اكتشاف أعماق البحار والتحرك تحت الجليد إلى القطبين.

ففى زمن الكاتب الفرنسى كانت تلك الغواصات درباً من الخيال وكانت أى محاولات لإنزال أى أجسام لاكتشاف أعماق البحار سرعان ما تبوء بالفشل وتغرق بعد اخفاقها فى قطع القليل من الكيلومترات.


لم تنته روايات الخيال العلمى للكاتب الفرنسى جول فيرن عند هذا الحد، فقد صدرت له قصة قصيرة بعنوان (يوم واحد لصحفى أمريكى عام 2889) وذلك عام 1889 وصف فيها شيئًا يسمى (فوتوتيليفوت) يمكن بمساعدته رؤية شخص ما ليس موجودا فى نفس مكانك من خلال شاشة وتتحدث معه أينما كان.

وهذا ما يذكرنا اليوم ببرامج Skype وZoom التى تتيح التحدث مع أى شخص فى أى مكان من خلال الفيديو عبر الإنترنت. كما يصف الكاتب الفرنسى بطله الصحفى الأمريكى فى القصة التى تدور أحداثها بعد 1000 عام من تاريخ نشر القصة وهو يستخدم جهازا ضخما نوعا ما من الواضح أنه ليس جهازا محمولا يشبه هواتفنا الذكية.

 فقد أصاب فى تنبؤه بظهور برامج التواصل المرئية لكن ربما أخطأ فى التنبؤ بالوسيلة أو الجهاز المناسب المستخدم فى ذلك. وقد أطلق لنا العنان فى تخيل الوسائل التى سيتواصل من خلالها الصحفيون مستقبلا عام 2889. 


بالانتقال إلى كاتب آخر وعمل أدبى تنبؤى يمكن التحدث عن رواية (العالم المحرر) للكاتب الإنجليزى هربرت جورج ويلز التى صدرت عام 1914 والتى تعتبر من أحلك نبوءات الكاتب التى تحققت للأسف بعد اختراع القنبلة الذرية والحرب النووية وتم وصفها فى الرواية.

ومرت أكثر من ثلاثة عقود منذ كتابة الرواية وسقطت القنابل الذرية على مدينتى هيروشيما وناجازاكى اليابانيتين. فى غضون ذلك سخر ألبرت أينشتاين نفسه من إمكانية انقسام الذرة وخلق أسلحة نووية كان قد «تخيلها»، واصفا إياها بالهراء.


الكاتب الأمريكى الروسى الأصل إسحاق أسيموف قدم بأعماله القصصية والروائية تصورات وتنبؤات عديدة لعالم الروبوتات، ويظهر ذلك فى معظم كتاباته ومنها قصة (روبي) التى صدرت عام 1940. تناول فى أعماله الكثير من الأمور الجادة ولا يمكن بأى حال من الأحوال اعتبار إبداعه ينتمى إلى الأدب الترفيهي.

 فى قصة (روبي) صاغ أسيموف أحد قوانينه الثلاثة الشهيرة الخاصة بتقنيات الروبوتات وهى أن الروبوتات لا يمكن أن تؤذى الإنسان. فى وقتنا هذا تحيط بنا الروبوتات بداية من آلات صنع القهوة حتى السيارات والطائرات والصواريخ.

والبعض منها يساعد الإنسان فى حياته ويخفف أعباءه، فيعد طعامه وينظف مسكنه ويغسل ملابسه، حتى الآن الروبوت هو صديق للإنسان وليس عدوا له. 


تنبأ الكاتب البريطانى السير آرثر كلارك فى رائعته (أوديسا الفضاء 2001) التى صدرت عام 1951م بظهور أقمار صناعية للاتصالات فى مدار الأرض. لم يستغرق الأمر وقتا طويلا فقد تم بالفعل إطلاق أول قمر صناعى من هذا القبيل عام 1965م وقد كان هذا بمثابة الأساس لإنشاء أنظمة اتصالات عالمية حديثة.

ويٌذكر أن الكاتب البريطانى قد أعرب عن أسفه لعدم تسجيل براءة اختراع لفكرته. فى عام 1968م تم تقديم رواية كلارك للسينما والتى لاقت نجاحا كبيرا وأصبحت الأساس لتطور الخيال العلمى السينمائي.


صدرت رواية الكاتب الأمريكى راى برادبرى ( فهرنهايت451) عام 1953. وعلى صفحات تلك الديستوبيا المظلمة اختلق الكاتب سماعات أذن صغيرة يستخدمها الأبطال فى صراعهم. وبعد مرور نصف قرن من الزمان أصبحت تلك السماعات شيئا اعتياديا ضمن أشياء الناس المستخدمة فى حياتهم اليومية.


فى روايتهما (ظهر القرن الثانى والعشرين) التى صدرت عام 1967 للشقيقين الروس وكاتبى الخيال العلمى أركادى وبوريس ستروجاتسكى أبدع الكاتبان فكرة متجر المستقبل الذى يتم من خلاله حجز الطلبات واستلامها دون مغادرة المنزل وأبرز تلك الطلبات هى الطعام.

وقدم الأخوان ستروجاتسكى وسيلة تنفيذ تلك الفكرة وهى التليفون. وهذا يبرز تنبؤ الكاتبين بآلية (الدليفري) التى أصبحت اليوم جزءا من حياتنا وتتم عن طريق المحمول ولكن فى الأغلب حاليا عن طريق تطبيقات الإنترنت. 


قدم الأخوان ستروجاتسكى عام 1979 مؤلف بعنوان (خنفساء فى بيت النمل) تضمن فكرة تشبه الويكيبيديا الحالية تعتمد على تقديم كم من المعلومات الهائلة عن طريق جهاز ضخم يحتوى على معلومات متنوعة ويعمل ليس فقط كموسوعة.

وإنما كدليل هاتف ودفتر عناوين، ويمكن لأى شخص أن يستخدمه وقتما يحتاج إليه ولكنه يحوى أقساماً مغلقة للمتخصصين فقط بمستويات مختلفة. وبالاختلاف عن وقتنا الحالى فإن الويكيبيديا متاحة للجميع. 


أما (دليل المسافر إلى المجرة) عام 1980 هى رواية خيالية فى قالب فكاهى للكاتب الإنجليزى دوجلاس آدامز يحكى فيها عن سمكة بابلية قادرة على الترجمة من لغة إلى لغة أخرى فى التو واللحظة.

وجاءت السمكة ككائن حى حقيقى ينفذ من الأذن إلى القنوات السمعية ويبدأ الانسان فى فهم كلام لم يكن مألوفًا له من قبل. فى عام 2014 قدم جوجل تقنية الترجمة الفورية أونلاين عبر الإنترنت.


مع إعادة قراءة كلاسيكيات الخيال العلمى فى الأدب العالمى يتضح أن تنبؤات الأدباء أصبحت تحديا للمخترعين والعلماء وبدوا كما لو كانوا قد استمدوا أفكارهم منهم. فالأدباء يحلمون بأشياء بعيدة المنال وينقلونها على صفحات رواياتهم وكتبهم فى قوالب فنية متعددة.

 يشير البعض إلى أن الخيال التقنى قد استنفد وبالتالى نفد لدى الأدباء وأصبحوا لا يعرفون أى طريق يسلكون. وإذا جاز التعبير: ماذا هناك الآن يمكن اختراعه بعد ذلك؟

وهنا تظهر للمخترعين الأفكار حول إمكانية تطبيق هذه التقنية أو تلك. كم فكر الإنسان فى إمكانية الطيران مثل الطير بشكل مستقل دون طائرة والآن أصبحت البدل المجنحة حقيقة واقعة. 

اقرأ ايضًا | محمد عبد الباسط عيد يكتب: دفاعًا عن العقلانية: الانحياز إلى الابتداع والاجتهاد