عبدالله العقيبي يكتب: سؤال القراءة السنوي: رواية من أجل المستقبل

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

ويعود سؤال القراءة السنوية فى نهاية كل عام، كنوع من المحاسبة الثقافية، وعلى أن الأمور يجب ألا تُحسب بهذه الطريقة، فقد ذكرت أكثر من مرة بعدم جدوى الماراثون القرائي، الذى يحولنا فى بعض الأحيان إلى آلات قراءة، مثل تلك التى تعد النقود، إلا أن الأمر لا يخلو من فائدة قد لا نتوقعها، مثل استرجاع الحالة القرائية، ومحاولة تنظيمها بشكل أفضل، أو تعثر أحد القرّاء بعنوان أو كاتب لم يقع فى طريقه من قبل.

الروايات العربية
بحكم اهتمامى وتخصصى العلمي، تقع الروايات العربية فى أعلى المرتبة القرائية لدى خلال العام، وسأحاول أن أكتب ما تسترجعه ذاكرتي، تحرياً للصدق، ففى اعتقادى أن ما تستعيده الذاكرة دون عناء، هو الأولى بالذكر.

وأول ما يلتمع فى ذاكرتى الآن، رواية «رف اليوم» للكاتبة السعودية نجوى العتيبي، والصادرة عن دار أثر ٢٠٢٢، ورغم أن الرواية عملها الأول، فإننى أراها رواية جديرة بالاهتمام، من حيث الموضوع والتقنيات السردية، فقلما نجد رواية أولى تكون على هذا المستوى من النضج الفنى، كما أنها رواية لليوم والغد، وليست رواية للأمس، وهى بذلك تكسر القاعدة السردية المشهورة.

أى الكتابة عمّا كان، فموضوع الرواية يتحدث عن الإنسان الرقمى، أو بتعبير المصطلح الحديث الذات الرقمية، وفى ظنى أن هذه الرواية دخلت فى عدة تحديات، منها تحدى قراءة اللحظة، وتحدى التقنيات السردية، وتحدى المعجم اللغوى الروائي، وعلى أنها رواية صغيرة تُقرأ فى جلسة واحدة إلا أنها من الروايات المربكة التى تترك فينا أثراً إنسانياً عميقاً، بأسئلتها الوجودية، ولغتها المقتضبة. 


الرواية الثانية العالقة فى الذهن أو فى القلب، هى رواية محمد الفخرانى «لا تمت قبل أن تحب»" الصادرة عن دار العين ٢٠٢٢، ولم أقل إنها عالقة فى القلب لأنها رواية رومانسية، بل لأنها رواية مكتوبة بحس وجدانى وإنسانى بحت، تتداخل فيها المشاهد والأحداث والأصوات على هيئه هفهفة النسيم اللطيف، مصاحباتها صوت بيانو، ودراجة فتاة، ومحال على الشاطئ وبلكونات.

وأنا بالعموم أحب الروايات المصرية التى تقع أحداثها فى الإسكندرية، بخلاف ذلك الرواية عرفتنى على لطافة وسهولة لغة الفخراني، التى شغفت بها،الرواية الثالثة هى رواية "»الوصايا»" للكبير عادل عصمت، الصادرة عن الكتب خان ٢٠١٨، واخترتها هنا لأنها أعادت لى وهج الرواية الكلاسيكية.

وقد اعتقدت أن المسافة السردية اليوم باعدت بيننا وبين الأعمال الثقيلة ذات الوزن العظيم قيمةً وبناءً، المكتوبة بتؤدة وصبر وأناة، فرواية "الوصايا" رواية أجيال تعاقبت على التعب الدنيوي، ذلك النوع من التعب الذى لا يستريح فيه الراوى حين يحكى حكايته، بل يجعل منه تعباً متاحاً يتقاطع مع تعب المتلقي؛ ليضع كتفه جوار كتف الراوي، ويحفزه على تحمل هذا التعب.


الروايات المترجمة
قرأت عدداً كبيراً من الروايات المترجمة هذا العام، لكن الرواية الأكثر علوقاً فى ذاكرتى هى رواية «طرائق مختلفة للنظر إلى الماء»" للروائى الإسبانى خوليو ياماثاريس، ترجمة طلعت شاهين، والصادرة ٢٠٢٢ عن دار صفحة سبعة.

وجمال هذه الرواية أنها بشكل من الأشكال عن الأب، وأنها عن التهجير، التهجير الذى كان وسيظل من أقبح إبداعات العنف الاقتصادى الذى تمارسه الدولة، وسواء كانت لأسباب مبررة أم لا، فالحاصل أنه دائما وأبداً يخلف الويلات للعائلات المهجّرة، إذ يصيبهم قسراً بداء الحنين إلى الأمكنة. 


ليس فى العمل عبقرية سردية إذ يستخدم الكاتب تقنية الأصوات المتعددة (الرواية البوليفونية)، لكن العبقرية تكمن فى اختياره الشجاع لهذه التقنية المستهلكة، ومعرفته بأنها أفضل خيار سردى يمكن أن يعبر عن خطاب الرواية.

وذلك للتعبير عن حالة العجز التى اعترت الأب، وجعلت غياب صوته مبرراً، بل مهماً، لأنه قرر بعد التهجير ألا يعود إلى القرية التى طُمرت تحت مياه الخزان، وجعل الكاتب من هذا الغياب موضوعاً مهماً يختلف حوله شخوص الرواية، الذين هم أبناؤه وأحفاده وأصهاره أيضاً.

وليكون من كل تلك الأصوات حالة تعبيرية روائية بامتياز، تقول ولا تقول، تختلف وتتفق، وتتصارع مع حالة التهجير، ففيما يرى البعض المصلحة العامة المترتبة على وجود حل مائى تقترحه الدولة، يركز البعض الآخر على البعد الإنسانى المترتب على هذا الفعل.

وهذا بحد ذاته من الموضوعات الأثيرة فى التعبير الروائي، فهى قطعاً حالة مسكوت عنه، وتعبير غير ملتفت إليه، فصوت المهجّر صوت لا قيمة له خارج التعبير الأدبي، صوت مقموع سلفاً.
ولو أردت توصيف الرواية إجمالاً يمكننى القول بأنها رواية السهل الممتنع.

ذلك لأن حدثها الرئيس حدث بسيط جداً، فالأب رغم تصريحه لشخوص الرواية بعدم رغبته فى العودة إلى القرية المطمورة تحت ماء الخزان، يفاجئ الجميع برغبته فى أن يحرق بعد موته وينثر رماده فوق ماء الخزان، مبرراً ذلك برغبته فى مشاركة أسلافه نفس المثوى.

ورغم أن هذا الحدث يؤثر فى أفراد العائلة المتدينة خاصة الأم، إلا أن كل الأصوات التى تعبر عن خطاب الرواية تتحدث فى لحظة واحدة، عن فكرة التهجير القسري، وهى لحظة جوهرية مفعمة بالتناقض الإنساني.

والأجمل من ذلك أنها لحظة حلت بعد طمر الماضى بخمسين عاماً، أى بعد تكون تعقيدات إنسانية جديدة، بالإضافة إلى أن الأصوات التى عبرت عن هذا الموقف أصوات مختلفة من ناحية العمر، ومن ناحية القرابة للأب، ما جعل هذه الحالة من التفاوت تشكل نسيجاً سردياً ناضجاً.

ولا يميل إلى الحالة الشعرية كما فى روايته المطر الأصفر، بل يعبر عن حالة التضاد الإنساني، الذى يثمر بدوره خطاباً مستقلاً، يجعل من بيان الرواية تساؤلاً مدوياً وليس إجابة فوقية فجة.


كتب أخرى 
اعترف بتقاعسى عن القراءة خارج السرد، لكن حصيلة هذا العام من القراءات العامة كانت جيدة إلى حد ما، كان من خلالها مكسبان مهمان الأول فى مجال الرياضة، كرة القدم تحديداً، والثانى كان حول قصيدة الهايكو اليابانية.


كتاب كرة القدم كان نوعياً، إذ ينظر إلى اللعبة من وجهة نظر سوسيوثقافية، كونها نوعاً جديداً من الولاء الجماعي، وهو كتاب الدكتور العراقى على ناصر كنانة "الولاء البديل" الصادر عن دار الجمل ٢٠٢١، ويطرق المؤلف من خلال دراسته حقلاً جديداً ورائداً، إذ يبحث فى التأثيرات العميقة لكرة القدم.

والتى طغى تأثيرها وحماستها على الولاءات الأصيلة لدى المجتمعات الإنسانية، والكتاب زاخر بالإحصاءات والمفارقات العجيبة لهذه اللعبة المجنونة، لكن الكاتب يسلط الضوء على الدوام الجانب الوحشى منها.

ويحاول جاهداً مقارنته بباقى مناحى الحياة فى المجتمعات الإنسانية، وعن علاقة المجموعات داخل هذه المجتمعات بكرة القدم، فعلى سبيل المثال يراقب علاقة المثقف بها، وعلاقة السياسي، ثم يقترب من فكرة تحولها إلى ديانة جديدة، وتتميز هذه الدراسة بالنظرة التفكيكية للخطاب الناتج عن فكرة التشجيع، التى من خلالها خرج بنتائج عظيمة تستحق التأمل والنظر الفاحص.


أما الكتاب الآخر، وهو آخر قراءاتى لهذا العام، فهو كتاب "مهاكاة ذى الرمة" للشاعر السعودى حيدر العبدالله، والذى يتضح محتواه من خلال العنوان الرديف للكتاب "أطروحة الهايكو العربي"، والكاتب منذ المقدمة يحاول أن يقول إن الهايكو العربى الذى انطلق منذ ستينيات القرن الماضى بعيد إلى حد كبير عن المفهوم الصحيح لقصيدة الهايكو اليابانية.

ومن أجل ذلك بدأ بشرح مفهوم الهايكو عند أهل صناعته، فيقدم نظرة تاريخية لا ينقصها التحليل ومحاولة الفهم، ومن خلال هذه النظرة التاريخية يوضح المثالب التى وقع فيها الهكاة العرب على حد تعبيره واجتراحه للتسمية العربية للهايكو "هكا يهكو هكواً وهكاءً فهو هكاء وهم هكاة"، ثم يقدم مقترحه من خلال نقاط التقاطع بين الثقافة اليابانية القديمة.

وعلاقتها بالزن، ويربطها بالتصوف الإسلامي، كخير معين على فهم تصورات الهايكو الصحيحة، ثم يقدم مقترحه الأساسى فى كتابه من خلال وجود سنغ متطابق من حيث المفهوم المتعلق بالطبيعة، من خلال ديوان ذى الرمة، الذى وجد فيه هاكياً حقيقياً يستحق شعره التأمل والمراجعة من هذه الناحية.


الكتاب لا يخلو من غرابة ومغامرة وهذا من عادة الشعراء عندما يخوضون غمار تجربة جديدة، لكنها مغامرة لذيذة مليئة بالفوائد المعرفية والجمالية، كما أنها تقدم للقارئ خارطة شاملة ومفصلة عن كل ما يخص الهايكو بشقيه اليابانى والعربي. 


وعندما أتأمل عامى القرائى وانظر للعديد من التجارب القرائية التى خضتها فيه، وأراجع مصادرى التى من خلالها اهتديت إلى بعض العناوين، والكتّاب، يترسخ لدى الفهم الذى طالما تصورته عن القراءة، فى كونها نوعا من الحظ والنصيب.

الذى يخيب مرة ويصيب مرة، عندما يخيب نصاب بالفتور ونفقد الرغبة فى القراءة، وعندما يصيب نتعافى وتصح أذهاننا وأبداننا، ونواصل المشوار فى سعادة ورضا، فالكتب تشبه الحياة والناس، وحبنا لها نابع من هذا التشابه. 


اقرأ ايضًا | قراءة فى «هايكو عذاب الركابى»