محمد عبد النبي يكتب: كل يوم تقريبًا

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

لَطمه صوتُ أمه تصرخ مُناديةً عليه مِن شقة الطابق الأرضي، تُكرِّر اسمه فى استغاثةٍ ولوعة. كانت تناديه أحيانًا، مِن ناحية المنور، لأمرٍ ما، لكن ليس بهذا الإلحاح والذُعر فى صوتها؛ لذلك أدركَ أن شيئًا سيِّئًا قد وقع، نزلَ مندلقًا على السلالم بلا تفكير وهو يرتعد.


كان والده قد رجعَ مِن صلاة الظهر فى المسجد، وجلس يتكلَّم معها ويتضاحك عندما تحشرج صوته واختنق؛ وعندئذٍ صرخت هى على فؤاد، الذى نزلَ فى ثوانٍ ليجده جالسًا على الأريكة ومائلًا برأسه للوراء. وقفَ أمامه لاهثًا ذاهلًا لا يدرى ماذا عليه أن يفعل. أخذَ يدلِّك له صدره.

ومِن ناحية قلبه، أو يفرك جبينه أو يفيقه بينما ترشُّ أمه على وجهه بعض الماء وتدعك به وجهه. بينما كان يحاول جاهدًا استعادته من الناحية الأخرى بأى طريقة. كان جزءٌ منه يدرك ألَّا جدوى ممَّا يفعل، وأنَّ أباه يُسلم الروح وأنَّ الأمر انتهى.


وفى وقفته اليائسة أمام أبيه المعلَّق بخيط، انتبهَ أن صُوات أمه قد جذب انتباه الجيران، فأتت أخته نُهى مِن بيتها المجاور وبعض سِلفاتها وجارات أخريات. أدركَ بينما يكافح ليستعيده أنهنَّ ورائة فى صالة الشقة الصغيرة يتكلمن وينصحن بارتباك وذُعر. شعرَ أنَّه مَكشوفٌ أمامهنَّ.

وفى مشهدٍ خاص للغاية، ما كان يجب أن يطَّلِع عليه أى شخص آخَر دخلَ هكذا بلا استئذان على صوت الصراخ. شعرَ بكراهية صافية نحوهنَّ فى تلك اللحظة، ومنعَ نفسه بالكاد مِن طردهن وسبِّهنَّ. صعدَ بسرعة إلى شقته وغيَّر ثيابه بينما يُرتِّبن مع بعض الجيران لأخذ الأب إلى مستشفى فى شبين القناطر. وضعوا أباه فى توكتوك، وعلى أملٍ.

وركب هو على موتوسكيل خلفَ جارٍ آخر، وانطلقوا فى موكب صغير مسافة عشر دقائق حتَّى مستشفى ما فى شبين.


وبدا كل شيء غريبًا. لم يزل فؤاد يذكر كَم كان الجو عذبًا والشمس حانية والهواء حُلوًا، يغرى بالخروج والتنزه وحب الحياة. لكن، إلى أين هم ذاهبون؟ ولماذا يأخذون أباه معهم وقد أسلم الروح؟ وكيف ترك أباه مسنودًا بين هذين الغريبين؟ هؤلاء هُم الناس الذين يعيش بينهم منذ ستة أشهر تقريبًا، هؤلاء هم مَن يمكنه الاستنجاد بهم ليغيثوه عند الشِّدَّة، هؤلاء مَن كان يتجنَّبهم.

ويترك أمر التفاعُل معهم لأبيه وأخته التى تعيش بينهم منذ زواجها وإقامتها هنا قبل أكثر مِن عشرين سنة. هؤلاء مَن سيكون عليه معاملتهم وحده منذ هذه اللحظة. عائلة واحدة كبيرة، كل شيء فيها مكشوف ومعروف.

وجميعهم يعرفون أباه منذ سنوات، خلال مراحل بناء البيت، طوبة طوبة، يعرفهم هو بالاسم وحتَّى أطفالهم يحبونه، وكثيرًا ما كان يأتى ويبيت هنا، قبل اكتمال بناء البيت، للضرورة أو حينما كان يأخذ على خاطره من أمه لسبب أو لآخر.

فهو ليس غريبًا عليهم؛ لذلك فالجميع يتحرَّك ويتصرَّف ويساعد، وفؤاد يطفو مع الموج بلا قدرة على التمييز أو الانتباه لشيءٍ محدَّد، كأنه يشاهِد هذا كله من الخارج، مِن بعيد، مِن أعلى، كأنه يتخيَّل نظرة الطائر، نظرة أبيه الآن وقد تحرَّر أخيرًا وأخذ يحوِّم حولهم مبتهجًا لطراوة الجو وساخرًا مِن جهودهم العبثية.


وفى دقائق نزل طبيبٌ شابٌّ أمامَ باب المستشفى بعد أن استدعاه أحدهم، كشف على أبيه وهم يسندونه فى التوكتوك، وقال ما معناه إنه خلاص البقية فى حياتكم، وإنه لا داعى لأن يدخلوا به والأفضل أن يأخذوه ويرجعوا.

ورجعَ الموكب بالميت فى نفس الجو الجميل، لسببٍ ما جلسَ فؤاد هذه المرة بجانبه يسنده فى التوكتوك. فى البيت أرقدوه على السرير وغطَّوه، ثم بدأ فؤاد الاتصال بأخيه وإبلاغ الأقارب.


كان يومًا مِثل بقية الأيام، فى الأسبوع الأول مِن يونيو، حرارته مُحتمَلة وشمسه رحيمة، إذ لا يزال فؤاد يذكر أنَّ الطقس كان طيبًا عليهم وهُم يسافرون لدفنه ثم وهم يحملون نعشه مِن الجامع القديم فى البلد إلى المدافن التى كان أبوه قد انتهى مِن إعداد وبناء عينٍ لهم فيها قبل أشهرٍ معدودة فقط.

وهذا هو آخر بيتٍ كان عليه أن يُشيِّده لهم ليكون هو أوَّل مَن يَعمُره. سافروا به إلى البَلد، جَنب ميت غمر، حيث بدأت الحكاية، وحيث لا بدَّ أن تنتهي. بعد الدفن والرجوع من المقابر ظلَّ تائهًا لا يدرى ماذا يفعل بنفسه، وفى العَزاء ظلَّ يصافح الأهل والغرباء ويرى مِن بعيد أخواته البنات فى الأسود.


وأبعد ما كان يتخيله أن يفقدَ أباه هكذا فجأة، بلا مقدِّمات. لم يعانِ أبوه مرضًا مُزمنًا أو خطيرًا، وحتَّى يومه الأخير كان يتحرَّك ويذهب ويجيء ويعافر ويشاكس، برغم سنواته السبعين، ورغم الشقاء والكدح منذ أن كان صبيًّا صغيرًا. صحيح أنَّه لم يكن من النوع الذى يجأر بالشكوى عمَّال على بطَّال.

ما لم يصل التَّعب لنقطة حرجة، باستثناء عملية ليزك فى عينيه وتركيب طقم أسنان، لم يشعر أنه بحاجة إلى أكثر مِن أدوية عادية إذا أصابته نوبة برد أو سُعال، ونجحَ فى الإقلاع عن التدخين منذ نحو عشرة أعوام

ولم يكن عمومًا مِن المغرمين بالتردُّد على عيادات الأطباء وتجميع روشتات الأدوية والتفاخر بقائمة متاعبه مثل بعض الناس، واعتمدَ على ابنه الكبير الذى يعمل فى شركة أدوية ويعرف بعض الأطباء غير البعيدين عن سَكنهم السابق فى شبرا الخيمة. حتَّى مفاصله وخشونتها وعَدم قدرته على ثنى ركبتيه تعايش معها كأنها مسألة خاصة.

وغاية ما هنالك أنه سيصلى على مقعد بلاستيك فى الجامع. بعد بضعة أيام مِن رحيله، كتب فؤاد عن أبيه بضع كلمات، وهو يغالب البكاء، دفعة واحدة بلا توقُّف كأنه يتلو صلاة أو دعاء من نوع خاص، كأنه يبرئ ذمته أو يودِّعه على طريقته.

جالب الخبز، ساقى النبات، والمؤذِّن فجرًا، ومُحدِّث الأفراخ والكتاكيت وهو يطعمها فى أيامه الأخيرة، الراحل فجأة كأنه على عجل، مثل مَن أدَّى واجبه ونهض مطمئنًّا مستريح الضمير. عامل الغزل والنسيج فى مصانع القطاع العام، ثم القطاع الخاص، بعد المعاش المبكر الذى جرح كبرياءه وأهان عافيته.

المحارب لسبع سنوات شهد خلالها الهزيمة ثم شهد النصر، والخارج من الجيش بلا شكر أو تحية، والمهتز طربًا مع ذلك أمام أفلام وبرامج احتفالات العبور كل عام. والد البنين والبنات، وجَدُّ قبيلة من الأحفاد، وطفلين من إحدى الحفيدات، يتوزَّعون بين الأحياء والبلاد والقرى، أورثهم التَّراحم والمحبَّة.

وطريقته فى الضحك ودمعته القريبة. عاشق الدَّرَّاجات النارية فى عِزِّه، يشترى ويبيع ويصلح، ولم يحرمه من الانطلاق بها إلا الشديد القوي. عدو الكسل وخصم المقاهى والتسالى وتضييع الوقت، كاره القعود ومدمن الحركة، كأنَّ التعب متعة والراحة مرض.

وصاعد ثلاثة طوابق لاهثًا ليسقى زرعًا، والساعى للمسجد ذهابًا وإيابًا موزِّعًا التحيات والمناكفات من حوله. صافى الضحكة، المحب لعلى الكسَّار، فى كل أفلامه، وخصوصًا (سَلِّفنى تلاتة جنيه)؛ لأنه كان يُذكِّره.

وفى شكله وكلامه، بأبيه راعى الغنم المحبِّ للحياة والنساء، والذى لم يترك لأولاده غير السَّتر. مُزوِّج البنات، اثنتان منهنَّ فى ليلة واحدة مشهودة، الفخور بولديه، المتَّصل بهم جميعًا على الهاتف بمناسبة ومن غير مناسبة، المتسامح معهم وتاركهم يختارون حياتهم كلٌّ كما يشاء ويرى.

والآكل ما يجده أمامًا دون غَلبة أو كلام كثير، المقلع عن التدخين بين عشيَّةٍ وضحاها، بعد عشرات السنين مدخِّنًا شرهًا. جامع عصيِّ المشى من هنا وهناك، حتى وإن لم يكن بحاجة حقيقية إليها. الواقف فى الطوابير، والمتحدث مع الناس ببساطة فى المواصلات والأماكن العامة، والزائر الخفيف الذى لا يكاد يطيق البيات بعيدًا عن سريره وبيته ولو فى بيوت أبنائه وبناته.

والمولود فى الثامن من مارس 1945 فى ميت غمر بالدقهلية، والمتوفَّى فى التاسع من يونيو 2015 فى شبين القناطر، عن سبعين عامًا أحبَّ فيها الشقاء وقدَّس العَرَق وفتح البيوت وابتعدَ عن الناس وكلامهم، وعلَّم أولاده وكبَّرهم، شأنه شأن ملايين الملايين من صغار الناس الذين يدخلون الدنيا ثم يغادرونها كل يوم فى هدوء وصمت.

وبدون أن يشعر بهم أحد تقريبًا، إلا ذووهم، إلَّا الأقربون، إلا مَن أورثهم المحبة والضحكة والدمعة ونصف چيناتهم الطَّيِّبة وذكريات وصور وعبارات. الراحل سريعًا كأنه عصفور فُتح باب قفصه فجأة فحلَّق بعيدًا دون أن يلقى نظرة واحدة ورائة.

دون مرضٍ أو بهدلة مستشفيات وتقلُّب على أسِرَّة موحِشَة بين أيدٍ غريبة. العادى والبسيط والجاهل بالقراءة والكتابة، بالكاد يفكُّ الخط، ويميِّز اسمه وأسماء أولاده، فلن يعرف أبدًا مَذلَّة الكتابة ولا استحالة اختصار حياة حافلة فى بضعة أسطرٍ.


وقبل سنين من رحيل أبيه الحقيقى كان قد خطفَ لمحة حلوة من أبيه الذى فى السماء،وكان فؤاد طفلًا رضيعًا، محمولًا على ذراعين مطويتين لرجلٍ أسمر. الرجل ثابت مِثل تِمثال، كأنَّ شخصًا ما ترك الرضيعَ هناك بين يدَى التِّمثال وذهبَ، وكأنَّ الرضيع انتبه للوجه الثابت للرجل الغافل أعلاه.

وتطلَّع إليه وضحكَ أو نَغى محاولًا لَفت انتباهه؛ فانتبه عندئذٍ التِّمثالُ مِن جموده وحرَّك رأسه خافضًا بصره نحوه وباسمًا كأحلى ما يكون البَسْم. بدا كأنه ملك الملوك وهذا الرضيع، فؤاد، أوَّل أولاده، أو ربما ولده الوحيد.


وهذا كلُّ ما يتذكره مِن الحُلم، أو ربما كان هذا هو الحُلم كله، لكنه لا يستطيع أن ينسى ما شعرَ به إزاء تلك البَسمة، الفرحة والغِبطة التامة التى انتابته، شَبعٌ تام ورضىً نهائى فَلا شيء مِن بعد ذلك يُرجَى. سيحاول تأويل الحُلم.

وفى سياق انشغاله بالعقيدة البوذية لبعض الوقت، فكأنَّ هذا الرجل كان البوذا بذات نفسه، تمثالُه أو رمزه أو صورته، استدعاه فؤاد ليحمله للحظة ويهدهده ويهوِّن عليه. أو لعلَّه ذلك الأب السماوي، كما تصوِّره أديانٌ أخرى وأحلام جميع البشر منذ بداية الزمان، نحلمُ به يحملنا ويهدهدنا ويهوِّن علينا الطريق والحُمول ووَقع الزَّمن.

وببسمة تمحو كل حُزنٍ وخوف ووحشة. ثم عاد فقال: «لعلَّه أبى الحقيقي، بسُمرَته وملامحه القاطعة الواضحة، والحلم كله ليس أكثر مِن ذكرى آتية مِن بعيد جدًّا، من سنواتى الأولى فى الحياة، أو حتَّى ساعاتى الأولى فيها.

وقد ارتفعت بمعجزةٍ ما مِن عمقٍ دفين فى قاع الذاكرة إلى سَطْح الرؤيا وقد اكتنزت فى داخلها كلَّ المحبة الممكن الوصول إليها فى هذا العالَم». وسوف ينتهى للقول إنَّ هؤلاء كلهم شيءٌ واحد، اجتمعوا معًا فى صورة واحدة، انصهروا داخلها وعبَّرت عنهم وعَبرَتهم نحو شيءٍ أبعد.

والمهم ليس الوجه أو الاسم بقدر ما هى تلك الابتسامة المنشودة أبدًا، والتى يبدو أنها لا تتجلَّى إلَّا رمزًا، على أرض الحُلم أو فى اليقظة، لكن من وراء حجاب.


وبعد فترة لا بأس بها، روى هذا الحُلم فى ساعة صفاء لصديقتين طيبتين، إحداهما كانت معها طفلتها الصغيرة يتيمة الأب، ربما كانت فى الخامسة أو السادسة آنذاك، وقد تحمَّست للمشاركة فى التأويل قائلةً ما معناه إنَّ مَن يُحمَل إمَّا العروسة فى يوم زفافها وإمَّا «البيبي»، فأجابها ضاحكًا إنه ربما كان هو الاثنين معًا فى ذلك الحلم.

ويتذكَّر الآن أنه عندما باتَ ذات ليلة فى منزل هذه الصديقة نفسها بعد سهرة حلوة مع الأصدقاء، استيقظت البنت الصغيرة فى الصباح التالي، وكانت أصغر قليلًا، فوجدته لا يزال هناك فسألته بعفوية وبساطة وهو لم يُفِق تمامًا بَعد: «هو إنتَ بابا؟». خضَّه سؤالها الصغير ورجَّه، أربكه وأحزنه، لكنه سارعَ بالإجابة نافيًا، كأنه يتبرَّأ مِن تُهمةٍ ما.


ولم يكن يومًا أبًا لأحد، ولن يكون، لكن مهما رفضَ الواحد أن يكون أبًا أو أمًّا، رفضَ أو عجزَ أو فاتته الفرصة، فلا مفرَّ مِن أن يكون هو نفسه ابنًا أو ابنة، لا مهرب مِن تلك الحِبال المعمولة مِن اللحم والدم والچينات الوراثية والأحلام والملامح.

ولو لم نمدَّها نحنُ إلى الأمام، تبقى تربطنا هى مِن الوراء، وتشدُّنا برفقٍ إلى أرض الحُلم والبيت الأول ووجه الأب الباسم فى الأعلى تطفئ ابتسامته كل نار وتروى كل ظمأ، حتَّى وإن كان أبعد ما يكون عن الأب المثال والتِّمثال المعبود.

وبعدَ شهرين أو أكثر قليلًا مِن نَشْر الكلمات القليلة عن أبيه الراحل، التقى فؤادُ فى ندوةٍ ما رجلًا كبير السِّنِّ، ربما تجاوز الستين بقليل. عندما تذكَّر سطوره المنشورة عن أبيه قدَّم له تعازيه، وواصلَ دردشة قصيرة تحوَّلت فجأة إلى نبرة لَوم، لا تخلو مِن عَشم.

وبلا أى كَلفة مِن شخص يلتقى به فؤاد لأوَّل مرة فى حياته؛ اللوم لأنه اختصرَ حياة أبيه الحافِلة، هكذا فى كام سَطر، وأنه لا بدَّ مِن أن يكتبها، أى حياة أبيه، وكان يقصد أن يكتبها فى نصٍّ طويل، أو حتَّى كتاب مستقلٍّ، ليس أقل مِن حكاية تليق برحلة كفاحه.

ولم يَبدُ على ذلك الرجل أنَّه يعرف الكثير عن حياة الشقاء التى عاشها أهلُ فؤاد، لكنه بدا شديد الحماس لأن يتعرَّف عليها فى حكاية بين غلافَيْ كتاب.
وَكما أخبرنا فؤاد بعد أشهرٍ مِن تلك الواقعة، فَهو لم يعرف لماذا ضايقه اقتراح ذلك الرجل الغريب. ربما لأنَّ والده.

ولم يمت إلَّا قبل فترة قصيرة، وفجأة أصبحَ عليه أن يُحوِّل حياته إلى كتاب. وربما لأنه شعرَ أنَّ هذا الرجل الغريب يُقحِم نفسه فى شأنٍ لا يخصه، وأن نبرة نصيحته كانت تشى بوصايةٍ ما، تبدو فى ظاهرها نصيحة أدبية لكنها على حقيقتها توجيه شِبْه أبوي.

وقلنا لفؤاد إنَّ هذا الرجل ربما كان يُدافِع عن نفسه وحسب، عن أبناء جيله جميعهم، مَن عاشوا الحروب وهتفوا لعبد الناصِر دامعين من الفَرح ثم القهر، يدافع عن نفسه وجيله ضدَّ الزمن، ضد النسيان، ضد نسيان الأبناء تحديدًا، وبالتالى نسيان العالَم كله لهم.


وبهذا الاحتمال الأخير فقط أمكنَ لصاحبنا أن يجد فى نفسه شيئًا مِن التعاطف نحوه ويتسامح مع اقتراحه ذلك، من غير أن يُضطرَّ للانصياع له ويشرع فى تحويل حياة أبيه إلى رواية مشوِّقة ذات غلاف إنسانى جذَّاب، وعنوان مشوِّق مِن قبيل (أيام أبي)، أو (حكايات جدو عبده)، أو (سنوات الضحك والدموع).

وربما يُرسِل نُسخة إلى ذلك الرجل، بعد أن يعمل المستحيل ليجد عنوان بيته، كاتبًا له إهداءً ينمُّ عن الامتنان؛ لأنه كان الدافِع الأوَّل الذى حرَّك فؤاد وجعله يروى حكاية هذا الرجل العظيم. يدمع الرجل وهو يقرأ الإهداء. نَعم إنه لا يزال حيًّا يُرزَق، لقد تمَّ تكريم جيله فى صورة كتاب عن حياة رجل فقير مكافح. وهكذا، نهاية سعيدة للجميع.


ولم يحدث شيءٌ مِن هذا. نسى فؤاد الموقف كله، ثم عادَ لتذكُّره عَرَضًا، بينما يخطط لمشروعه الأربعينيِّ المستمَدِّ مِن دفاتر يومياته، لكنه استبعدَ الخاطر تمامًا، إذ لم يشعر قَطُّ بأنه مُقصِّر فى حق أبيه أو فى حق أى إنسان آخَر، لمجرد أنه اكتفى بنحو خَمسمائة كلمة كتبها بلا تفكير، على نَفَس واحد، ونشَرها على الناس بلا مراجعة حتَّى.

اقرأ ايضًا | خالد محمود يكتب: الغيبُوبه