وائل فاروق يكتب : فضل الجُسور

 الدكتور صلاح فضل
الدكتور صلاح فضل

أحيانًا يطغى حضور الأستاذ الجامعى فى المجال العام على رؤيتنا وتقديرنا لدوره الرئيس هو أولًا: إنتاج المعرفة من خلال البحث والتأليف،ثانيًا: نقلها إلى أجيال جديدة من خلال الشرح والتدريس، ثالثا: تكوين عقول جديدة تضطلع بالقيام بدوره فى المستقبل، والأخيرة هى جماع كل شيء، وهى ما يجعل من الأستاذ جسرًا لمجتمعه نحو المستقبل. جسرًا يعبر بالناس إلى ضفاف جديدة دون أن يذهب معهم، يظل معلقًا بين ضفتين، لا يُعرَف إلا بما تطبعه عليه أقدام عابريه من أحلام ورغبات تكون بدورها معلقة فى فضاء الممكن الذى فتحه أمامها ذلك الجسر الذى لولاه لاصطدم المستقبل بجدار المستحيل وكان صلاح فضل جسرًا فتح فضاء الممكن على مصراعيه أمام الفكر النقدى وأمام من حملهم من طلابه ليعبروا إلى ضفاف جديدة.

كان فضل أستاذًا من نوع فريد، لم يكن ينتمى لأى شيء إلا شغفه، لم تغلق أفقَ رؤيته أيةُ أيديولوجيا، كما لم يفتح أفقَ مجتمع النخبة له أيُّ نضال، كان طالبًا متفوقًا يحركه فضوله للعلم والمعرفة، وجد نفسه بعد هزيمة ٦٧ فى مدريد.

وفى مواجهة عالم جديد، لا هو ولا التراث الأدبى والفكرى الذى تفوق فى حفظه ودراسته كانا قادرين على التواصل معه، هناك فى لحظة التيه تلك أدرك  دوره ومهمته، أن يكون جسرًا بين ثقافتين، بين عالمين تتسع الفجوة بينهما باطراد.

وأن يكون جسرًا بين شقى ثقافة لا تعيش انسجامًا فى الزمان أو فى المكان، لا تعيش انسجامًا بين الزمان والمكان، فالأصولى حارس الهويَّة يعيش فى الـ «هنا» ويغترب فى «الآن» حيث يقيم فى الماضى المجيد والحداثى فارس التجديد يعيش فى «الآن».

ويغترب فى الـ «هنا» حيث يهاجر عقله إلى حيث يريد أن ينتمى فى الغرب. كان يريد أن يعيد الانسجام المفقود بين «الآن» وتاريخه وبين «هنا» ومحيطها،ولعل هذا هو المدخل الأفضل لقراءة منجزه المعرفى منذ منتصف السبعينيات.

ومنذ أن اختار ألا يترجم كتب النقد الجديد فى ذلك الوقت على اللغة والثقافة العربية، فكان يجتهد فى قراءة الكتب العديدة حول الموضوع الواحد ليقدم عصارتها فى كتاب واحد بلغة عربية مبينة تأليفًا لا ترجمةً وهذا ما فعله فى كتاب نظرية البنائية وفى كتبه النظرية التالية التى أظهر فيها تسيُّدَه للغة الإسبانية وللنظرية الأدبية.

وهو ما جعله فى مرحلة تالية ينتقل بسلاسة إلى التنظير للأدب المعاصر له كما نجد فى كتبه التى صدرت فى عقد التسعينيات مثل أساليب السرد فى الرواية العربية وأساليب الشعرية المعاصرة. قبل أن يتفرغ للنقد التطبيقى فلا يمر أسبوع تقريبًا دون أن يكتب عن عمل فى مجلة أو صحيفة قبل أن يعيد نشر كل هذا فى إطار نظرى محكم يجمع نثار رؤيته وقراءاته خلال العام فى كتاب واحد، مثل كتاب «التمثيل الجمالى للحياة».

وكان انخراطه فى الكتابة للصحف والمجلات السيارة بكثافة ثم الاشتراك فى برامج إعلامية مثل «شاعر المليون» جزءًا من هاجس تجسير الفجوات، هذه المرة، بين الأدب والمجتمع، كان يرى أن من واجبه تنمية ذائقة جمهور القراء.

وفى مرة قلت له: حذرتنى من خطر الكتابة الصحفية على الدرس النقدى وأراك بعد عشرين عامًا تقع فى الفخ الذى حذرتنى منه؟ فسألني: كيف هذا؟ فأجبت على سؤاله بسؤال: لماذا تكتب عن الرديء والجيد إذن إن لم يكن بسبب ضغط المطبعة؟ فرد على سؤالى بسؤال آخر: كم عملًا إبداعيًا قرأت هذا العام.

فقلت: حوالى عشرين كتابًا. فسألنى وكم مقالًا كتبت؟ فأجبت: لم أجد جديدًا أكتبه، أو أكتب عنه، فقال: أرأيت؟ أن تكتب عما تراه جميلا فى نص متواضع خير من الصمت، صمت الناقد هوالخطر الأكبر على الذوق العام.

وما اكتبه عن عمل أدبي، حتى لو لم يكن فيه جديد، حتى لو كان رديئًا كما تقول، ينبه المؤلف وقراءه إلى الجمال ولو كان حضوره خجولًا فى العمل وهو ما قد يحفزهم للبحث عنه والسعى إليه في مغامرتهم المقبلة.


وهذه الاختيارات فى النقد وفى العمل العام جعلت من صلاح فضل أستاذًا فريدًا، استقلاله الشديد أزاح عن كاهل طلابه ضرورة قبول أو رفض قناعاته الفكرية أو السياسية، كما أتاحت له أن يدفع كل منهم فى المسار الذى اختاره بنفسه لنفسه إذا صمد أمام أسئلة وتساؤلات أستاذه التى تدفعه للذهاب بعيدًا فى الطريق الذى اختاره أو الخروج منه فور إدراكه أنه لا يرى أبعد من موطئ قدميه.


ولم يكن صلاح فضل أستاذى فقط، كان أبًا لي، عرفته وأنا فى التاسعة عشرة وظلت علاقتنا ممتدة على مدى ثلاثين عامًا، وككل علاقة بين أب وابنه كانت علاقتنا خليطا من الحب والغضب، من الانبهار بمنجزه المعرفى والرغبة فى الانعتاق من تأثيره.

من الشعور بالأمان فى ظله والرغبة فى التمرد عليه، لكنه كان استثنائيًا فى التعامل مع تمردى عليه، فى بداية التسعينيات كنا نختلف إلى مكتب الدكتور عبد القادر القط نتلو عليه ساذج أشعارنا وكان بروحه الكبيرة وصوته الرائق الخفيض يعلق عليها وكنت أراجعه فى تعليقاته بجرأة كلما تذكرتها أخجل من نفسى فقد كان عذبًا رقيقًا تغرورق عيناه بالدموع لشدة تأثره بما يقرأ من الشعر الذى يدرسه لنا.

وكنت ما زلت مراهقًا يزكى جهلى لهيب اندفاعي، طرقت يومًا باب مكتب الدكتور القط  فبادرنى آن لك أن ترحمنى من مشاكساتك ها قد جاءك شيخ الحداثيين فعليك به وأشار إلى الأنيق الجالس وراء المكتب المواجه لمكتبه والذى استقبلنى بابتسامة لم يغب إشراقها عن وجهه على مدى ثلاثين عامًا بعد ذلك.

فقلت له: عفوًا يا دكتور ولكنى لا أعرفك، فقال لي: أنا صلاح فضل يا غلباوي، قفزت من مكانى فقد كنت أقرأ مقالاته فى مجلة فصول ورغم قلة ما كنت أفهمه منها إلا أنى أدركت أنها تليق بالأدب الجديد الذى كنت أدعى أنى من المبشرين به، كان صلاح فضل أهم نوافذنا على التفكير الجديد فى الأدب.

وتكررت زيارتى وأصدقائى له حتى ضاق بنا بعض أساتذة القسم فقرر أن يستقبلنا فى بيته، كان معظمنا تحت العشرين نأتى من أحياء القاهرة الشعبية إلى بيته فى المعادي، كان لا يتحدث إلينا إلا طارحًا للأسئلة وكان يستمع إلينا لساعات طويلة.

لم يخفف هذا القرب والكرم من غلوائى ومشاكساتى وكان يتحملها بمحبة لا حدود لها، كان ينصحنى وأخالفه وعندما أقع فى ورطة نتيجة اندفاعى لا يتخلى عنى ويساندنى وكأننى كنت أنفذ كلامه بالحرف الواحد. طلب منى ألا أعمل بالصحافة حتى لا يتعطل مسارى الأكاديمي، خالفته وتأخرت فى إنهاء رسالة الماجستير ست سنوات لكنه حارب حتى أناقش الرسالة.

وأحصل على الدرجة، كان يمنعنى من السير فى المظاهرات فى التسعينيات وحين أكون مهددًا بالقبض على كان يخرجنى من الجامعة فى سيارته ويخفينى فى بيته، كان يلح على فى تعلم لغة أوروبية وكنت أتهرب منه فقد كنت أفضل قراءة الكتب الجديدة.

وحتى قال لى فى مناقشة ستظل ببغاء حتى تستقل بعقلك وفهمك عمن يترجم ويؤول لك، فتعلمت الإنجليزية وفتح هذا لى باب الدراسة والتدريس فى أوروبا وأمريكا، لم يساعدنى الدكتور صلاح فضل  فى حياتى العملية.

لم يرشحنى لمنصب أو جائزة لم يضعنى فى لجنة تحكيم، ولكنه أعطانى ما يجعلنى أشعر اليوم باليتم لفقدانه، الحرية والأمان حيث يمكننى أن أغامر وأن أخطئ وأنا مطمئن أن هناك من سيفعل كل شيء ليجبر ما انكسر، هناك صلاح فضل الذى سيجد لى دائمًا مخرجا.

اقرأ ايضًا | غروب شمس النقد رحيل الدكتور صلاح فضل بعد مسيرة أدبية حافلة