ما هي الاقتصادات الأكثر تأثرًا بالركود الاقتصادي؟

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

تتدهور توقعات الاقتصاد العالمي بشكل متزايد في ظل سعي البنوك المركزية لاحتواء تفاقم التضخم من خلال تشديد السياسة النقدية ورفع أسعار الفائدة. وساهمت الحرب المُستعرة بين روسيا وأوكرانيا، كذلك سياسة ’صفر كوفيد‘ التي تتبعها الصين بشكل صارم في تغذية هذه التوقعات السلبية.

 

وبحسب توقعات بنوك الاستثمار الكبرى فإن سيناريو الركود الاقتصادي بات أمرًا لا مفر منه، حيث تقتصر المحاولات حاليًا على تفادي تباطؤ عميق يؤدي إلى مرحلة من الكساد المزمن على النحو الذي شهدناه في الأزمة المالية عامي 2008 و2009.

 

وبحسب محللي الاقتصاد الكلي لدى شركة الوساطة Easymarkets تختلف بنية الركود الاقتصادي المتوقع هذه المرة عن الحالات السابقة، والتي كانت تحفزها بالأساس أحداث محلية ذات تأثير واسع. على سبيل المثال، فإن الركود الذي شهده العالم قبل عقد ونصف جاء بعد أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، والتي أدت إلى إفلاس بنوك كبرى. بطبيعة الحال، أدى الثقل الكبير للولايات المتحدة في منظومة الاقتصاد العالمي إلى امتداد آثار الأزمة إلى الاقتصادات الأخرى، ولكنها ظلت في حال أفضل كثيرًا مما كان عليه الأمر في وول ستريت.

 

على النقيض من ذلك، ترتبط التحديات الراهنة بالتداعيات السابقة لجائحة كورونا، والتي كانت الشرارة التي أطلقت جماح التضخم بعد تضرر سلاسل التوريد والإمدادات العالمية. وبعد التعافي النسبي من الجائحة نهاية الشتاء الماضي، اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية والتي خلقت بدورها سلسلة من التداعيات الاقتصادية الخطيرة، يأتي على رأسها أزمة الطاقة وعزل موسكو من خلال العقوبات الغربية، ناهيك عن مخاطر اندلاع حرب نووية شاملة.

 

كما أشرنا آنفًا، هناك أسباب عامة للتشاؤم بشأن النمو الاقتصادي، ولكن تظل هناك بعض الخصوصيات الجغرافية التي تجعل من سيناريوهات الركود أكثر وطأة على بعض الاقتصادات مقارنةً بغيرها.

 

أوروبا تواجه تحديات الحرب وأزمة الطاقة

 

بعد فترة طويلة من السياسات التوسعية وبرامج التحفيز الكمي السخية، والتي شملت من بينها تطبيق أسعار الفائدة السلبية، اضطر البنك المركزي الأوروبي إلى عكس مسار السياسة النقدية والبدء في رفع أسعار الفائدة للمرة الأولى منذ سنوات طويلة. اقتفى بنك إنجلترا هو الآخر آثر نظرائه في الاقتصادات المتقدمة خصوصًا بعد أن ساءت الأمور بسبب أزمات سياسية متلاحقة أدت إلى تغيير حكومتي بوريس جونسون وليزا تراس خلال فترة وجيزة.

 

بالإضافة إلى مشاكل التضخم وتدهور التوقعات الاقتصادية، تقع أوروبا في عين عاصفتي الحرب الروسية الأوكرانية وأزمة الطاقة. بطبيعة الحال، فإن خروج الحرب عن السيطرة ستعني في مراحلها الأولى مواجهة مباشرة بين البلدان الأوروبية والجارة النووية. وازدادت الأمور سوءً نتيجة اعتماد أوروبا الكبير على موارد الطاقة الروسية والتي قفزت خلال العقد الماضي من 25% إلى 32%.

 

قرر الاتحاد الأوروبي تحت الضغوط الأمريكية المتزايدة حظر واردات الغاز والنفط الروسي وفق جدول زمني متدرج. وبرغم إعداد خطة طوارئ لمواجهة نقص إمدادات الطاقة خلال فصل الشتاء، لا تزال هناك شكوك بشأن قدرة الشعوب الأوروبية على تحمل تبعات الأزمة. وعلاوة على الاحتجاجات العمالية التي شهدتها بعض البلدان، ارتفعت أسهم اليمين المتطرف ونجح بالفعل في الوصول إلى السلطة في بلد رئيسي مثل إيطاليا. وإجمالاً، يمكن القول أن الاقتصاد الأوروبي سيظل الأكثر عرضة للمخاطر الاقتصادية والجيوسياسية، وبالتبعية تفاقم معدلات الركود، خلال الفترة القادمة.

 

الصين وسياسة ’صفر كوفيد ‘

 

تبدو الأمور مختلفة نوعًا ما بالنسبة للصين، حيث تظل البلاد نسبيًا في مأمن من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية رغم الدعم السياسي لحليفها بوتين. من وجهة النظر الاقتصادية، يكمن التحدي الرئيسي الذي يواجه بكين في التزام حكومة الرئيس شي جين بينغ بسياسة "صفر-كوفيد" المثيرة للجدل. تنطوي هذه السياسة على فرض إجراءات مشددة للإغلاق والحجر الصحي فور ظهور أي بؤرة لفيروس كورونا. أدى ذلك في كثير من الأحيان إلى إجبار سكان بعض المقاطعات والمدن على البقاء في البيوت لفترات طويلة مع إغلاق المصانع ومراكز الإنتاج الرئيسية. بمرور الوقت، ازداد السخط الشعبي بعد أن تسببت هذه الإجراءات في تضرر دخول المواطنين، فضلاً عن أزمات معيشية خانقة نتيجة الحصار الصارم الذي تفرضه السلطات.

 

وبالإضافة إلى ما سبق، تبدو المخاوف بشأن غزو صيني محتمل لتايوان أحد المخاطر الرئيسية التي تُلقي بمزيدًا من ظلال الشك على التوقعات الاقتصادية في آسيا، على الأقل في المدى المتوسط والطويل. تبدي إدارة الرئيس جين بينغ تشددًا غير مسبوق في ملف استعادة تايوان، حيث بدأت تتحدث للمرة الأولى منذ سنوات طويلة على إمكانية اللجوء إلى الحل العسكري إذا لم تفضي الجهود الدبلوماسية إلى حل في وقت قريب. وبرغم أن احتمالات حدوث غزو مفاجئ على النمط الروسي تبدو ضئيلة في الوقت الحالي، إلا أن تبعاتها ستكون كارثية على الاقتصاد العالمي في ظل الوزن النسبي الهائل للاقتصاد الصيني وحجم التجارة بين بكين والغرب.

 

الاقتصاد الروسي

 

رغم الانتكاسات العسكرية التي تواجهها روسيا منذ بدء غزو الأراضي الأوكرانية في فبراير الماضي، ولكن يبدو الاقتصاد والعملة المحلية في حالة جيدة نسبيًا. تتمتع روسيا بموارد هائلة للطاقة والغذاء، ما يجعلها بعيدة عن أي أزمات من هذا القبيل. برغم ذلك، فإن العقوبات الغربية المشددة جعلت القطاع الخاص في حالة يُرثى لها، وهو ما سيظهر أثره بمرور الوقت. ولا ننسى أيضًا أن العقوبات الغربية حرمت المواطنين الروس من الوصول إلى عدد كبير من المنتجات والخدمات، بالإضافة إلى المشكلات المتعلقة بالسفر والمعاملات المالية والتنقل عبر الحدود، ناهيك عن الملاحقة ومصادرة الأموال في الخارج بسبب اتهامات التعاون مع الحكومة الروسية.

 

الولايات المتحدة

 

تبدو الولايات المتحدة في وضع أفضل كثيرًا من الناحية الاقتصادية، سواء عند المقارنة مع حلفائها أو أعدائها. على عكس أوروبا، تتمتع الولايات المتحدة بقدر كبير من الاكتفاء الذاتي بفضل ارتفاع مستويات إنتاج الغاز والنفط المحلية. وحتى على مستوى الصراع العسكري، فإن البعد الجغرافي للولايات المتحدة وقوتها العسكرية الهائلة تجعلها في مأمن من أي تطور للصراع في شرق أوروبا، والذي قد يمس بعض الدول الحدودية المنضوية تحت المظلة الغربية.

 

على الجانب الاقتصادي، أظهر الاقتصاد الأمريكي مرونة كبيرة في مواجهة سياسات التشديد النقدي التي قادها الاحتياطي الفيدرالي. يبدو سوق العمل حتى الآن في وضع مستقر، كما أن باقي مؤشرات الاقتصاد الكلي ليست مقلقة إلى حد كبير رغم مخاوف الركود. وعلاوة على ذلك، بدأت إجراءات التشديد النقدي التي اتبعها البنك المركزي تؤتي بثمارها بعد انخفاض معدلات التضخم وفق القراءات الأخيرة لمؤشر أسعار المستهلكين. عزز ذلك من احتمالات إبطاء الفيدرالي لوتيرة رفع أسعار الفائدة خلال الفترة المقبلة، ما قد يسمح بتجنب سيناريوهات الكساد الكارثية.