يوميات الأخبار

الساخرة المُستديرة!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

حصلتُ على تصفيق حاد، لكن من مُشجعى الفريق المُنافس، بعد أن أعجبهم أدائى الداعم لفريقهم، وعلى الفور أعلنتُ الاعتزال قبل أن تتم إقالتي!

عودة إلى المقهى

الخميس:

أخيرا قرّرتُ الذهاب إلى المقهى، بعد مقاطعة اضطرارية منذ انطلاق المونديال. خلال المباريات العادية تتحوّل المقاهى إلى مصانع لإنتاج الصخب، فما بالنا بالوضع فى ظل بطولة دولية فريدة لا تتكرر إلا كل أربع سنوات.

أعشق المقاهي، وأبحث عنها فى أى مكان أزوره، أعتبرها مسرحا مفتوحا عروضه تلقائية. يتحوّل روّادها إلى خبراء فى كل المجالات، وتمضى تحليلات معظمهم فى مسارات أقرب للهزْل.

كان يُفترض أن يتراجع حضور «مُحلّلى المقاهي» مع المنابر العشوائية التى أتاحتها منصات التواصل، لكن يبدو أن الطبيعة البشرية لا تتنازل عن أية مساحة تمنح الإنسان فرصة للفتوى. عندما أكون خالى البال أحرص على المتابعة بأكثر من أذن، تتداخل الأحاديث دون أن يصيبنى أى تشويش، لا أذكر أننى شاركتُ مرة فى حوار حتى لو استفزّني، لأننى أعتبر الجلوس منفردا نعمة لا ينبغى التفريط فيها.

لستُ مُهيئا اليوم لالتقاط البث البشرى المُكثف. سوف أنسحب إذا لم أجد لنفسى ركنا قصيا هادئا يتيح لى فرصة التفكير، خلال استماعى لنغمات عود يعزف أشهر أغنيات أم كلثوم.

قمتُ بتنزيله من أحد المواقع، كى أستمع لما تيسّر منه عند الحاجة. تخطفنى الموسيقى القديمة عادة من ضجيج الحياة، وتُفجّر بداخلى طاقة التفكير، ربما يكون ذلك ناتجا عن تأثر بموسيقى تصويرية رسختها بداخلنا الأعمال الفنية، وساهمتْ فى التحكّم بأسلوب تلقينا للأحداث.

رغم سُخريتى فى بعض الأحيان من هذه الموسيقى، إلا أننى على ما يبدو تأثرتُ بها كثيرا، وأخذتُ أستعين بها فى حياتى الشخصية، خاصة فى لحظات الكتابة. يكفى فقط اختيار النغمات المناسبة، كى تشحذ طاقات شجن أو حنين تُفجّر الإبداع. تنساب موسيقى «ما خطرتش على بالك يوم»، فتُنقذنى من شاشة تبث مشاهد أغنية حديثة دون صوت، بينما يعلو صوت فنان شعبى بأغنية أخرى.

لا أستطيع فهم هذا الأسلوب، لماذا الإصرار على تشغيل التليفزيون والتسجيل فى وقت واحد والانتصار لصوت أحدهما وكبت الآخر؟ ناديتُ عامل المقهى لأسأله، وعندما وصل اكتفيتُ بطلب خفْض الصوت. غالبا استغرب طلبى لكنه لم يُعلّق، واستعنتُ على تجاهُل صخب المحيطين بنغمات العود المُتتابعة.

أعشق الوتريات وعلى رأسها العود والقانون، أشعر أنها تداعب أوتار قلبي، بينما تُحاصرنى نظرات استغراب من رواد المقهى وأغلبهم من الشباب، أتناسى وجودهم وتتمايل مشاعرى على أنغام مقدمة «حكم علينا الهوى»، أشعر أننى أنطلق إلى زمن آخر، كان الفن فيه وسيلة للارتقاء بالروح.

فى سنوات الجامعة استفزنى قوْل أحدهم إن الغناء حرام، وجّه حديثه لى من باب الأمر بالمعروف، فرددتُ عليه بأن الأمر نسبي، وأن الفن ينهانى عن المُنكر، لأن الاستماع إلى الأغنيات ينطلق بإحساسى إلى مناطق أكثر سموا. لم يستسلم ولم أستجبْ للجدل، وقمتُ بتشغيل أغنية لفريد الأطرش على جهاز تسجيل صغير كنتُ أحمله، فانصرف سريعا وهو يستغفر الله. لا أذكر اسم الزميل ولا شكله، غير أننى أتوقع أن يكون قد مات بالسكتة عندما فوجئ بأبنائه يستمعون لأغانى المهرجانات!

فجأة يعلو صوت التسجيل فى المقهى بشكل مُبالغ فيه، ويتغلّب الصوت العشوائى على انسياب الموسيقى الراقية التى أسمعها، أستدعى العامل فيأتى متحفزا، استعدّ غالبا برد جاف على طلبى الذى توقّعه، لكنى خيّبتُ ظنه وأعطيتُه الحساب.. وانصرفتُ دون أن أمنحه أى بقشيش!

اعتزال مُبكّر

..ولأن الاعتراف سيد الأدلة، فإننى أقرّ- وبعيدا عن أية ضغوط- أننى خالفتُ فطرة سُكان الكوكب، فلستُ حريصا على متابعة مباريات كأس العالم! لا تتعجبوا، فعلاقتى بكُرة القدم غير وثيقة، وقد سبق أن ذكرتُ السبب، وهى حكاية تعود إلى سن الطفولة، عندما شاركتُ فى إحدى المباريات، وحصلتُ على تصفيق حاد، لكن من مُشجعى الفريق المُنافس، بعد أن أعجبهم أدائى الداعم لفريقهم، وعلى الفور أعلنتُ الاعتزال قبل أن تتم إقالتي!

عموما لا يتعلّق الأمر بعُقدة قديمة، وليس ضروريا أن يكون المُشجّع لاعبا مُعتزلا أو مُحتملا، وعلى سطح الأرض ملايين يتعصبون للفرق والمنتخبات، دون أن تمسّ أرجلهم حتى الكرة «الشراب». المشكلة الحقيقية أننى لا أتحمل وطأة الضغط العصبى خلال المشاهدة، فرغم أننى أنتمى إلى كتلة عدم الانحياز الكُروي، إلا أننى بمجرد بدء المتابعة، أتحوّل إلى شخص شديد التعصّب، أختار فريقا أشجّعه اعتمادا على معايير غير رياضية، يأتى التعاطف على رأسها.

يتجّه حماسى عادة للفريق الأضعف من باب الشفقة، وبطبيعة الحال تكون النتيجة محسومة غالبا للمنافس. الأمر يختلف بالتأكيد فى حالة المنتخبات، وكان طبيعيا أن أنحاز للمنتخبات العربية فى البطولة، أتابع دقائق من أية مباراة يشارك فيها أحدها، غير أننى أختار اللحظات الأخيرة، كحيلة نفسية للابتعاد عن توترات تزيد الضغط والسُكّر. الغريب أن خطة تقليص مُعدّل التوتر تأتى بنتيجة عكسية، حيث تتسم لحظات النهاية بجرعات مكثفة من القلق، تنجح فى رفع الضغط إلى مُعدلاته القصوى. هذا ماحدث معى فى مباراة تونس وفرنسا، عندما «شحنْت» كل مشاعرى مع الفريق العربي، الذى حقق انتصارا لن يكفل له الصعود، ظل النصر على المنتخب الفرنسى إنجازا فى حد ذاته، لكن الأخير فاجأنا بهدف كاد يسلبنا دلالة الرمز، وبعد إلغائه انهمرتْ دموع مشجعى تونس، وهتفتُ أنا فرحا وتعلّمتُ الدرس. بعدها حرصتُ على متابعة النتائج فقط، حتى أننى لم أستطع متابعة فوز المغرب الذى أهّلها لنصف النهائي، واكتفيتُ بالتهليل بعد النتيجة.

عبر صفحات الجرائد والسوشيال ميديا سيطرتْ صور ترصد لحظات بكاء لاعبين كبار، بعد إخفاق منتخباتهم، وأخرى تُركّز على نجوم فى مقاعد الجماهير، وآخرين ضمّتهم اللقطات إلى قائمة «مشاهير الصُدفة»، حيث دارتْ صورهم فى مختلف أنحاء الكوكب. احتلتْ ملكة جمال كُرواتيا صدارة الاهتمام، وانضمتْ إليها مُشجّعات من دول أخرى، مما جعل مواقع التواصل تنشغل بمنافسة أخرى حامية، انقسم فيها الآلاف وتعصّبوا لجمال فتيات بلد ضد آخر، وضخّ الجالسون أمام شاشات هواتفهم آلاف التعليقات التى تسخر من كل شيء، بينما فاجأتنا الملاعب بمفارقات أكثر سُخرية، بخروج منتخبات رشّحها البعض للفوز بالبطولة.

قد يلحظ قارئ ذكى أن حديثى يكتسى بصبغة عامة، وهو أمر مقصود كى لا يفضحنى جهلي، ويجعلنى موضع سُخرية من يقرأون كتاباتى من باب المجاملة، فمعلوماتى الرياضية تشبه خبرتى فى مجال الكيمياء، التى لا أذكر منها إلا «يد 2 كب أ4»! وهو حمض الكبريتيك المُركّز، المعروف لدينا باسم «ميّة النار».

لا أندم على جهلي، لأننى أرى أن ملايين البشر انشغلوا بلعبة كانت فى الأساس رياضة، ثم تحوّلت إلى «بيزنيس»، يقود حفنة من البشر إلى قائمة مليارديرات العالم، بينما يكتفى المشجعون بـ «فُتات» التعصب، حتى أن الكُرة صارت تتماس بداخلى مع الفيلم الأمريكى الشهير «ألعاب الجوع»، الذى يقتل فيه مرشحو المقاطعات بعضهم، وتفوز مقاطعة الناجى الوحيد بنصيب أكبر من الغذاء. لقد تحولت اللعبة إلى «ساخرة مُستديرة»، تستهزىء بكلّ ما عداها من فنون وآداب وعلوم، بعد أن سيطرت على أفكارنا.

لو ظلّت مجرد لعبة ربما كنتُ سأتحمس لها، غير أنها نجحت فى نقل آفتها الكبرى إلى كل مجالات حياتنا، ليُعلن التعصب سيطرته التامة على العقول.

ضحكة لها سبب

الاثنين:

خدشتْ ضحكتى جلال اللحظة، بدليل النظرات المندهشة أو المُستنكرة التى أطلقها نحوى المحيطون بي. كان مشهدا مؤثرا لأب يحتضر، وينقل لابنه وصيته الأخيرة. العيون المحيطة بى دامعة من التأثر، بينما مضتْ أفكارى باتجاه آخر.

المشهد نفسه صار أشبه بـ «أكلاشيه» تتداوله السينما العربية والعالمية، ودائما يمنح عزرائيل الفرصة لصاحب الوصية أن يُكمل كلماته حتى النهاية، ونادرا ما سارع بقبض روح المرحوم قبل استكمال حديثه. الاستثناءات قليلة حدثت فى بعض أفلام «الأكشن» فقط كنوع من الإثارة، بينما تمضى الأحداث عادة فى السياق الذى فجّر ضحكاتي.

التكرار الفج أفقد هذه النوعية من المشاهد جلالها، خاصة وقد تقدّمتُ فى العمر وعايشتُ وقائع وفاة عديدة، يأتى الموت فيها فجأة، ولا يمنح الراحلين فرصة إطلاق حتى كلمة وداع. ضحكتى إذن لم تكن بلا سبب، حتى لو بدتْ كذلك لمن حولي، ولم يحاول أحدهم الاستفسار عن مبرّرات فعلتى «قليلة الأدب»، لأنهم فضّلوا استكمال الفيلم الذى فقدتُ شغف متابعته.
استعادة أحلام اليقظة!

الأربعاء:

من جديد يحاصرنى المونديال. قررتُ متابعة المباراة هذه المرة بكامل إرادتي. رغم اقتناعى بوجهة نظرى السابقة عن كرة القدم، إلا أننى أنحاز عادة للأحلام فى زمن سيطرت عليه الكوابيس، حتى لو كان الحلم فى ملعب خارج نطاق اهتماماتي. المغرب أثبتتْ بدخولها المربع الذهبى أن الأحلام لم تنقرض..

منذ اللحظات الأولى يفرض الانفعال سطوته علىّ، بعد الهدف المُبكر بدأتُ أشغل نفسى بتصفح «فيس بوك»، مع كل صيحة من ابنى أنظر للشاشة، أتعجب من كُرة لا تستجيب لأداء مُبهر من المنتخب المغربي، أنسحب إلى غرفة مكتبي، وكلما حاولتُ التركيز فى الكتابة تعلو صيحات زوجتى وابني. أنشغل بتحليل مضمون كلّ صيحة، تتنوع الصيحات بين الإعجاب بلعبة مغربية، أو القلق من هجمة فرنسية.

فى النهاية أعرف النتيجة. الهزيمة لا تمس إعجابى بالأشقاء المغاربة، لأن إنجازهم الأهم يتمثل فى أنهم أعادوا الروح لأحلام يقظتنا.. حقا «لسه الأمانى مُمكنة».