من دفتر الأحوال

قبل التصحر العقلى

جمال فهمى
جمال فهمى

 صباح الخير أيها القراء الأعزاء.. وبعد

أعتبر نفسى واعترف أمامكم جميعا، أننى ولله الحمد محظوظ فإنا من جيل أفلت بأعجوبة من تصحر العقل وجفاف الروح ولحق بالكاد باب المعرفة والثقافة الرفيعة قبل لحظات قليلة من إغلاقه بالضبة والمفتاح، وأظن أن بعضا من أقرانى وأبناء جيلى ربما قُفل هذا الباب على أياديهم أو أطراف أصابعهم فعاشوا حتى الساعة ـ للأسف ـ بعاهة نصف الثقافة ونصف الجهل.


ما علينا فالعبد لله، تيسر له مبكرا جدا (فى النصف الأول من سبعينيات القرن الماضى وكنت ما أزال فتى صغيرا) قراءة أسفار قيمة وأكداس من كتب ثمينة فى شتى فروع المعرفة والأدب الراقي، منها مثلا، أعمال مسرحية عدة مأخوذة عن الأسطورة اليونانية ذائعة الصيت التى تحكى مأساة الثلاثي، الملك «أجاممنون» قائد الحملة الظافرة على طروادة، وابنته «إليكترا»، وابنه «أوريست».


 لقد كان أول ما وقع فى يدى من هذه الأعمال ترجمة (أظنها مجهولة) لمسرحية «الذباب» للفيلسوف والأديب الفرنسى الأشهر جان بول سارتر، غير أننى تابعت بعد ذلك (ربما فى مطلع سنوات الجامعة) قراءة نصوص أخرى مقتبسة عن الأسطورة عينها أهمها ثلاثية «الأوريستية» ـ نسبة لأوريست ابن الملك ـ التى أبدعها كاتب اليونان القديمة الأعظم «أسخيلوس» فى ثلاثة أجزاء كل جزء منها تزين باسم واحدة من شخصيات الأسطورة المذكورة أعلاه.


 لكنى مدين بفهم الجوهر العميق لهذه الأسطورة ومعناها الإنساني، ومن ثم الوعى بالفروق بين معالجاتها الدرامية المتعددة والمختلفة التى اضطلع بها كُتاب ومبدعون معاصرون كبار، مدين بكل ذلك لمقدمة ضافية وافية كتبها الناقد الكبير الراحل درينى خشبة فى مستهل ترجمة مسرحية «إليكترا» للمسرحى الفرنسى الفذ «جان جيرودو» وقد راجع النص (الذى نقله للعربية د. محمد غلاب) أديبنا العظيم يحيى حقي، وكان هذا السِفر القيم صدر فى ستينيات القرن الماضى عن سلسلة «روائع المسرح العالمي» تلك التى أمتعت وثقفت جيلا كاملا بإبداعات خالدة منها ـ فى الموضوع ذاته ـ تحفة أبو المسرح الأمريكى المعاصر «يوجين أونيل» التى حملت اسم «الحداد يليق بأليكترا».
لا مفر هنا، من أن أقطع السياق لأبلغ القراء الأعزاء بأن كل هذه الذخائر القيمة كانت (مع غيرها من الذخائر والسلاسل) من منتجات وزارة الثقافة المصرية وكان السعر المدون على أغلفتها آنذاك يتراوح بين 10 و15 قرش صاغ.. هل يتذكر أحد عملات بهذا الاسم أو القيمة الآن؟!


أظن أن «الحداد» و«الحزن» على هذا الماضى القريب يليق بنا حقا، تماما كما يليق بالآنسة «أليكترا» التى عاشت أغلب سنوات عمرها تتجرع مع شعب مدينة «آرجوس» مرارة حزن مضاعف ومأساة متعددة الأبعاد،  فهى تطوى ضلوعها على سر رهيب لأنها الوحيدة التى تعرف أن أباها الملك راح ضحية مؤامرة دنيئة نسجتها أمها «كليمنسترا» ونفذتها بيد عشيقها «ايجست» نفسه، بيد أن شقيقها الغائب «أوريست» يعود ذات يوم لينتقم لنفسه ولأخته.