منى نور تكتب.. صورة الطفولة فى السرد عند إدريس ومحفوظ

نجيب محفوظ ويوسف إدريس
نجيب محفوظ ويوسف إدريس

الطفل تشكل لدى الكاتبين وفق منظومة قيمهما وأفكارهما ورمزًا للتعبير عن مواقفهما

«شخصية الطفل فى القصة القصيرة بين يوسف إدريس ونجيب محفوظ».. موضوع دراسة أكاديمية حصلت عنها الباحثة هبة محمد عبدالفتاح، على درجة الدكتوراة فى الآداب، بتقدير مرتبة الشرف الأولى، وقد تمت مناقشتها فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة عين شمس.
سعت الرسالة إلى تقديم تحليل لشخصية الطفل المقدمة فى قصص الأديبين المصريين الكبيرين نجيب محفوظ ويوسف إدريس، استنادًا إلى المنهج البنيوى فى تحليل الخطاب السردى، من حيث علاقة الطفل بوصفه شخصية متخيلة، وبنية حكائية بعناصر القص الأخرى وبنياته من راوٍ وزمان ومكان وحبكة وأحداث، وكذلك من خلال القراءة الثقافية، التى استلهمت الواقع المصرى الذى عاشه كلا الأديبين سياسيًا واجتماعيًا ونفسيًا، وما آل إليه من سياقات وأنساق علقت بالنص، وأسهمت بشكل أو بآخر فى رسم ملامح الشخصية الطفلية، ودفعها للظهور على نحو بعينه ووفق صورة دون غيرها.

جاء الفصل الأول تحت عنوان «التشكلات الفنية وشخصية الطفل فى القصة القصيرة عند يوسف إدريس ونجيب محفوظ»، ويقدم كل فصل فى مباحثه دراسة لشخصية الطفل فى القصص القصيرة لدى نجيب محفوظ ويوسف إدريس مستعرضًا أسلوب كل منهما.

وما يميزه من سمات فنية، شكلت شخصية الطفل لديه على نحو مختلف عن الآخر، بما جعل الدراسة الموازنة تستخلص نتائجها بعد التحليل والعرض والوقوف عند كل مبحث من المباحث؛ لتوضح أن الطفل فى قصص يوسف إدريس برز من خلال منظور نفسى.

ووجهة نظر انصبت عليه فى إطار رؤية حميمة، اقتربت منه، اضطلع بها راوٍ عاطفى، أدخلنا إلى عالم الطفل فى كل خلجاته وعذاباته، وكذلك قضاياه ومشكلاته، وهو ما بدا فى مجموعة من القصص مثل: لأن القيامة لا تقوم، وجيوكوندا مصرية.


أما المنظور عند نجيب محفوظ فقد شكل الطفل من خلال نظرة موضوعية، لم تتمثل الطفل فى طفولته وتفاصيل حياته الصغيرة، بقدر ما جعلته سبيلًا نحو تفعيل الآراء، وجسرًا لصب الرؤى والتساؤلات التى تتعانق مع حركة الحياة والوجود، فلم يبدُ الراوى منحازًا للطفل أو متحابيًا له عاطفيًا.. كما فى قصص: المليم، دين قديم، الغفلة، أصل الحكاية، وكذلك الظلام القديم من مجموعة الشيطان يعظ. 


وفى إطار الحدث برز الطفل عند يوسف إدريس بوصفه فاعلًا محوريًا، معبرًا عن عوالم الطفولة والمراهقة وكأنه جانبٌ مقتطعٌ من الحياة، فى حبكة شديدة الإثارة والتشويق، تستلهم الواقع الطفولى وتستند إليه فى مسارات سردية وتوترات درامية، احتدمت عند الذروة وهدأت عند النهاية والحل، توازن فيها فعل الطفل مع قوة الحدث كما فى قصص: ليلة صيف، رمضان، لعبة البيت.


بينما جاء الطفل عند نجيب محفوظ فى خضم أحداث تؤسس لحدوث المفارقات المدهشة، والثنائيات المتعاضدة كالحياة والموت، الخير والشر، الروح والمادة، والوجود والعدم، وهى قضايا تثير الصراع والجدل والتناوش داخل الحدث الذى يحياه الطفل، بما يجعله منطويًا فى فعله على جوهر عميق ومعنى كبير، تخطى الواقع الطفولى العذب البسيط ليصل إلى احتماليات أبعد.

ودلالات تنفتح على ما هو أشمل وأكبر، وهو ما جعل النهاية الحاسمة لا تظهر كثيرًا فى القصص المتناولة، كما لا يتحقق الطفل بوصفه شخصية مكتملة الأبعاد والأركان.. وهو ما بدا فى مجموعة من القصص مثل: روض الفرج، بيت سيئ السمعة، همس النجوم، قسمتى ونصيبى.

وعن علاقة الطفل بالمكان فى قصص يوسف إدريس، فكانت تعبيرًا دقيقًا عن الواقع النفسى الذى يحياه الطفل، وارتباطًا بتجربته الإنسانية وحالته الشعورية المصاحبة لوجوده فى المكان.

وعلاقته به، كما فى قصة « أمه » حيث علاقة الطفل بالشجرة بوصفها المنزل والملجأ والأم . وكذلك قصة «آخر الدنيا» حيث علاقة الطفل المتنازعة بين مكانه الواقعى القاسى ومكانه الآخر المتخيل الذى يجد فيه الألفة والأمان مع أبيه وأسرته.


كما جاء الزمان فى علاقته بالطفل مزجًا موصولًا باللحظات الشعورية الدقيقة، التى يحياها الطفل أو المراهق سواء أكان ذلك بالعودة إلى الماضى فى ذكريات الطفولة المؤثرة الباقية كما فى قصة «الشهادة» التى استرجع فيها البطل ذكريات عهده الطفولى مع معلمه صاحب الفضل عليه ومشاعره نحوه. أو فى معايشة الواقع النفسى الحاضر للطفل فى وقفات سردية امتلأت بالتفصيلات المعبرة عن الجوانى العميق للطفل.

ومظهرة كل ما فيه من شحنات عاطفية كما فى قصص: المحفظة، رمضان، جيوكوندا مصرية.. فضلًا عن المشهدية البصرية التى أغنت الإيقاع السردى بحيوية شكلت الطفل فى صورة حية نابضة مستحضرة أمام العين كما فى قصة: أكبر الكبائر، الغريب. 


وقد برزت القرية المصرية بشكل كبير فى القصص عند يوسف إدريس من خلال حركة الطفل فيها، ومشكلاته القائمة داخلها كما فى قصة «ليلة صيف» المتناولة لحرمان المراهقين داخل القرى المنغلقة وكذلك قصة «الرأس» المتناولة لتمرد الصبية فى سن المراهقة وسعيهم للتعرف والقفز فوق المألوف. 


وفى قصص نجيب محفوظ، بدت علاقة الطفل بالمكان تلويحًا لرحلة الإنسان فى فضاءات تحاصره، وعوالم مكانية تناوئه، وهو ما يلوذ به للهروب من الأمكنة القائمة، والعودة إلى البيت القديم والحى القديم، الذى برز بوصفه تيمة متكررة فى القصص لاسيما مجموعة أحلام فترة النقاهة.. كما جاء الزمان عند نجيب محفوظ رمزًا لسلبية الإنسان أمام قدر لا فكاك منه.

 

ومصير لا يمكن تغييره؛ وهو ما حدا بالطفل للهروب والعيش فى الماضى، واسترجاع ذكريات الطفولة الطيبة، وقد برز ذلك فى قصص: رحلة، أم أحمد، العود والنارجيلة، الذكرى، الحاوى خطف الطبق.


وقد برزت المدينة فى قصص نجيب محفوظ بشكل ملحوظ وبخاصة حى الحسين والجمالية حيث حركة الطفل فى المدينة، وبحثه الدائم عن أشياء فقدها أو حاجات يريد إشباعها أو بيت يرغب فى العودة إليه.


وعن الخصائص الأسلوبية التى ميزت طريقة كل كاتب وأسلوبه فى التعبير عن الطفل، وهو ما ورد فى المباحث الأخيرة من الفصلين الأول والثانى، فقد برز التكرار سمتًا تعبيريًا وصفة أسلوبية ارتكز عليها إدريس فى تشكيله لأبعاد الشخصية الطفلية فى حديثها النفسى الذى برز بكثرة.

وأما نجيب محفوظ فجاءت لغته على دقتها وصرامتها حافلة بالخيالات والصور، متسمة مع التكثيف والإيجاز بالإبحار فى اللاوقعى، الذى شكَّل الطفل على نحو استثنائى جاد ينطلق من الواقع ليتجاوزه.

وفى شكل من أشكال العجائبية والواقعية السحرية التى بدت واضحة فى النصوص الحلمية، فضلًا عن الرمزية التى غلفت أسلوب محفوظ، وحدت بالطفل إلى عوالم وجودية، تتجاوز عالمه المحدود ولا تقف عنده. 


واستعرضت الباحثة فى الفصل الثالث «الطفل وبناء الشخصية القصصية» الطفل فى أدواره الرئيسة والثانوية وما تميز به عند كلا الأديبين، حيث برز الطفل فى عدة محاور وحلقات دلالية كان أبرزها دور الابن والتلميذ، حيث ارتبط الطفل/ التلميذ عند كل من نجيب محفوظ ويوسف إدريس بكراهية المدرسة.

والرغبة فى النفور منها، أما عن ظهور الطفل/ الابن فقد جاء ارتباطه بأبيه ملمحًا مميزًا فى قصص يوسف إدريس خلافًا للابن عند نجيب محفوظ، الذى ورد فى القصص مرتبطًا بأمه على نحو كبير، مصاحبًا لها ومتعلقًا بها. وقد أشارت الباحثة إلى أن السبب فى ذلك يعود إلى أن علاقة يوسف إدريس الإنسانية بأبيه قد شكلت جانبًا خصبًا من تكوينه النفسى.

وكما فى قصص المحفظة، رمضان، أبوالرجال، بينما كانت علاقة نجيب محفوظ القوية بأمه محورًا مهمًا ذا أثر فى حياته، وهو ما برز فى مجموعة أحلام فترة النقاهة حيث تردد ذكر الطفل بصحبة الأم.


وجاء الفصل الرابع تحت عنوان: «شخصية الطفل والأنساق الثقافية لدى الكاتبين» ساعيًا لوضع الطفل تحت مجهر القراءة الثقافية التى تبحث فى حركة النسق الموجه للفعل العام.


حيث برز الطفل الفقير البائس الذى يعمل ليواجه مشقة الحياة كما فى قصة «نظرة» ليوسف إدريس و«فلفل» لنجيب محفوظ. كما كان حب يوسف إدريس لجمال عبد الناصر وتأييده لسياسته الاشتراكية رافدًا ثقافيًا وعاملًا نحو مجيء الطفل فرحًا بالثورة وما حققته من إنجازات ساعيًا إلى رفض أعداء الوطن/ أمريكا وإنجلترا، وهو ما جاء فى قصتى «صح» و«هى هى لعبة».


وفى الوقت الذى كان فيه نجيب محفوظ رافضًا لسياسة عبد الناصر وهو ما جعله يتوقف عن الإبداع فى هذه الفترة، كما كان رفضه لسياسة الانفتاح وسلبيات العهد الساداتى عاملًا على ظهور الطفل وهو يحمل مضمون ذلك الرفض لدى نجيب ويستنطقه كما فى قصة «من فضلك وإحسانك».


وختمت الباحثة رسالتها بنتيجة مهمة وهى أن الطفل قد تشكل فى جميعه لدى الكاتبين وفق منظومة قيمهما وأفكارهما ورمزًا للتعبير عن مواقفهما، التى بدت لدى إدريس على نحو واقعى جرىء، اعتمد الطفل كتجربة إنسانية وحالة وجدانية فى المقام الأول.

وتستدعى محبته والتعاطف معه والإعجاب بجرأته وتحايله على المشكلات، على حين برز الطفل فى قص محفوظ على نحو فلسفى، يعتمده بوصفه بنية إشارية، يمكن تأويلها والتفكير بشأنها، والسعى لإدراكها، والانسحاب من خلالها إلى مستويات من الدلالة.


تكونت لجنة المناقشة والحكم من: د. محمد يونس عبدالعال (مشرفاً ورئيساً)، د. محمد إبراهيم الطاووس (مشرفاً مشاركاً، د.شريف سعيد الجيار (مناقشاً)، د.منال محرم عبدالمجيد (مناقشاً).

اقرأ ايضا | كنوز| يوسف إدريس يفتح النار على «مدرسة المشاغبين»