بقلم د. علاء الجرايحي: تكرار التاريخ.. ورحلة البناء والإصلاح

الدكتور علاء الجرايحي
الدكتور علاء الجرايحي

مشاهد مُكرَّرة، ووجوهٌ مليئة بالسعادة وأخرى بالتعاسة، وغيرها حزينة مُتألّمة، تُلاحقنى ويُلاحقنى أصحابها وكأنى أشعر بما فى دواخلهم من فرحٍ وحزنٍ، ومكرٍ ونقاء، وغباءٍ ودهاء، يُساورنى دائمًا الشعور بأنهم ليسوا غُرباء بالنسبة لى، بل إنى أعرفهم جيدًا، وأعرف ما فى عقولهم وقلوبهم وبما يُفكِّرون، رغم عدم معرفتى للحقيقة الكاملة عنهم،

لذا أجد أفكارى تبدو مُتناثرة، ومُبعْثرة، لا أستطيع السيطرة عليها أحيانًا، وأتجاهلها عامدًا مُتعمدًا أحيانًا أخرى، لأن كل ما يدور حولى من أحداثٍ، أقطع يقينًا بأنها  ليست جديدة، وإنما نسخة طبق الأصل من التى قبلها، وكأنه مشهد من مشاهد الحياة الروتينية التى نعيشها كما هى كل يومٍ يُعاد بحذافيره.

وهناك تساؤلٌ على الدوام يُراودنى.. هل الأحداث التى تدور حولنا بالفعل مُكرَّرة، أم أن بعض التفاصيل فيها مُتشابهة، وعقولنا تتذكَّر أشياءً حدثت من قبل ولكن لم تحدث معنا؟، أم أنه كما قال متخصصون إن العين سبقت العقل ورأت شيئًا، فعندما أدرك العقل ما رأته العين مسبقًا، شعر بأنه مشهدٌ مُتكرِّر أو أنه كما يُحلِّله الدينيون عندنا بأننا نرى شريط الحياة بأكملها  قبل ولادتنا، ولربما كما يُفسِّره آخرون؛ بأن الأجساد هى التى تفنى، وأن أرواحنا من المُمكن أن تكون أرواحًا عاشت دهورًا سابقة وبُعثت من جديد؛ لكى تنال فرصة ثانية فى جسدٍ آخر وهيئة ثانية.. فهل فعلًا هناك تناسخ أرواح، أو رجوع الشخص البشرى إلى الحياة فى جسد إنسان ٍ آخر.. الحقيقة أننى لا أعلم مدى صحة هذه النظرية من عدمها، رغم وجود مُعتقدات كثيرة تُؤمن بهذا القول، منها دينية وفلسفية وعلمية، وسأسرد لكم جزءًا منها؛ لكى تُفكِّروا معى قليلًا فى الأمر ومدى معقوليته..


حسب مطلح التناسخ الذى عرَّفه البعض بأنه انتقال الروح من جسدٍ إلى آخر بعد الموت؛ وذلك إتمامًا لتطوُّر الروح والوصول للكمال، أو لتصحيح أخطائها السابقة؛ تحقيقًا لعدل الله فى الأرض، أو لإتمام رسالةٍ ما، نجد هناك مَنْ تكلَّم عن انتقال فكرة التناسخ بين الأديان والمذاهب فى مُؤلفات مُعاصرة؛ منها "the shape of ancient thought، لكاتبه توماس ماك إيفيلن".. لكننى أُحاول أن أتحرَّر من كل الأفكار الكامنة بداخلى، وأُحلِّلها كلما أرى أشياءً وأشعر بأنى عشتها سابقًا،

ومازلت لا أعرف هل هذا طبيعىٌّ أم أن الأمر أصبح خللاً فى قواى العقلية، أو ربما أن أفكارا مُلوَّثة ومُشوَّشة بالنظريات الهلامية دائمًا، إلا أننى وجدت دكتور "إيان ستيفنسون"، أستاذ الطب النفسى السابق بجامعة فيرجينيا، الذى كرَّس حياته المهنية فى إيجاد أدلة عن تناسخ الأرواح، وادَّعى بأنه عثر على أكثر من ٣ آلاف مثالٍ على نظرية التناسخ، ومن بين تجاربه كانت دراسة على أكثر من مائتى طفلٍ، حيث وَجد ٣٥ فى المائة من الأطفال الذين يدَّعون أنهم يتذكَّرون حيواتهم السابقة لديهم عيوبٌ أو تشوّهات خلقية تربطهم بجروح الشخص الذى يتذكَّرون حياته، وتبيَّن لدى "ستيفنسون" أن العيوب الخلقية المُبلَّغ عنها تكون أنواعًا نادرة من التشوهات، وتتطابق فى مكانها مع جروحٍ فى أجساد أشخاص متوفين رحلوا عنا، لذا فإن "ستيفنسون" اعتقد بأن تناسخ الأرواح - وفقًا لأبحاثه وتجاربه-، ظاهرة حقيقية ومُثبتة علميًا.
أرى أن كل ما حدث ويحدث فى الماضى والحاضر والمستقبل له سببٌ وشكلٌّ منطقىٌّ يُعتبر، وعبر البحث فى الكتب التاريخية رأيت أن هناك أحداثًا تاريخية تتكرَّر فى نفس التاريخ وخلال دوران المرحلة الزمنية ذاتها كل فترة، فهل التاريخ حقًا يُعيد نفسه كل فترة زمنية لا نعرفها أم أن الأرض أصبحت مُتحكمةً فى سكانها، وهى التى تجعلهم يُعيدون التاريخ مرارًا وتكرارًا، أم أن الأرواح الساكنة لتلك الأراضى تُحاول التحكُّم فى الأجساد المُغلِّفة لها، وتُعيد أحداثها فى زمنٍ آخر؟، ويبقى السؤال لِمَ لم يُعاد التاريخ كما هو، وبالتحليل وجدت إجابةً ربما تكون مُقنعةً، وهى أنه لأن الشخص الذى يمر بموقفٍ أخطأ فيه لن يُعيده بنفس الشكل فى المرة الثانية أو الثالثة، ولكن تلك الروح من الممكن أن تفعل أشياءً حدثت بالفعل، ولو كان هذا الاستنتاج صحيحًا، فهل هذا التكرار الأبدى الذى وضع له الكثير من العلماء منهجًا وأبحاثًا وُصفت فى العصور القديمة فى كتابات شهيرة، وتحليلات موثَّقة فى القرن التاسع عشر، بأنها قد تكون واحدة، فكتابات فريدريك نيتشه، وهاينريش هاينه، تُعيد نفسها مرة أخرى حتى باتت متوافقةً بمجتمعنا فى القرن العشرين، وهناك من العلماء مَنْ لا يُؤمن بذلك، ولكن أغلب الباحثين والمُحللين لاحظوا أن التاريخ يُعيد نفسه لدرجة مرعبة، وظهر ذلك فى كثيرٍ من الأحداث المُتشابهة تمامًا، لذا تم وضع نظرية "التكرار التاريخى"، والتى قدَّمها بوليبيوس، وساعده فيها المُؤرِّخ التاريخى الشهير الهلنستى ما بين ١١٨ - ٢٠٠ قبل الميلاد، وبدأ الأمر بالتطوُّر التاريخى والتكرار الكونى، وأُطلق عليه العودة الأبدية، وهناك مُعتقدات شرقية فى هذا الشأن ترى أن الطبيعة البشرية لا تتغيَّر، ومن المُمكن أن يتكرَّر نفس النوع من الأحداث فى أى وقتٍ ويُوجد كثيرٌ من آيات الذكر الحكيم التى تُبيِّن ذلك، كقوله تعالى: "ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك"، سورة فصلت.
على هذا الجدل الدائر لنظرية التكرار، ما بين الحقيقة وتوارد الأفكار وتشوُّشها لدى البعض، وجدت نفسى فى حِيرة ممَّا يجول فى فكرى، وتوصَّلت إلى أنه سواء كان هناك من تناسخٍ للأرواح أو تكرار تاريخى أو أن ما نراه من أفعالٍ مُعادة كما هى لأشخاص بفعل طبيعة الأرض أو   المبادئ والقيم، فإنه يجب أن نُنقِّى أرواحنا من التلوُّث، وأن نرتقى بها إلى أعلى الدرجات، وأن نجعل فى وجودنا خيرًا لكل مَنْ حولنا، وأن يعم السلام النفسى بدواخلنا، نُهديه لمَنْ يعيش معنا على الأرض، ولنستفيد من مرحلة البناء والتشييد التى تحدث فى بلدنا العظيم مصر، ونكون عوامل بناءٍ قويم؛ لنُعيد تكرارًا تاريخيًا مرَّت به تلك الأرض من قبل، فنحن الآن فى أوج عصر الجمهورية الجديدة ذات النهضة الشامخة، تلك الجمهورية المبنية على العِلم والثقافة والحضارة، وهذا العصر هو عصر البناء والتشييد والنهضة فى شتَّى المجالات.
لو رجعنا بالزمن أكثر سنجد تشابهًا تاريخيًا بين الفترة الحالية والعصر الفرعونى المتوسط، حيث امتازت تلك الفترة بالبناء والتشييد، خاصة المتاحف؛ مثل متحف الأقصر، وكانت بعد مرحلة اضمحلالٍ لمصر "سنتحدث عن تلك الفتره لاحقًا"، وما أراه الآن في مصر مفخرةٌ لكل مصرى، لأننا سنشهد بناءً ثانيًا لمصر الحديثة، وهذا البناء يحتاج إلى تكاتف المصريين والعمل لمصلحة الدولة، كما حدث فى عصر محمد على باشا، وسنكتفى بمواردنا قريبًا، وستحدث ثورة صناعية وزراعية وصناعية وعلمية، وما فعلته مصر فى مؤتمر المناخ، هو إثباتٌ لقيادتها وريادتها للعالم كله، وأننا دولة صديقة للبيئة وللأرض التى نعيش فيها، ونحاول بدأبٍ معالجة ما أتلفه العالم من حروبٍ وتلوثٍ ودفن مخلفات نووية أضرت بالمناخ العالمى، وأضرت بالبيئة، وستضر جزءًا كبيرًا من العالم بغرق الكثير من المدن فى حال عدم إدراكنا للحقائق الكونية والمناخية.. ما تفعله دول كبرى من إهمال الطبيعة وتغيير النظام الكونى سيؤدى إلى غرق الكثيرين، فهل ستفعل مصر ما فعلته سفينة نوح ولفت نظر العالم كله أن يصعدوا إلى مركب النجاة معنا، ويكفوا عن أذى الطبيعة والمناخ، وهل سيكفوا عن رغباتهم الشنيعة فى تحقيق السيادة وجمع الثروات، لأجل الحفاظ على العالم، أم انهم لن يدركوا خطورة الموقف وسيكذبون على شعوبهم حتى تحدث الكارثة.. إن مصر تمد يد العون للعالم، وتدعوه للحفاظ على الكوكب الذى نعيش فيه قبل حدوث الطامة الكبرى.. إنها مصر، بلد الأمل والتقدُّم والرخاء بقيادتها وأجهزتها ومؤسساتها وأهلها، مصر التاريخ.. مصر العطاء.. مصر الولاء.. مصر الوطن.. مصر القيادة والريادة، مصر السلام.. تحيا بلدى مصر، وتحيا رايتها عاليةً شامخة.