عزت القمحاوي يكتب: المزحة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

لديّ فرضية أتمسك بها، تقضى بأن المازح والخيالى شيء واحد، لهذا يعجبنى عنوان الأصل الفارسى لألف ليلة وليلة «هزار افسان» أى ألف خرافة أو أسطورة. المفارقة أن الـ (هزار) هو الرقم ألف، لكنه أخذنى إلى معنى المزاح بالعربية. ترْجمتُ الصوت معنى لأننى لا أعرف الفارسية، لكننى أستطيع الدفاع عن فكرتى دون هذا الدليل الزائف.

اقرأ أيضا|  أليخاندرو ثامبرا: الأدب وهمّ الهوية

لنحاول اختبار هذه الفرضية من  خلال «الكاريكاتير» الفن الذى يقوم على السخرية عبر الإخلال بالنسب الطبيعية لأجسام البشر وكل الموجودات. عندما يعمد الرسَّام إلى العبث بملامح شخص من خلال المبالغة.

وفى حجم أنفه أو طول رقبته أو عبر منحه جسم قط أو أنياب أسد، فهو يريد أن يقول شيئًا عن الشخصية من خلال الأعضاء التى اختار أن يبالغ فى حجمها لكى يصوره باطشًا، أو شرهًا، غبيًا.. إلخ. هذه هى طريقة الكاريكاتير فى السخرية السياسية والمزاح فى قصص الأطفال، لكن هذه المبالغة شخص خيالى لا وجود له فى الواقع.

وهكذا تتطابق الفنتازيا مع السخرية؛ لأن جوهر كل منهما هو الإخلال بالنِسب المتعارف عليها فى قوانين الطبيعة، ولكى يكون الكائن الجديد مقنعًا يجب أن يظل على صلة بالأصل الواقعي.

ولابد  من وجود سمة تربط الشخص الخيالى فى الرسم بالأصل الواقعى لشخص ما، فى حالة رسم شخص محدد، وفى حالة الرسوم التعبيرية فى القصص لابد من الإبقاء على تفاصيل تجعل القارئ يُفرِّق بين البشر والحيوانات والطيور.

والفرق بين الفنتازى فى الأدب وبين الرسم الكاريكاتيري، هو الفرق بين إمكانيات اللغة وإمكانيات الرسم. لا تعبث فنتازيا الأدب بالبشر والموجودات المادية فحسب، بل تستطيع أن تلعب بالزمان والمكان؛ فتجعل الانتقال من بغداد إلى القاهرة يجرى فى لحظة، وتمنح حيوانًا كالقرد القدرة على العيش فى أعماق البحار، وتحول البشر إلى حيوانات وتماثيل والعكس. 

وفى الطبخ نجوم بنوا شهرتهم من خلال ذلك التوأم الملتصق «الفنتازيا والسخرية» بينهم إميريل لاجاسى الذى يُقدِّم وصفات منعشة للخيال تصطاد رواد مطعمه بالغريب والمدهش، مثل سلطة رأس النخلة «الجُمَّار» دون أن يكف عن المزاح أثناء عرض الطبخ الذى يقوم به أمام المتلقين الذين يحملون فى مطعمه صفة مزدوجة (زبائن وجمهور). يقول بينما يلقى بأحد البهارات فى المقلاة: «لن يموت أحدهم إذا زدنا قليلاً»!

وهكذا؛ فالمكونات التى يستخدمها إميريل ليست كلها مما يوضع فى القِدْر، نكاته وحواراته المازحة مع رواد مطعمه والفرقة الموسيقية المصاحبة ووعى الجميع بأنهم تحت كاميرا البرنامج كلها عوامل ساهمت فى خلق أسطورة إميريل ومطعمه.

وهو ليس الطاهى الوحيد الذى انتبه إلى علاقة الفنتازى بالمزاح، لدينا أجيال من الطباخين الإنجليز، ربما أشهرهم هيستن بلومنثال، الذى عزز فكاهته بفنتازيا الكيمياء (حتى ليبدو قريب الشبه بملكيادس فى مئة عام من العزلة) ولدينا جيمى أوليفر، الذى حمل على عاتقه تبديد الصورة المستقرة لدى الشعوب الأخرى عن التحفظ الإنجليزي.

فهو يتجول فى الدول، يشارك طباخى الأسواق الشعبية شرقًا وغربًا فى الطبخ بإمكانياتهم الفقيرة ليضفى بحماسته شيئا من الفكاهة على شظف مأكولاتهم الفقيرة. يطبخ سمكًا على الشاطئ بماء البحر، وهذه جسارة لا يمكن أن يتقبلها سوى جمهور يقدِّر المزاح عاليًا. 

الأمريكية جوليا تشايلد (١٩١٢ـ ٢٠٠٤) أسطورة الطبخ فى كل العصور، التى يقال إنها غيَّرت عادات الأمريكيين الغذائية، لم تصنع أسطورتها لأنها نقلت المطبخ الفرنسى للأمريكيين فحسب، لكنها صنعت ذلك بفضل المزاح.

وقدَّمت جوليا الأطباق الفرنسية بعد أن خلَّصتها من أصوليتها وقواعدها المتزمتة. كانت تعيد إلى المقلاة ما وقع منها أمام الكاميرا أو تعالج طبخة بعد أن أوشكت على التلف بدلًا من أن ترميها. كتابها فن الطبخ الفرنسى الذى صدر عام ١٩٦٤ لم يزل جذابًا على م الوقت بفضل هذا المزاح.و كانت تمزح لأنها لم تكن تحسن الطبخ أصلاً، وتمزح لأنها تسخر من الأصولية فى اتباع الوصفات وتقاليد المائدة التى من المفترض أنها  تدعو إليها. 

وبعد أربعين عامًا قررت الشابة جولى آن پاول أن تمزح مع جوليا فأنشأت مدونة لمحاكاة وصفاتها، وبعد تجارب فاشلة تمكنت من تقديم ٥٢٤ وصفة فى ٣٦٥ يومًا، وصدرت مدونتها فى كتاب حمل عنوان «جوليا وجولي» عام ٢٠٠٥، تحول إلى فيلم عام ٢٠٠٩ قامت فيه ميريل ستريب بدور جوليا تشايلد وأيمى آدمز بدور جولى پاول.

ومن التناغم بين الفنتازى والسخرية السياسية المرة صارت «الشيطان يزور موسكو» واحدة من روايات القرن العشرين فى الأدب العالمى كله والرواية الأهم فى الأدب الروسى خلال القرن. لم يتسن لأى من الروايات أن تحقق هذا التوازن الفذ بين التوأمين.

والمزاح أحد الأعمدة الأساسية التى ترفع عمارة ألف ليلة الخيالية. عندما يتهم العفريت التاجر بقتل ابنه بنواة بلح؛ فهذه مزحة؛ فلا نواة البلح تقتل ولا الجنى يموت من ضربة إنسى مهما كانت قوتها، الاختلاف بين طريقة الحمَّال الشعبية المباشرة وطريقة البنات المجازية لا تخلو من فكاهة.

وتَنكُّر الحبيبة فى صورة رجل يراود حبيبها فى اللقاء الأول بعد الغياب مشهد فكاهى أكثر منه إيروتيكيا. الرخ الذى حمل السندباد فى الرحلة الثانية يزق صغاره (يطعمهم) أفيالًا. صورة تُحسب على المزاح وتحمل القارئ على قبول حجم الطائر الخيالي. لم يتركه السرد طائرًا وحيدًا حط على الجزيرة لمهمة وحيدة هى نقل السندباد، بل ينتمى إلى نوع موجود، وله ذرية يعتنى بها كسائر الطيور!

والرواية الحديثة بدورها بدأت بمزحة. شرع ثربانتس فى كتابة دون كيخوتى من أجل التهكم على مبالغات روايات الفروسية فى عصره. أراد السخرية من الخيال الفنتازى غير المقنع فنيًا؛ فكتب عمله الفنتازى الخالد المقنع، بفضل نيته الساخرة وقدرته على المزاح.

استمد الفارس الخيالى دون كيخوتى دى لامانشا وجوده من ذهوله ومن مزاح وتواطؤ من يقابلهم. ضمن استعداداته الأولى لجمع ثياب وعدة فارس، يسرق دون طاسة صابون الحلاق ويدعى أنها خوذته الحربية، ويتنازعان عليها.

ويطلبان حكم الآخرين الذين يحكمون مازحين بأنها خوذة. لو التزم المحكمون الجدية وقالوا إنها طاسة الحلاق وأن دون كيخوتى مدع أو مجنون لسارت الأمور فى مستواها الواقعي، وخرج الشريف العبقرى من النزاع بوصمة، وبقى قرويًّا خامل الذكر وماتت معه مزحته!

وكذلك لم يكن  لدوستويفسكى أن يتمكن من كتابة رواية «المِثْل» المفعمة بالأسى دون أن يمتلك إرادة المزاح التى جعلت القارئ يتواطأ معه ويتابع حياة ياكوف بتروفتش جولدياكين، الكاتب فى إحدى الإات الحكومية، وقد ظهر له قرين مطابق يتبعه فى كل مكان حتى أنه يحصل على وظيفة بالإة نفسها، ويجلس مقابله وجهًا لوجه على طاولة النسخ، ويسبقه فى الدخول إلى رؤسائه ويتزلف لهم.

ولم يكن نجيب محفوظ يتكلم عن نواياه، لكن المعرفة بهذا المازح الكبير تحملنا على الاعتقاد بأنه كتب «ليالى ألف ليلة» بقصد المزاح مع جيل الستينيات. قرر المُعلم أن يقدم درسًا عمليًا، بعد أن أفرط بعضهم فى ادعاء أنه تجاوز نجيب محفوظ الذى يكتب الرواية بتقاليدها الغربية، وأعلن أحدهم أن مشروعه هو تأسيس رواية عربية انطلاقًا من التراث. 

أقدم محفوظ على التناص مع عنوان «ألف ليلة وليلة» مثل لاعب متمكن يكشف أوراقه، واستلهم الليالى مازحًا، بل إن جسارته فاقت جسارة رواة الليالى المجهولين؛ فبينما يخرج الجن فى «الليالي» من القاع المظلم للبحر والأماكن المغلقة على أسرارها منذ الأزل، جعله نجيب محفوظ يخرج على شاطئ النيل فى القاهرة التى لا تنام!

والإقدام على استعارة عالم ومحاكاته لا يحدث إلا فى حالتين: حالة الكاتب البريء الساذج الذى لم يسمع بوجود شرطة الإبداع، والكاتب الحساس الواثق من أن مهارته تضعه فوق اللوائح والقوانين؛ فهو الذى يضع القوانين، مثل بورخيس الذى أعاد بكتابته تعريف معنى التناص.

ويحتاج الخيالى إلى جانب الرغبة فى المزاح علاقات مع الواقعى تشبه العلاقة بين الشخص ورسمه الكاريكاتيري، وفوق ذلك يحتاج إلى بعض الثقة،وفي ذات يوم، كنت أُطلُ من الشُبَّاك؛ فرأيت السيارة المرسيدس السوداء التى أعرفها بستائرها النبيذية تتوقف ويُطوقها مجموعة من موظفى أمن الصحيفة.

وتحمى ظهرهم مجموعة أخرى تمسح الشارع بعيون صقرية، بينما يرمقهم المارة بنظرات بعضها واجمة لا مبالية، بعضها ساخرة، وبعضها حائرة مستفهمة عن هوية الشخص الذى يستحق هذه الاحتياطات الأمنية.

وبعد إشارة الأمان من قائد الحراسة اندلق من المقعد الخلفى رجل أعرفه. كان كتلة هلامية مضت إلى الداخل وسط  طوق الحراس. لم تكن كتابات ذلك الصحفى الركيكة تلفت نظر أحد، وليست لها أدنى أهمية تجعل منه هدفًا لأى اعتداء، وكان هذا هو الوجه الساخر للحراسة المشددة التى يتمتع بها من باب الوجاهة!

وفى تلك اللحظة ولدت فى رأسى فكرة مازحة: سأكتب رواية بطلها قطعة غائط ترتدى البدلة الرسمية مع رابطة عنق وتتحرك فى حماية الحرس. وبدأتُ الرواية، لكننى جبنت عن ارتكاب مزحة بهذا الحجم. ولأننى لست ساذجًا لأتجاهل شرطة الإبداع، ولست مغرورًا لأتوهم أننى فوق القوانين، تهيبت عناد القارئ الذى قد لا يمنحنى تواطؤه الضرورى  لجعل هذه المزحة مقنعة. 

ومن أجل تخفيف وقع الهزيمة، منحت نفسى ترضية صغيرة فى رواية «الحارس» عندما تعرضت لأصل الفكرة فى سياق تدريبات إعداد الحرس، إذ ابتكرت فيها تدريبين مازحين: التدريب على حراسة قطعة غائط، والتدريب على حراسة الفراغ.

وكلا التدريبين يحتاجان إلى براعة كبيرة؛ فهناك صعوبة فى تخمين نوعية المهاجمين لشيء تافه وكريه يتجنبه الناس كالغائط، وهناك صعوبة أكبر فى معرفة الاتجاه الذى يمكن أن يأتى منه عدو يهاجم اللاشيء!

والمزاح فى الأدب ليس أقل قيمة من الجدية، فهو بحسب إدوارد سعيد «شكل من أشكال المقاومة. وهو يستطيع ذلك، لأن اللهو، مثل اللذة والخصوصية، لا يتطلب التصالح مع الأمر الواقع أو مع نظام استبدادي، بل هو صيغة للحرية». 

المزاح مع التاريخ
ويتزايد عدد الطهاة الذين يطبخون فى الطبيعة؛ فوق الجبال، بالقرب من شواطئ بحار وأنهار،  ويفضلون  الوصفات القديمة ويُنفذونها بطرق الطهى القديمة ذاتها على الحطب مباشرة أو على الأحجار المحمَّاة. هل يستحق الفرق فى الطعم كل هذا العناء؟
 فبوسعنا أن نحصل على الطعم ذاته إذا ضبطنا الفرن الحديث على درجة حرارة مماثلة، وبقطعة فحم صغيرة فى الفرن يمكننا الحصول على شواء محمل برائحة الجمر كما تفعل ربات البيوت. لكن من يطبخ فى مشهد كهذا لا يطبخ لحمًا بل حنينًا.

وإمعانًا فى الحنين ربما نراه يشعل النار بقدح حجرين. ولا يمكننا أن نأخذ مجمل المشهد إلا على سبيل ذلك الحنين، ونستقبله بقدرتنا المازحة على التواطؤ؛ فنحن ندرك أن الطاهى قد وصل إلى ذلك المكان فى سيارة مريحة.

وحمل مكونات طبخته من المدينة، ولديه بدائل لوسائل الإشعال البدائية، فلا يعانى القلق الذى كان يعانيه مشعل النار القديم فى الأجواء الباردة والمطيرة، ولسنا معه لنتذوق ما طبخ، لكنه ينجح فى إشعال أحلامنا وحنيننا إلى أزمنة الفطرة والبدائية عبر هذا المزاح مع تاريخ الطبخ.

العودة إلى التاريخ فى الرواية جذابة بالقدر نفسه، لكن الهدف من هذه العودة لا يستهدف إثارة الحنين فحسب. كثير ممن تستهويهم كتابة الرواية التاريخية يرى فيها وسيلة لانتقاد أشياء فى الواقع لا يستطيع مواجهتها مباشرة، البعض يريد تعزيز سردية ما فى الزمن الحاضر عبر التأسيس لها فى التاريخ، والبعض.

وهذا هو النوع الأردأ من الروائيين ـ يرى فى التاريخ دراما حدثت بالفعل، يمكنه أن يرويها كحكايات مسلية فى ذاتها، لأنه يفتقد المهارة التى  تؤهله لابتداع بناء خاص به ويفتقر إلى النار التى تمنح الروائيين موضوعاتهم المعاصرة، أو تجعلهم يتخيرون ما يأخذون من التاريخ وما يجب أن يدعوه، وما يجب أن يبعثوا من حياة فى قلب الوقائع.

ينقل لوكاش عن بلزاك عبارة كتبها فى معرض نقده لرواية تاريخية عنوانها «لو» لمؤلفها لاتوش: «إن كامل الرواية يتألف من ٢٠٠ صفحة، يعالج عليها ٢٠٠ حدث. ولا شيء يكشف عن عجز المؤلف أكثر من تكديس الوقائع. إن الموهبة تزدهر حيثما تصور الأسباب التى تنتج الوقائع.

وفى أسرار القلب الإنساني، الذى يهمل المؤرخون ميوله». ويخلص لوكاش إلى أن ما يهم فى الرواية التاريخية ليس إعادة سرد الأحداث التاريخية الكبيرة، بل الإيقاظ الشعرى للناس الذين برزوا فى تلك الأحداث، وأن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية التى أدت بهم إلى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا فى الواقع التاريخي.

وفي هذا الإيقاظ الشعرى الذى يقترحه لوكاش هو إحدى المهام التى نهضت بها «ألف ليلة» على أكمل وجه، وقد فعلت ذلك عبر استخدامها الحسَّاس للخيالى والمازح. الشخصية التاريخية الأبرز بلا جدال فى الليالي.

وهى شخصية هارون الرشيد الخليفة العباسى الخامس. بلغت الدولة على يديه شأنًا عظيمًا. كان يحج عامًا ويغزو عامًا، تمكن من إخماد حركات الانفصال الداخلية، وفرض الجزية على الإمبراطورية البيزنطية.

وأقام أحلافًا خارجية أهمها حلفه مع شارلمان ملك فرنسا، وفى عهده ازدهرت الثقافة والبحث العلمي. ولم تزل بغداد تحمل اسم عاصمة الرشيد، حيث شهدت بناء بيت الحكمة على يديه وترجمة أول كتاب فى الهندسة، وفى الوقت نفسه بلغ بذخه وبذخ زوجته حدًا جاوز المعقول. 

ولم تحشد «ألف ليلة» الانتصارات التاريخية العظيمة لشخصية مجللة بالمجد، بل  ابتكرت للخليفة وجهًا مازحًا جعل حضوره يفوق حضور شهريار فى الليالي. وقد ساهمت صورته فى الليالى فى الإبقاء على سيرته حية فى الوجدان أكثر من كل الخلفاء العباسيين، لأن ما يبنيه الأدب يستحيل هدمه، بينما يتهدم بنيان التاريخ الرسمى بتاريخ بديل يكتبه منتصر جديد.

وتقدم الليالى هارون الرشيد فى صورة رجل فضولي، يجعل من المنصب مزحة. يخرج فى جنح الليل، لا ليتقصى أحوال الرعية ويعين المحتاج كما فى تراث العدل الذى أرساه عمر بن الخطاب وتبعه فيه الأموى عمر بن عبدالعزيز، بل ليتسلى مع وزيره جعفر البرمكى وغالبًا ما يقودهما فضولهما الليلى إلى بغيتهما من التسلية، خلال التفقد المازح لأحوال الرعية، متحملاً فى سبيل ذلك الكثير من المفاجآت غير السارة!

هذه السيرة الهزلية للخليفة ليست اختلاقًا كاملاً؛ فذلك التفقد الليلى الفضولى كان حقيقة؛ فقد كان هارون الرشيد شكاكًا ويحب أن يطلع على أحوال الناس بنفسه، بسبب كثرة القلاقل الداخلية: ثورات الخوارج والتنافس بين العرب والفرس فى بلاطه.

كذلك كانت ملازمته لجعفر البرمكى حقيقية، وقد ورث الوزير قربه من الخليفة عن أبيه؛ فقد كان يحيى والد جعفر قريبًا كذلك من الخليفة إلى درجة أنه فوضه فى اتخاذ قرارات دون الرجوع إليه، واستعان يحيى بولديه الفضل وجعفر.

وقد منح  هارون الرشيد للفضل ولاية بلاد المشرق (خراسان وطبرستان وأرمينيا وبلاد ما وراء النهر) وولى الأصغر ـ جعفر ـ  على الجزيرة والشام ومصر وأفريقيا، ولأنه كان يحبه استبقاه فى بغداد بالقرب منه، وجعلته هذه الثقة شديد النفوذ، وانتهى هذا القرب بتجاوزات من البرمكى.

وتطاول على سلطة الخليفة حتى أنه حز ـ دون الرجوع للخليفة ـ رأس السجين العلوى عبد الله الشهيد بن الأفطس، يوم النوروز وقدَّمه إلى هارون الرشيد فى طبق هدايا، فأصيب الخليفة بالذهول لمقتل الرجل، بينما كان قد  أوصى البرمكى بالتوسعة عليه واستيعاب غضبه.

وانتبه بعد تلك الواقعة إلى خطورة نفوذ البرامكة، فجعل مسرور السياف يستدرج جعفر ويحز رأسه، ثم أمر بضرب عنقى طفليه الصبيين، والقبض على والده وشقيقه وجميع أولاد البرامكة وغلمانهم ومواليهم، وبلغ عدد من قتلهم الرشيد فى تلك المحنة نحو ألف إنسان.

وفى مرآة الإبداع المازح مع التاريخ، تظهر جرأة جعفر على الخليفة وغضب الخليفة منه فى لحظة خيالية تمامًا. فى الليلة الثامنة عشرة طلب هارون الرشيد من جعفر البرمكى مصاحبته لتفقد أحوال الرعية.

فإذا بهما يقابلان صيَّادًا عائدًا بشبكته على كتفه وعليه علامات الحزن لأن الحظ معانده، فاقترح الخليفة أن يصحباه إلى البحر، ليُلقى شبكته وأيَّا ما أخرجت سيشتريه منه. وأخرجت الشبكة صندوقًا، عندما فتحه الخليفة ووزيره مع مسرور فى القصر وجدوا بداخله جثة فتاة مقطَّعة.

لما رأى الخليفة الفتاة المقطعة بعد أن فتحوا الصندوق بكى وقال «يا كلب الوزرا أتُقتل القتلى فى زمنى ويرمون فى البحر ويصيرون معلقين بذمتي؟»  وطلب منه أن يصل للقاتل وتوعده إن لم يفعل أن يصلبه على باب القصر هو وأربعين من بنى عمه. طلب جعفر مهلة ثلاثة أيام لكشف القاتل.

وبعد أن غادره لم يجد فى نفسه الرغبة فى البحث عن القاتل، فقضى الأيام فى بيته وفى الرابع أرسل إليه الخليفة غاضبًا فلما مثل بين يديه سأله: أين قاتل الصبية؟ فقال جعفر: يا أمير المؤمنين هل أنا أعلم الغيب حتى أعرف قاتلها؟ 
رد متبجح ليس فيه من أدب التخاطب مع الخليفة الذى اغتاظ منه وصلبه وصلب أولاد عمه، وأمر مناديًا أن ينادى فى شوارع بغداد: «من أراد الفرجة على صلب جعفر البرمكى وزير الخليفة وصلب أولاد عمه على باب قصر الخليفة فليخرج ليتفرج».

لا يحتمل الإبداع كل الدم الذى سال فى «محنة البرامكة» الواقعية، فجعلت الليالى عملية الصلب تعزيرية، حيث صلبهم الخليفة فى القصة أحياءً، وانتهت المحنة بالعفو، واحتفاظ جعفر بمكانته!
الخليفة الثانى الذى يظهر فى الليالى هو عبدالملك بن مروان، الخليفة الأموي، الملقب بالمؤسس الثانى للدولة الأموية، نراه فى الليالى بين خاصته يناقشون أمر الأمم السابقة فيأتى ذكر النبى سليمان وما أُعطى له من سلطة على الجن.

ويخبره طالب بن سهل أحد الحضور أن جماعة من التجار كانت مسافرة إلى الهند ودفعتهم الريح إلى اتجاه آخر فوصلوا إلى أرض من أراضى الله ورأوا صيادين تُخرج لهم الشباك قماقم من التى كان سليمان يحبس فيها الجن ويختمها بخاتمه ويلقيها فى البحر، فقال أمير المؤمنين «والله إنى لأشتهى أن أرى شيئًا من هذه القماقم فقال له طالب بن سهل: يا أمير المؤمنين إنك قادر على ذلك وأنت مقيم فى بلادك، فأرسل إلى أخيك عبدالعزيز بن مروان بأن يأتيك بها من بلاد الغرب.

وبأن يكتب إلى موسى أن يركب من بلاد الغرب إلى هذا الجبل الذى ذكرناه ويأتيك من هذه القماقم بما تطلب». وتمخض الاجتماع عن قرار يبدو فكاهيَّا تمامًا؛ إذ أمر الخليفة بتجهيز حملة تتوجه للبحث عن هؤلاء الجن وإحضارهم. 

عُقدت قيادة الحملة لطالب بن سهل نفسه، على أن يلتحق بموسى بن نصر الوالى على المغرب ويسلم القيادة إليه. وقد حققت الحملة هدفها الخيالى الأساسى وأحضرت قماقم مختومة بالرصاص فُتحت أمام الخليفة وخرج منها الجن يتوسلون إليه العفو عنهم متصورين أنه النبى الذى حبسهم، لكن البعثة المازحة عادت كذلك بجواهر وأموال لا تُحصى مما وجدوه فى قصور خالية بمدينة النحاس الممسوخة!

ورحلة ناجحة بمعايير السرد الفنتازي، لكنها الصدى المازح لتاريخ حقيقي، ويمكن تأويلها تأويلًا سياسيًّا؛ فهى تقول عبر العجائبى إن الخليفة الذى أخضع الأعداء والحلفاء بلغت سلطته من القوة حجم سلطة الملك النبى سليمان.

الذى أخضع الجن. هذا هو الغرض الجاد للقصة، وهو يحتمل المدح والإعجاب، بقدر ما  يحتمل الذم والضيق من طموحه الذى لا تحده حدود. حيث يجب ألا ننسى أن طموح الملوك تتحمله الرعية.

ولقد بلغت عظمة ابن مروان حدًا كبيرًا رأت المبالغة الأدبية أن تصوره قادرًا على الوصول إلى الجن فى قاع المحيط دون أن يقوم من مقامه. أما موسى بن نصر فى الليالى فهو موسى بن نصير، ويبدو ذلك تصحيفًا طباعيًا، أو تغييرًا لصنع مسافة مع التاريخ، لكن هناك روايات تقول إن الاسم الحقيقى لموسى بن نصير كان «ابن نصر» فعلاً وتم تصغيره إلى نصير.

تستند القصة على شيء من سيرة موسى بن نصير فى المغرب. كان عبدالملك بن مروان قد ولاه على البصرة ثم اتهمه بالاستيلاء على خراجها وعزله. وكان عبدالعزيز بن مروان أخو الخليفة واليًا على مصر (استقل بها لمدة عشرين عامًا) وكان صديقًا لموسى بن نصير؛ فتشفَّع له لدى أخيه لكى يعفو عنه ويعينه واليًا على إفريقيا فاستجاب عبدالملك.

واجتهد موسى بن نصير فى الجباية لإرضاء الخليفة ومحو صفحة البصرة، وأرسل إليه  أموالاً طائلة من المغرب بالفعل، لكنها كانت أموال جباية أثقلت ظهور أهل المغرب، جعلتها قصة مدينة النحاس كنوز الموتى فى مدينة النحاس الممسوخة.

التاريخ الحقيقى لموسى بن نصير، يحوى العديد من الروايات المتضاربة التى تجعل منه شخصية خيالية حتى فى كتب التاريخ. هناك خلاف واسع حول أصله؛ فقد يكون من قبيلة لخم وقد يكون مولىً من مواليها، وهناك من يقول من قبيلة وائل بن بكر، ويقال إن أباه عمل فى حرس معاوية، أو قائدًا لشرطته عندما كان معاوية واليًا على الشام فى خلافة عمر وعثمان، وغير ذلك من روايات. 

قاد موسى جيش فتح قبرص فى عهد معاوية، وعندما تولى إمارة إفريقية  قام بغزوات ناجحة على سردينيا وصقلية وأخمد ثورات البربر وكان يرسل بالغنائم إلى عبدالعزيز، ومنه إلى الخليفة عبدالملك الذى زال غضبه عن موسى.

 وفى خلافة الوليد بن مروان جهَّز موسى جيش طارق ابن زياد لفتح الأندلس عام ٩٢ هـ ولم يلبث أن جهَّز جيشًا آخر وسار على رأسه، فتقابل مع طارق وجرت بينهما خلافات على بعض الترتيبات.

وقد استدعاه الوليد إلى دمشق مع القائد الأمازيغى فتوجها إليها لكنهما وصلا بعد تسلم سليمان الحكم، الذى اتهمه بالاختلاس وحكم عليه بالعزل والغرامة والسجن وتشفَّع له اليزيد بن المهلب. ويقال إن موسى ظل بعاصمة الخلافة، ومات فى طريقه إلى الحج بصحبة الخليفة سليمان.

وبعيدًا عن المزاح حول مشهد عودة البعثة العجائبية إلى عبدالملك بن مروان ورعب الجنى وخضوعه للخليفة؛ فالرحلة بعجائبها وكنوزها يمكن أن تُقرأ كموعظة حول تفاهة كنوز الدنيا، ويمكننا أن نقرأها كأهجية لجشع الجباية عندما يتمادى الحاكم ويعتبر الرعية ميتة حق له أن يرثها.

تروى قصة «حكايات من الأندلس»  عن قصر مغلق، وكان كل ملك جديد يضيف على بابه قفلاً، حتى تولى ملك أصرَّ على فتحه رغم كل التحذيرات «فوجد فيه صور العرب على خيلها وجِمالها وعليهم العمائم المسبلة وهم متقلدون بالسيوف، وبأيديهم الرماح الطوال.

وكما وجد كتابًا قرأ فيه: إذا فُتح هذا الباب يغلب على هذه الناحية قوم من العرب، وهم على هيئة هذه الصورة. فالحذر ثم الحذر من فتحه ، وكانت تلك المدينة بالأندلس ففتحها طارق بن زياد فى تلك السنة فى خلافة الوليد بن عبدالملك من بنى أمية»!

فهذا التفسير الأسطورى لاحتلال المسلمين للأندلس مزاح مع لحظة تاريخية يعتبرها الكثير من العرب من بين اللحظات المضيئة والجادة فى تاريخهم، لكن التاريخ الرسمى لفتح الأندلس لم يخل بدوره من الغموض والمزاح.

والكثير من التفاصيل حول تعداد الجيش وشخصية طارق بن زياد مشكوك فى صحتها، بما فيها مقولته «العدو من أمامكم والبحر من خلفكم» التى تشى بعلاقة راسخة بالبلاغة العربية لا يمكن أن تتوافر للمحارب الأمازيغي.

إذا كنا غير متيقنين من حجم الخيالى فى التاريخ الرسمي؛ فمن باب أولى أن نتقبل الوجه الخيالى المازح الذى تقدمه الليالي.