لعنة ميت رهينة: ظلال الأسطورة واستدعاء التاريخ

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

د. حمزة قناوى يكتب..

يبدو سؤالٌ مثل: ما الذى يجعلُ من روايةِ «لعنة ميت رهينة» للروائية (سهير المصادفة) تشعُ جمالاً فنياً؟ يبدو سُؤالاً مُشوقاً للبحث عن إجابته، خاصة أنها تتحدث عن لعنة وجرائم قتل! يمكن القول إن الرواية من النوع الذى يخاطب الوعى بطريقة نافذة إلى قلب وعقل القارئ، يحدث ذلك عندما تمتلئ الرواية بمجموعة من الرموز التى تسير فى انتظام وحبكةٍ معاً، بحيث تصبح كل متابعة لأحداث الرواية، وكل تحليل للشخصيات، وكل قراءة حول مصير الشخصيات، تحمل فى ثناياها نوعاً من التوجيه، وتطرح مزيداً من الأسئلة، وإذا ما كان (ديفيد لودج) قد اعتبر تيار الوعى فى الرواية نوعاً من الدلالة على الفردية، فإن الطريقة التى تستخدمها سهير المصادفة لتحفيز الوعى فى روايتها هى طريقة تحفيز جماعية، تهدف إلى تحقيق وعى جمعى للقراء، وربما للشباب، أو للمصريين بعامة عقب ثورة يناير 2011.

تقول الراوية: «حين دخلت عليهما فى صباح 28 يناير 2011م، صرخت فى وجهيهما بوجهها المستثار: كل شباب مصر فى الشارع، ردت عليها نور بهدوء:
نعرف يا ليلى، نعرف أنها ثورة، ولكننا لم نجهز أنفسنا بعد لحكم مصر. ثم ضحكت ضحكة متحشرجة طويلة وشاركها صلاح الضحك. تسمرت ليلى فى مكانها غير مصدقة سخرية ابنتها من وجود معظم الشعب المصرى فى الشارع، حاولت نور تخفيف حدة صوتها: - ها نحن نتعلم دون توقف ونجتهد يا ليلى، نتعلم ما هى الثورة التى فوجئنا بها الآن.

المصيبة يا ليلى أن الجذر معطوب تماما، وفساد الروح وصل من رأس السمكة إلى كامل جسدها، ها نحن نقرأ تاريخ الثورات، ونحاول تصور ما ستؤوله إليه هذه الثورة بعد شهور وسنوات، ما زلنا نسأل أنفسنا يا ليلى مثل هذه التساؤلات، يعني، ماذا نفعل أكثر؟»


وهذا النص الذى يأتى بين ثنايا الأحداث وفى لحظة صِدام بين (ليلى)، و(نور) يعكس أيضاً فى ثناياهُ صِداماً بين الأجيال، بين طبيعة الاهتمام وفارق المعرفة، فبينما (ليلى بنت ادهم الشواف)، و(نور ابنة ليلى) كلاهما ابنة وحفيدة لـ(هاجر) إلا أن لقاءَهما معا فى هذه الأثناء فى أحداث 28 يناير يأتى على خلفية ما أثير من صراع بين الأجيال.

وبينما تقف (ليلى) خائفة ولا تعرف المصير، تقف (نور) متطلعة وباحثة عن المعرفة، وفى اعتقادى أن بين هذين الهاجسين، هاجس الخوف مما حدث على أرضِ مصر بامتداد تاريخها الطويل، خاصةً بعد الانفتاح الاقتصادى حتى لحظة 25 يناير 2011، وهاجس التطلع والأمل والبريق للمضى للأمام ولحدوث شىء إيجابى فى المستقبل، بين هذين الهاجسين تمت صياغة النسيج الروائى وإحكام حَبكتِه.


أحداث الرواية إذاً رمزية متداخلة، تبدو كأنها تحمل طبقات مختلفة من الوعي، بينما نقرأ فى الأحداث صراعاً عاطفياً، واقتصادياً واجتماعياً، مثل ذلك الذى حدث مع (عبد الجبار أيوب) وهو يستقبل (أدهم الشوّاف)، فهنا يحمل تناصاً تاريخياً مع فكرة «الغزو العربى» لمصر، أو «الغزو الوهابى» فى السبعينيات.

أو غيرها من الأفكار التى قد تحتمل العديد من التأويلات الرمزية، كما أن تسمية البطلة الرئيسية (هاجر) تحمل رمزاً متناصاً مع السيدة (هاجر) المصرية أم سيدنا (إسماعيل) عليه السلام، و(صلاح) و(نور) كل هذه الأسماء مقترنة بأدوارها وبما هو مسندٌ لها من وظائفَ تحملُ دلالاتٍ رمزيةً تتضحُ مع الوقت مفاتيحها، وما تشير إليه.


إذن فقرية «ميت رهينة» هى رمزٌ لمصر، والرواية استعراضٌ للتاريخِ المصرى بشكل متداخل مع أحداث الرواية، وكل فعل هو متناصٌ مع حدث تاريخي، أو ما يطلق عليه (حلمى محمود) تسمية: رواية الاستدعاء.

ويأتى كل ذلك فى سياق حكى شيق، معجون بالطبيعة المصرية، بكل صفاتها المتداخلة والمتناقضة، بحلوها ومرها، فترصد طبيعة ووصف القرية بما يشابه حال أغلبية المصريينَ، ويتكررُ نحوَ خَمس مرات وصف الدخول إلى القرية، وهو ما يرمز تاريخياً إلى وصف الغزو لمصر أكثر من مرة.

حتى أن هذا الدخول يتنوع بين النهار والليل وبين الجهة القادم منها الداخل إليها، وفى كل الأحوال توحى الأمور بأن الحديث عن الداخل إلى القرية يدورُ عن غريب، ولكنه غريبٌ يمتازُ بأنه مشدود إلى هذه القرية برابط ما.

وكأنه سيولدُ فيها من جديد، أو كأن أحلامه سوف يحققها بداخلها، رغم أن حال أهلِها طافحٌ بالبؤس، ومتردٍّ بالهمِّ والمرض والعلاقات غير السوية مع بعضهم بعضاً، إلا أنهُ رغم كل هذه الشرور، يستمر الوافدون إلى القرية بالدخول إليها، تباعاً تباعاً، وعبر أزمنة مختلفة.


تقول المؤلفة على لسان شخصية (نور): «ما الذى يغرى الغرباء فى ميت رهينة يا دكتور؟ حقيقةً، أكثر ما يحيرنى هو تكالب الغرباء على هذه البقعة من الأرض، يأتون إليها هاربين من ظلم إخوتهم أو غزاة أو حتى عاشقين، فتكرمهم وتؤيهم، ولكنهم لا ينكرونها إلا وهى مجروحة ومغتصبة ومنهكة القوى.

وما الذى يغريهم فيها منذ أهدت تاريخهم فجره؟!»، الإسقاطات التاريخية حاضرة بوضوح هنا ، فــ «الهاربون من ظلم إخوتهم» تتناص تاريخياً مع قصةِ سيدنا (يوسف) عليه السلام، و «الغزاة» تتناص مع المماليك والفرنسيين والانجليز والأتراك، و «العاشقين» تتناص مع (أنطونيو)، ورغم هذا الكرم الذى يبديه ذلك البلد العظيم، فإن جزاءه دائماً من هذا الزائر هو الخيانة، ونهب الخيرات والثروات.


لذا هل كان ما فعلته (نور) من ترتيب جرائم القتل للشخصيات السيئة، والشخصيات التى جرحت ونهبت وسطت على حقوق غيرها، حتى لو كان سطواً عاطفياً، مثل شخصية والدها، فكان عقابهم باستخدام ذكاء (نور) الخارق نوعاً من الانتقام الواجب من مثل هذه الشخصيات التى لا تستحق العيش على أرض الكنانة.

ولا تستحق أن تتمتع بما تقدمه مصر من نعم؟ ربما يكون هذا تفسيراً مقبولاً لهذا التصرف الإجرامى لتلك الفتاة التى نشأت وهى متمتعة بكل وسائل الراحة والرفاهية مقارنةً بغيرِها، وباعتماد فكرة أن كل ما فى الرواية نوعٌ من الإسقاط حول رؤيةٍ مُعيّنة أرادت الكاتبة أن تبثها فى كتابتها، فإننا يمكن إذاً أن نعيد النظر لعنونة «لعنة ميت رهينة» على أنها تناص مع لعنة الفراعنة، ولعنة السطو على كنوز وخيرات هذه الأرض الطيبة، وأناسها الطيبين.


الخاتمة إذن ذات دلالة رمزية، إنها نوع من إنهاء العلاقة مع القديم السيئ، ومحاولة للبحث عن تطهير هذا الواقع من الشخصيات الرديئة فيه، مع إقرار الرواية بأن المشكلة الحقيقية فى النماذج السيئة من هذه الشخصيات التى تحول الواقع إلى واقع صعب.

والتى تحول دون إمكانية تحقيق رفاهية وتقدم للأناس البسطاء، ويصبح الحلم الوحيد المستمر هو استمرار نهب الخيرات المتاحة فى هذه الأرض، والمفارقة الضاربة إلى أقصى حد من السخرية، أنه بينما يعيش الأناس البسطاء الطيبون فى قمة البؤس والفقر والتخلف على أرض «ميت رهينة»، تمتلئ هذه الأرض بالكنوز الذهبية الوفيرة.

ولعلنا نلاحظ أن الكنوز هنا ليست مجرد معدن من الذهب فحسب، وإنما أيضاً إشارة إلى تاريخ ضارب فى القدم، وحضارة عريقة، ولا يبدو هنا أن من يعيشون فوق الأرض متصلون بتلك الحضارة الغافيةِ فى باطن أرضهم.
ولعل أكثر ما يجب أن نشير إليه الآن أن الكاتبة الدكتور سهير المصادفة) قدمت هذا الواقع الروائي، الذى تتضح فيه بشدة رؤية الكاتبة وتحليلها وقراءتها للأحداث، ليس فى جوٍ من الحكى المعتمد على تطوير تيار الوعى فحسب، وإنما أيضاً أضافت نوعاً من الواقعية السحرية، وجواً من الأسطورية على مجريات الأحداث.

وفى اعتقادي، فإن القارئ سيحتاج إلى بعضٍ من الوقت حتى يكتشف أين تقع الظلال الخاصة بالأسطورة فى الرواية؛ فالشخصيات الواردة فيها نكتشف مع الوقت أنها مجرد شخصيات عادية، ليست بها أية خصائص أسطورية، فأين يقع الجزء الذى يوحى وأننا أمام أسطورة مهيبة فى الرواية؟
يكتشف القارئ مع المضى فى فصولِ الرواية أن الجانب الأسطورى قد تم رسمهُ حولَ كلٍ من: المكان - قرية ميت رهينة، وشخصية نور، فتكرار الوصف والحديث عن هذه القرية بجو من المهابة والإجلال والأسطورة، وجعل المكان له تيمة خاصة به، هو ما يُكسِبُ الروايةَ إمتاعيةً خَاصةً.

وكأننا نطالع أسطورة قادمة من قلب التاريخ، ومن عبق الماضي، لكنها تسير حية فى ذات الواقع الذى نعيشه الآن، ومن ثم كان لدى الكاتبة فرصة كبيرة لإعادة تقديم وجهة نظرها تجاه الكثير من القضايا الإشكالية، مثل الانفتاح الاقتصادي، والغزو الوهابى واختطاف الثقافة المصرية، ومحاربة الجهل والفقر، فضلاً عن الموضوع الأساسى المتعلق بالقمع الواقع على المرأة المصرية.

والعربية، حتى عندما تجد المرأة من تتخيل أنه صاحب ثقافة مختلفة، وأنه يقدر حالة الحب والتواصل بين الرجل والمرأة، إذ به أسير ثقافة إشباع شهواته، ولا يكترث بما يسببه من انكسار مشاعر تجاه حبيبته.

وحتى لو أفضت هذه الشهوة إلى نبتِ ثمرةٍ محرمة، طفلة، فهو لا يكترث للمصير الذى سوف تلاقيه فى هذا المجتمع ذى العادات والتقاليد القاسية، وتركها تواجه مصيرها بمفردها، ومن ثم كان انتقام (نور) من أبيها، هو أبشع انتقام ممكن لأبشع جريمة قد تحدث فى حق المرأة، جريمة الخذلان، وكسر قلبها.


إذن فكل شخصية من الشخصيات التى تبدو نمطية فى مسيرة الحكى مختارة بعناية لكى تعمل على تحقيق التكامل فى الرؤية المقدمة من قبل الكاتبة فى روايتها، ومن ثم تكتسب الرواية فى عمقها النهائي، رؤية تحليلية قائمة على الوطنية والإخلاص والحب للوطن فى المقام الأول.

ولأهله وناسه الطيبين فى المقام الثاني، وما النص الروائى إلا نوع من الثورة الضمنية على الأفكار والمعتقدات والقيم والشخصيات النمطية السيئة ذات اليد فى الحالة المتردية التى وصل لها الواقع المصري، وقد نجحت الروائية باقت فى تحقيق عامل الجذب والتشويق.

وإبقاء القارئ طوال الوقت مشدوداً لاكتشافِ أسرارِ الجرائم التى وقعت، واكتشاف منطقية حدوثها، وقدمت تبريراً معقولاً حولَ الكيفية التى تمكنت بها صاحبة الجسم الصغير والعقل الكبير (نور) من الإيقاع بضحاياها، مستغلةً طمعهم وخلفياتهم السيئة.

لكى تحدث ما يشبه عملية تطهير عرقى لكل الشخصيات الأنانية والسيئة والتى كانت سببا فى يومٍ ما فى سرقة أحلام وطموحات وسعادة غيرها، وبدلاً من أن نجد أنفسَنَا باحثينَ عن استحقاقِ الجانى للحصول على العدالة، نفاجأ بالمشهد الأخير الذى تنفجر فيه المقبرة.

وينفجر قصر (أدهم الشواف)، ليذهب، بينما تبقى قرية «ميت رهينة» باقية بأهلها وناسها الطيبة، ومع مجيء شمس يوم جديد، بكل ما يمكن أن تحمله هذه الرمزية من معانٍ، يبدأ صباح جديد، لكنه صباحٌ خالٍ من كلِ الشخصياتِ السيئة التى تخلصت منها (نور)، وكأنها رمزيةٌ تشير إلى عدم إمكانية المضى فى المستقبل إلا بالانتهاء من أشباح الماضى ومعادلاته الخاطئة.
 

اقرأ ايضا | إسراء النمر تكتب .. «مينيكه شيبر» في مصر