النيابة تحقق في الحادث.. «مفرمة» نفايات المستشفى أنهت حياة «عبدالله»

مفرمة النفايات
مفرمة النفايات

إيمان البلطي

 سافر واغترب، لكن شاء المولى أن يعود إلى أهله كما ذهب. انتقل من عمل إلى عمل، لكن لم يستمر في أي منهم، وفي كل مرة كان الوضع معه يزداد سوءًا.. أطفاله كبروا، وطلباتهم تزداد، ويداه عاجزة عن أن توفر لهم قوت يومهم، حتى حصل على عمل بنظام اليومية في مستشفى ميت خلف بالمنوفية، وتحديدًا في قسم النفايات، وأصبح الرجل الذي ذاق طعم العوّز في يده وظيفة ثابتة تدر عليه وعلى أسرته دخلًا ثابتًا، ومر يوم وراء آخر، وسنة وراء سنة، يذهب لعمله صباحًا ويعود بعد الظهيرة، حتى حانت اللحظة، ومات في مكان عمله بعد أن اختل توازنه وسقط في مفرمة النفايات.

تفاصيل تلك الواقعة الصعبة التي شهدت أحداثها قرية كفر الشيخ بمركز تلا في محافظة المنوفية ترويها السطور التالية.

قبل أكثر من سنتين ونص، قدم «عبدالله» أوراقه لشغل وظيفة في مستشفى ميت خلف، وبالفعل حصل عليها، وكانت هذه الوظيفة بالنسبة له حياة، لأنه في وقتها كان يعاني أشد المعاناة جراء عدم استقراره في عمل، وانتقاله المستمر من بلد لآخر، في الوقت الذي كان أطفاله صغارًا، وأصبح تواجده في البيت لرعايتهم أمرا لا مفر منه، ولا يصح أن يتركهم ويغترب.

بعد أن استلم عمله، في قسم النفايات داخل المستشفى، عرف ما له وما عليه، وأصبح مثالا للموظف الملتزم، الساعة السابعة صباحًا تجده في العمل، لا يكل ولا يمل حتى ينتهي من عمله كاملًا، وبعد الظهيرة يعود إلى بيته. وهكذا.
على هذا الحال كان الرجل دؤوبًا في عمله، حتى أنه من وقت استلام وظيفته لم يأخذ جزاءً واحدًا، وكان مثالا للموظف الملتزم الذي إن حضر موظف جديد يطلب منه رؤساؤه أن يصبح مثل «عبدالله».

الحادث

كان الرجل لا يفكر إلا في رعاية أسرته، ولا يشغله إلا تربية أولاده، أن يؤمن لهم مستقبلهم، حتى أنه في كثير من الأحيان كان يضغط على نفسه في شغل إضافي داخل المستشفى مقابل زيادة في أجره، ومن يوم استلامه الوظيفة قبل سنتين ونصف وهو على هذا الحال، يتحمل ربما ما لا يطيقه أحد وزيادة، ولا يشكو ولا يتذمر، ولماذا يشكو وهو الذي يريد أن يحسن من دخله من أجل رخاء أسرته وأن يعيشوا عيشة كريمة.

يومها، استيقظ صباحًا كعادته، فوجد ابنته «بسمة» مستيقظة قبل ميعادها، فأخذها في حضنه كعادته، وأخذا يتحدثان ويضحكان حتى أعدت زوجته الإفطار، فتناوله مع ابنته وزوجته وقام وارتدى ثيابه وانتظر شقيقه «ممدوح» ليمر عليه ويأخذه إلى العمل مثلما يفعل في كل مرة.

بالفعل بعد دقائق مر عليه شقيقه، وخرج إليه «عبدالله»، واستقل خلفه الدراجة النارية وانطلقا معًا إلى عملهما كل في مكانه، وبعد أن أوصله شقيقه إلى العمل انطلق هو الآخر إلى عمله، حيث أن «ممدوح» كان يعمل في الشؤون الصحية بالمنوفية.

دخل «عبدالله» العمل وبدأ في أداء وظيفته، قام بجمع النفايات الطبية في الأجولة المخصصة لها، ثم حملها وتوجه بها إلى المفرمة، وأمامها قام برص تلك الأجولة، وبعد أن انتهى من جمعها كلها أمام المفرمة، أدار زر تشغيلها، وما أن أصدرت صوتًا يدل على أنها اشتغلت، وقف على حافتها، في المكان المخصص للوقوف، وبدأ في حمل الأجولة المملوءة بالنفايات حتى يقوم بتفريغ محتوياتها داخل المفرمة.
لاحظ عبدالله أن أحد الأجولة محتوياتها أقل من المعتاد، وعندما قام ورفع الجوال ليضع محتوياته في المفرمة، أمسكت أسنان المفرمة طرفا من الجوال، وفي غفلة وجد عبدالله نفسه داخل المفرمة. ولم يسمع أحد من زملائه في العمل سوى صوت صرخاته قبل أن تلتهمه المفرمة.

جثمان

يحكي شقيقه «ممدوح» لـ «أخبار الحوادث» تفاصيل اللحظات التي تلقى فيها خبر وفاة «عبدالله» قائلا: «أنا شغال في مديرية الشؤون الصحية، ومن يوم ما أخويا «عبدالله» اشتغل في مقلب النفايات في مستشفى ميت خلف، وأنا متعود دايما أعدى عليه الصبح وأقوم بتوصيله شغله لأنه في طريقي، وأنا راجع أمر عليه في الشغل ونعود معا الى البيت».

وأضاف: «يومها عديت عليه الصبح وخدته على شغله، ولما خلصت شغلي ذهبت اليه في المستشفى كالمعتاد حتى نعود سويا، وأنا في الطريق كنت برن عليه عشان أقوله إني على وصول، لكن كان تليفونه مغلقا، ولما وصلت للمستشفى، ملقيتوش مستنيني زي كل مرة، وكمان لقيت في المستشفى الناس زعلانه وفيه هرج ومرج، وكل ما أسأل حد عن أخويا عبدالله يلف وشه عني وميرضاش يقولي حاجة».
واستكمل: «واحد منهم ميعرفنيش، سألته هو فيه إيه، قالي في واحد من العمال اللي شغالين باليومية وقع في مفرمة النفايات، ومات، وقتها أنا خفت، خصوصا إن أخويا شغال في مقلب النفايات، فجريت عشان أطمن ودخلت المفرمة، ولما دخلت شفت جثمانه وعرفت اللي حصل».
وبانتقال قوة أمنية من مباحث مركز شبين الكوم أمكن استخراج الجثة، وتحرر عن الواقة محضر بالواقعة وأخطرت النيابة العامة لمباشرة التحقيقات.

مأساة

تحكي زوجة «عبدالله» لـ «أخبار الحوادث» قائلة: «عبدالله راح وراحت معاه كل حاجة حلوة، راح وسابلي بسمة ومصطفى، الله يرحمه كان طيب وحنين، طول عمره بيشتغل وبيتعب عشان يوفر لينا حياة كريمة، وكان بيجى على نفسه في الشغل عشاني وعشان ولاده».

وأضافت: «يوم ما استلم شغله من سنتين ونص، كان فرحان قوي، وقالي خلاص كده أنا سوف استقر وهبقى ضامن راتب شهري يصرف علينا، وعشان كده مكانش بيقصر في شغله، لأنه كان يخاف يقصر فيمشوه، بس بعد اللي حصله ده ياريته كان قصر، على الأقل لو كان مشي من الشغل دا مكانش جراله اللي جراله».

كانت الصغيرة، بسمة، في حالة يرثى لها لوفاة والدها، فهي تحب والدها وتنتظر قدومه بفارغ الصبر لترتمي في حضنه، حتى أنه كان لا يعتاد أن يفعل شيئا بدونها، وفي حديثها لـ «أخبار الحوادث» قالت: «أنا يومها صحيت بدري وفطرت معاه، وخدني في حضنه، ولو كنت عارفة اللي هيحصله دا مكنتش سبته يروح الشغل، بابا كان نفسه أطلع دكتورة، أنا بوعدك يا بابا إني احقق حلمك، وبإذن الله هذاكر وانجح لحد ما أشرفك، زي ما أنا بتشرف إنك أبويا».
بعد رحيل «عبدالله»، أصبح رب الأسرة «مصطفى» بعد وفاة والده، وعليه فكر الولد وهو بعد ما زال صغيرًا أن يحمل المسؤولية في محاولة منه لينفق على أسرته، لكن والدته رفضت هذا الأمر بشكل قاطع، وقالت له إن والده كان يحلم بأن يتعلم أولاده أفضل تعليم، وأنها لن ترضى بأن يهمل أحدهما في تعليمه مهما كان الأمر.

واتشحت قرية كفر الشيخ خليل، بلد المتوفى بالحزن، على فقدان «عبدالله»، ونعت مديرية الصحة بالمنوفية وجميع العاملين بمستشفى ميت خلف أسرة الفقيد. سائلين الله أن يغمر الفقيد بواسع رحمته، وأن يتقبله من الشهداء، وأن يلهمهم الصبر والسلوان.

أقرأ أيضا: وكيل «صحة المنوفية» تتفقد سير العمل بمجمع مستشفيات ميت خلف