حديث الأسبوع

لا تكفى المؤتمرات لإعادة الحياة للغة تحتضر

عبد الله البقالى
عبد الله البقالى

لم نكن فى حاجة إلى اعتراف صريح من الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون للتأكد من التراجع المستمر والمخيف للغة الفرنسية فى المشهد اللغوى العالمي، وفى الاستعمالات اللغوية العالمية فى مختلف مناحى الحياة، خصوصا فى العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد والبحث العلمي، لأن جميع المؤشرات المتعلقة بقياس انتشار اللغات واستعمالاتها فى العالم تكشف عن هذا التراجع.

و إذا كانت منطقة المغرب العربى مثلا، التى تعتبر قلعة للغة الفرنسية إضافة إلى بعض المستعمرات الفرنسية السابقة، خصوصا فى إفريقيا، فإن الرئيس الفرنسى ماكرون، يقر بعظمة لسانه، وهو يخاطب القمة 18 للمنظمة الفرانكوفونية التى انعقدت قبل أيام من اليوم بجزيرة جربة التونسية بأن الفرانكوفونية « تتعرض إلى انتكاسات حقيقية، ففى البلدان المغاربية تستعمل الفرنسية بنسبة أقل مما كانت عليه قبل عشرين أوثلاثين سنة، بسبب ظهور أشكال من المقاومة شبه السياسية، إلى جانب استخدام اللغة الإنجليزية مع صعوبة الوصول إلى الكتب الفرنسية بأسعار معقولة « ولم ينس الرجل الأول فى فرنسا وجوب الدعوة « إلى استعادة جاذبية اللغة الفرنسية مرة أخرى، من خلال القول « إنه يمكننا التحدث بها كلغة تسهل التجارة مثلا «.

ماكرون يبكى على الأطلال على لغته الأم التى سادت لفترات طويلة فى العالم، ليس لقابليتها ولا لقدرتها على تطويع العلوم والتقنيات الحديثة والبحث العلمى بصفة عامة، لكنها سادت فى مرحلة من مراحل تاريخ البشرية بسبب القوة الاستعمارية الفرنسية، وبذلك فانتشار اللغة الفرنسية فى العديد من أقطار العالم تحقق على جثث ملايين القتلى من المدنيين وعلى تدمير حضارات وقيم، وعلى استنزاف وسرقة ثروات الشعوب، كان استعمارا عسكريا وفر التربة المباشرة للاستعمار الثقافى الذى تجسد فى فرض اعتماد اللغة الفرنسية فى التعليم وفى شتى مناحى الحياة اليومية فى مستعمرات فرنسا.

حاليا حينما توارت الظاهرة الاستعمارية كعامل حاسم فى انتشار اللغة الفرنسية، وبرزت عوامل علمية وتقنية أضحت حاسمة فى قياس قوة اللغات، ومدى قدرتها على مسايرة التطورات العلمية والتقنية المستجدة فى العالم، وجدت اللغة الفرنسية نفسها مفتقدة إلى هذه العوامل الجديدة، وبالتالى كان من الطبيعى أن تتوارى إلى الخلف، هذا ما يفسر اليوم الوضعية المتخلفة للغة الفرنسية بين لغات العالم.

وفى هذا السياق أجمعت معظم الأوساط المتخصصة فى قياس انتشار اللغات فى العالم على الإقرار باستمرار لغة موليير فى التراجع أمام زحف لغات أخرى، وهى اليوم فى خانة اللغة التى تحتل الرتبة التاسعة ما بين لغات الكون الرئيسية، بنسبة أشخاص يتحدثون بها لا تتجاوز 3 بالمائة من سكان العالم، وهى بذلك تأتى بعد اللغة البنغالية مثلا التى تتحدث بها ألسنة أكثر من 3٫19 بالمائة من سكان العالم واللغة البرتغالية بـ 3٫26 بالمائة من المتحدثين بها من سكان الكون، بل وتبتعد عنها اللغة العربية بأربع مراتب بنسبة 6٫25 بالمائة من سكان العالم .

ومن معالم تخلف هذه اللغة فى الوقت الراهن أنها لم تقدر على احتلال المرتبة الأولى حتى داخل فرنسا نفسها فيما يتعلق بالبحث العلمي، وفى معدل الكلمات والمصطلحات الجديدة التى يفرض التطور العلمى والتقنى استحداثها فى كل لغة، حيث تتفوق عليها اللغة الإنجليزية بمساحات ضوئية، بل وجدت نفسها فى وضعية جد متأخرة فى المحافل الدولية.

وتكفى الإشارة فى هذا الصدد، إلى أن الرئيس الفرنسى نفسه اضطر إلى التحدث باللغة الإنجليزية فى قمة العشرين التى انعقدت مؤخرا، لأنه لو تحدث باللغة التى يدعو إلى استعادة توهجها، ما كان أحد من الحاضرين ليفهم ما كان يقوله.

و يبدو أن قصر الإليزيه يصر على إعادة بريق لغته الوطنية من بوابة منظمة غريبة الهوية والأطوار، إذ أنها المنظمة الوحيدة فى العالم التى تعتمد مكون اللغة المكتسبة (وليس اللغة الأصلية) فى محاولة لحشد وتوحيد الجهود، لتحقيق أهداف ليست واضحة ولا منطقية، وهى مجرد آلية من آليات فرنسا، التى تؤكد أن باريس لا تزال تحن إلى عهود استعمارية بائدة لإعادة إنتاج الماضى خصوصا، وتستعملها كأداة فى اتجاه إعادة الهيمنة اللغوية والثقافية، وفرض الاستلاب القيمى والحضاري، ولا بأس من استخدام رزمة من الإغراءات المالية، التى تستعملها الرئاسة الفرنسية توابل لوجبة لم تعد بنفس مواصفات الماضي، بهدف تطويع كثير من الدول والشعوب المغلوبة على أمرها.

والواضح أن اللغة الفرنسية افتقدت فى الظروف الراهنة إلى العوامل التاريخية التى مكنتها فى فترة من فترات التاريخ البشرى من السيادة فى بعض مناطق العالم، وتأكد اليوم أن هذه اللغة دون مساعدة عوامل خارجية، عاجزة على أن تأخذ لها موقعا متقدما بين اللغات العالمية، الأكثر انتشارا وسيادة فى العالم، وهكذا فإن عجزها عن الملاءمة مع احتياجات الاقتصاد العالمى المعاصر وعلى شروط البحث العلمى والتقني، وعلى ابتكار الكلمات والمصطلحات بهدف إغناء قواميسها، كلها عوامل تفسر الانتكاسة المتواصلة للغة الفرنسية، وهى القضية التى مثلت على الدوام هاجسا مؤقتا للحكومات الفرنسية المتعاقبة، ولهذا الغرض ارتأت باريس إنشاء منظمة تقتصر العضوية فيها على الدول الناطقة باللغة الفرنسية، لخدمة أهداف معينة، تبدأ بتحصين اللغة الفرنسية فى الدول الناطقة بها أولا، ومن ثم البحث عن مساحات أخرى للانتظار والتمدد، وهى الرهانات التى تراكم فيها اللغة الفرنسية الانتكاسات المتتالية .

نقيب الصحفيين المغاربة