حكايات| ممبار يولع القلب نار.. «درب المسمط» بين طعام الفقراء وأشواقهم

القاهرة التاريخية - أرشيفية
القاهرة التاريخية - أرشيفية

كتب: ياسين سعيد

 

تتصاعد أبخرة الماء من «الحلل» الضخمة المملوءة بـ«الكرشة والفشة ورؤس الضأن» فوق كانون الخشب الممتد بطول «درب المسمط» الواقع خلف «المسافر خانة» بحي الجمالية.. ينطلق من هذه الحلل خليط من الروائح تسيل لعاب زبائنها المنتظرين بطول السور القديم.

 

خيمة قديمة متهالكة غطت مساحة كبيرة من الدرب تنبئ عن تارخها العتيق، فقد بلتها الأيام بثقوب كثيرة تتناثر فيها ليسقط منها مياه الأمطار كمزاريب توقظ عين من غفل من الزبائن عن وجبة «الشيخ حسين» صاحب المسمط.. وجميعها مشاهد رصدها المؤلف سعيد الجزار في كتابه «درب المسمط».


خليط عجيب من البشر يبدو غير متجانس يأتي طلبًا لوجبة الشيخ حسين، التي تتكون من «فتة الكوارع» و«الممبار» ومرقة «أم الشلاتيت» ذات الثمن الزهيد.. لا يجمع هذا الخليط غير الحاجة وضيق ذات اليد.

 

وكان «مجاورين الأزهر» – مكفوفين ومبصرين- هم أول من يتصدر هذا الجمع نظرًا لما تميزوا به من خفة ظل تتمثل في إلقاء النكات والتعليقات الساخرة، ولكن أهميتها الكبيرة تمثلت في «الأرجوزة» التي كان ينشدها «الشيخ طلعت». 

 

 

كان يشارك «مجاورين الأزهر» خليط أخر كبير يتمثل في «طبالي» شارع محمد علي، الذين يعلنون عن قدومهم بالنقر على طبولهم بنغمة «واحدة ونص» الراقصة أو موسيقى «بلادي.. بلادي» للشيخ سيد درويش، وكأنهم مقبلون على معركة حربية.

 

كذلك كان من الزبائن «إستورجية المغربلين» و«خيامية تحت الربع»، يتقاسم الانتظار مع كل هؤلاء «سوكندو كلوت بك»، وهن نساء شارع كلوت بك اللائي كن يتخذن من الدعارة عملًا لهن، ثم ذهبت الأيام بجمالهن تحت وطأة الرذيلة وضياع مصدر الدخل.

 

أصبح «سوكندو» يطلق عليهن فيما بعد «سكند هاند» أي نساء درجة ثانية، فأخذن يبالغن في زينة وجوههن بطبقات من «الكحل» حول العينين لإخفاء تجاعيدها بالإضافة إلى أصباغ فاقعة منفرة تزيد من قذارة المنظر.. ملاءة تشوه لونها ورفعت في تعمد ظاهر لتبين عن ساق تلاشى ما بها من جمال فأصبحت كأنها تحمل على قصبة من عظم يرفعها عن الأرض حذاء ذو كعب عال تناثرت فيه المسامير الصدئة.

 

نساء نالوا لقب «سوكندو» تمييزًا لهن عن «البريمو» أي النساء الدرجة الأولى اللائي مازلن بالخدمة، وكانت تلك النسوة يبالغن في تزيين أظافر الأقدام بالطلاء الأحمر الفاقع، لتظهر من الصندل ذي الكعب العالي، وتكشف كل واحدة منهن عن ساقيها فيشتعل الدرب لقدومهن.

 

يدب الشجار الناشئ عن الغيرة بين «السوكندو» و«البريمو» اللائي كن يبدأن بالهجوم كخير وسيلة للدفاع، فكن يبدأن ببدايات منها «ما راحت عليكو زي سوارس».

 

وسوارس عربة كارو ضخمة لها سلالم يصعدها الركاب ويجرها بغل ضخم يتنقل بها كوسيلة للمواصلات حينها، وألغيت بعد انتشار الترام لعدم قدرتها على المنافسة. 

 

لكن نساء «السوكندو» ترد في غيظ: «فشر يا عوجة إنتي وهيه.. ده سوق الحلاوة جبر وأدلعوا الوحشين.. ولسه الدهن في العتاقي وقال علي رأي المثل لا تعايرني ولا أعايرك الهم طايلني وطايلك».

 

ولا يفوت هذا المشهد سريحة «العفوش» فيهمس «البهلوان» إلى  من حوله من السريحة الذين بدأت حواسهم تستيقظ مع قدوم «البريمو»: «آدي الكوارع اللي تخلي العجوز يسارع صحيح». 

 

وكان يقف بين هذا الجمع الكبير  «سريحة الغجر»، الذين يعملون في «ضرب الودع» وقراءة البخت يشاركهم الأنظار أيضَا بائعو «اليانصيب من الصبية والعجائز بين مقاهي وقد أتعبهم التجوال بين مقاهي وحانات شوارع محمد علي  وكلوت بك وبركة الرطل».


مشاهد تمتد لأطفال «الدرب الأصفر» وحارة «الميصة» من المزاحمين لهذه الجموع بسلطاناتهم القديمة.. يضعون بها «النكلة» و«المليم» ثمنًا لمرقة «أم الشلاتيت» التي أطلقت عليها الأمثال الشعبية بحي الجمالية «مرقة أم الشلاتيت ولا سلف القرنبيط»، حيث كانت تمثل هذه «المرقة» أدنى مستويات الثمن والفائدة عند الفقراء التي وصفوها بقولهم: «مرقة أم الشلاتيت لا تعافي ولا تشافي».

 

كان «سريحة العفوش»، وهم باعة الكرشة والفشة والكوارع، الجائلين يتناثرون في مدخل الدرب متخذين من قففهم وجرادلهم وسائد للاضطجاع أو لنوم بعد يوم شاق من السروح.. ألقى بهم كساد البيع طوال النهار إلى «الشيخ حسين» بعد أن أعياهم التجوال فرادى وجماعات في مفارق القاهرة الثلاثة، حيث كانت كل جهة تخص نصيب أحد المعلمين الثلاثة للسروح وهم الحاج طه القشيشي والحاجة حندوقة والحاج أبو أحمد جويل.

 

أما «سريحة» الحاج «صه القشيشي» فكانوا يبدأون التجوال من «سكة المدبح» يتجهون بعدها إلى شارع الخليج ثم يسارًا إلى شارع الشيخ ريحان ويخرجون بعدها إلى «درب المهابيل» فميدان العتبة وتنتهي الرحلة عند «شق العرسة» في نهاية شارع «كلوت بك» وهم يملئون المكان صياحًا وضجيجًا بنداءات: 


كوارع تخلي العجوز يسارع
ممبار يولع القلب نار
عكاوي تعمل بلاوي.