خالد العجماوي يكتب: الكف الحانية

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

كنت فى السابعة حين حدث الأمر أول مرة. كانت الواحدة ليلا، بينما يتدلى رأسى من الشباك، فى الدور الخامس، وأنا أحدق فى خيال رابض تحت باب منزلنا، حين أفلتت يدى فجأة، لأجدنى أسقط حرا هكذا فى الهواء. لم يكن ثمة أحد فى الشارع، حتى ذلك الخيال الرابض ذهب واختفى، بينما أهبط بجسدى الضئيل نحو الأرض. وقتها ظهرت تلك الكف الكبيرة، وحملتنى فى راحتها قبل الارتطام بمتر أو مترين، وصعدت بى إلى غرفتى عبر شباكى، لتضعنى على الفراش، وتربت على كتفى فى حنان، ثم تمضى!

لما طلع النهار حكيت لأمى، ضحكت وقبلت رأسى وهى تحسدنى على خيالى، وطلبت ألا أتدلى برأسى من الشباك، حتى لا يحدث ما حلمت به بالأمس. كانت ترانى أحلم، وفى البداية صدقتها.

فى الليل وبعد أن ذهب الجميع للنوم، نظرت إلى الأسفل عبر الشباك، لم أجد أى خيال، ولم أجد حتى أى كائن يسير. ولكنى تعمدت أن أتدلى برأسى، ثم تركت يدى كى تفلت، ووجدتنى أسقط حرا عبر الهواء إلى الأرض، وقبل أن أرتطم بمتر أو مترين، ظهرت الكف الكبيرة مجددا، وحملتنى، ثم وضعتنى فى فراشى بعد أن ربتت علىَّ!

لم أخبر أمى. لم أحب تلك الابتسامة على شفتيها، ولا تلك القبلة التى طبعتها على رأسى، وهى تنكر وجود تلك الكف الكبيرة هكذا بسهولة، واعتبرتها نوعا من الاستهزاء وإنكار الجميل بعد أن حمتنى من الموت المحقق، معللة ما يحدث بأنه مجرد حلم. 

صرت أتدلى كل ليلة، قبيل الفجر، وأفلت يدى، وأسقط، فتلقفنى تلك اليد، الكبيرة، وأنا أتمرغ فوق راحتها متدللا، وترفعنى فى الهواء حتى تضعنى فى فراشى، فأنام بعدها قرير العين، شاكرا لها صنيعها الجميل. كان السر فى صدرى كبيرا إلى الحد الذى يصعب معه الكتمان.

ولم أجد فى عيون أمى أنها تصدقنى، ورأيت أن الكف الكبيرة تستحق أن تُعرف، وأن يشكرها جميع الناس، بل وارتأيت أن أولاد الجيران وبعض زملاء دراستى، يستحقون أن يتعرفوا على تلك الكف الحانية، ولكن وبعد أن بحت بسرى هذا صارت الأحداث تتوالى فى سرعة وجنون.

بعد يومين وقفت الناظرة وخلفها المعلمون، وطوابير التلاميذ كلهم حداداً على روح زميلنا الفقيد، حيث وجدوه ملقى على قارعة الطريق، أسفل بيته، بعد أن سقط من شباك منزله من الدور السابع. 

لم يمر يومان آخران، حتى سمعنا صراخا ذاهلا وأسيفا، يخرج من بيت جارتنا، بعد أن وجدت وليدها الوحيد ملقى على الأرض إثر ارتطام هائل بعد سقوط من الدور العاشر.

تكرر الحداد فى المدرسة بعد يومين، وكذلك الصرخات من البيوت فى جوف الليل، لا تكاد تمر ثلاثة أيام حتى نسمعها تخترق الحجب، وتصم الأذان، وهى تعلن أن ثمة سقوطاً جديداً.

ما عدت أغفل عن تلك النظرات بعدها. العيون وهى تضيق حين تشخص نحوى وحواجبها مرفوعة بشىء من المقت، والشك وكثير من الريبة!

ثم حدث أن وجدنا دقا عنيفا هادرا على باب منزلنا. كان جارنا فى العمارة المجاورة لنا، دلف إلينا وهو يلبس فانلة داخلية قصيرة، تكشف عن صدر بشعر كث، وكرش كبير متدل، وصدره يعلو ويهبط فى انفعال، وقد تصبب منه عرق غزير، وهو يدفع ابنه أمامه، وقد بدا ضئيلا أمامه كفأر مبلول. 

ابنك الملعون يقتل أولادنا!

قالها فى انفعال هائل لأبى، الذى وقف ذاهلا ومضطربا، غير مستوعب أو مصدق.

أردف الرجل بصوت هادر وهو يشير إلى ابنه الضئيل:وكان سيتسبب فى موت ابنى، لولا ستر الله، لما استنقذته من الموت.
نظر إليه أبى، ثم نظر إلىَّ وهو يهز رأسه فى استغراب، فأشار الرجل إلى ابنه كى يتكلم، فما كان من ابنه الضئيل إلا أن نظر إلىَّ بعين مكسورة، وهو يزرد ريقه المتيبس، ويقول بصوت مبحوح وهو يشير نحوى:

قال إن هناك كفاً حانية تحملنا فى الهواء، وتمنعنا من السقوط. ونظر إلىَّ أبى فى هلع، وهز رأسه فى عنف، وقال الرجل بصبر نافد: سأبلغ الشرطة، وسيحققون، ولن يرحمك أحد. 

ثم ذهب وهو يسب ويلعن. ولم تهدأ صرخات الثكالى. صارت تتوالى، ومن بعدها العيون تنهشنى وأبى وأمى بنظرات ملؤها الغضب والمقت المشبوب باللعنات. 
دخل أبى حجرتى بوجه أحمر، وعينان تغليان، وقال رافعا إصبعه محذرا:

ستنكر كل شىء فى التحقيقات غدا. كل شىء. 

فى التحقيق سألونى إن كنت قد سردت شيئا حول كف يطير، يحمل الأطفال، ويتلقفهم قبل سقوطهم. لم أنكر ما يحدث معى، ولم أكفر بالكف أمام المحققين. قلت إن راحتها تشبه السحابة، وإنى أتمرغ فوقها قبل أن تضعنى على فراشى وتتركنى. وإنه يحدث كل ليلة، وإنى مستعد أن أسقط أمامهم كى يروا الكف بأنفسهم. جن جنون أبى.

ورأيته يبكى وهو يقبل أيديهم أن يرحمونى. قال إنى مجرد طفل، وأنه سيؤدبنى على كذبى. فى البيت ضربنى بعنف. صفعنى على وجهى، وسط صرخات أمى وهى تتوسل أن يكف عن ضربى. 

وفى الليل، وقبيل الفجر، وقبل أن أمارس هوايتى فى السقوط، سمعت تأوهات أبى. كان صوته واهنا، يند ألما دفينا ووجعا. مشيت نحو غرفته على أطراف أصابعى، وأنا أحاول أن أسترق إليه النظر عبر حجاب الظلام.

وكادت صرخة تفر من بين شفتى، وأنا أرى تلك الكف الحانية وقد دخلت إلى غرفة أبى، تصفع وجهه فى عنف، والعرق ينز من وجهه، ثم تلكمه فى صدره، وقلبه، وهو يئن من الألم. 

فى الصباح رأيته بعد أن قام من فراشه. ضعيفا واهنا، شاحب الوجه، وعلى كتفه وذراعه بقع زرقاء، وعرق غزير. ولم تمر أيام طوال، وأنا ألحظ أمى تبكى فى خوف مكبوت، ووجه أبى يزداد شحوبا، وتلك البقع تزداد رقعة على صدره وذراعه.

وحتى سمع الجيران حولنا صرخة امرأة تولول. لم تكن هذه المرة امرأة تصرخ على وليدها بعد السقوط، إنما كانت صرخة زوجة مغلوبة على أمرها، فقدت لتوها زوجها الضعيف، شاحب الوجه، والملىء بالبقع.

لم أشك لحظة أنها تلك الكف، وأنها تلك الضربات التى رأيتها حين ذهبت فى جوف الليل أسترق النظر إلى أبى وأنا أسمع أناته. أيتها الكف الحانية، كم قسوت على أبى، فأوجعته بقبضتك الضخمة. كم كان عقابك قاسيا أعرف أنك تستحقين أن تعرفى، وأن يراك الناس وأنت تحمليننى فى ظلمة الليل، وأثناء سقوطى وقبل الارتطام.

واستجمعت شتات أمرى، وبقايا شجاعتى. وذهبت إلى مدرستى رافعا هامتى نحو السحاب، غير مبال بنظراتهم نحوى. صعدت السلم فى غير اكتراث، وهم يتهامسون عنى، حتى وصلت إلى سطح المدرسة، ثم وقفت فوق السور الكبير.

ونظرت إليهم فى الأسفل، فوجدتهم صغارا، شاخصين نحوى فى هلع، وقد تعالت صرخاتهم الجازعة. ها أنا أيتها الكف الجميلة أفى بوعدى، وما عليك سوى أن تظهرى أمامهم ها هنا، فيعترفوا بوجودك، ومن ثم يرجع أبى، وتفرح أمى.

نظرت إلى الفناء الواسع فى الأسفل، ثم تركت نفسى تهوى إليه مطمئنة. وقبل أن يصل جسدى إلى الفناء بمتر أو مترين، لم تظهر تلك الكف الحانية، غير أنى وجدتنى أجلس مع أبى فى فضاء واسع. لم يعد وجهه شاحبا.

وقد اختفت البقع، وعادت إليه فتوته. ثم رأيت فضاءنا يُفتح، وتلك الكف الكبيرة تحمل أمى، وتضعها عندنا فى حنان. قبّلها أبى فى شوق عظيم، وقبلتنى، وصرنا نلعب ونضحك، ونأكل ونشرب.

ونحن نتسامر حول ليالينا فى صحبة تلك الكف الكبيرة. ولكنى نسيت أن أسألها: لماذا لم تظهرى فى ذلك اليوم كما كنت تفعلين كل ليلة؟ لم أصر على السؤال ولم أهتم؛ فقد عاد لى أبى، وفرحت أمى.

اقرأ ايضا | لوحات من الطبيعة في محبة البيئة