لا شيء يمكن أن يسعد كاتبًا وصحفيًا أكثر من أن تكون كتابته مؤثرة.. لا شيء أهم عند الكاتب والصحفي من أن يوقف بكتابته جريمة، أو يمنع خطرا، أو يكشف عن تخريب..
أن تكون هناك نتيجة وتغيير على الأرض، هي المكافأة الكبرى لعملنا ولا مكافأة أخرى تضاهيها، خصوصا إذا كان هذا التغيير يخص قضية مهمة وعادلةمثل قضية الحفاظ على التراث الفني والثقافي والمعماري، ومواجهة التخريب والمخربين الذين طالما استولوا على العديد من الكنوز التي ميزت مصر بين دول المحيط.
في مصر وعلى امتدادها، يوجد خبر تحت ووراء كل حجر، وأقصد بالخبر، قصصًا تاريخية ومعانى وشخصيات ارتبطت به..
القاهرة تحديدا مدينة متراكمة، طبقات تاريخية فوق بعضها.. طبقات شكلت وجدان المصريين وأمتهم، وألهمت غيرهم.. في مصر، نعيش التاريخ ونتفاعل معه يوميا في الشوارع والمباني المحيطة، في العمارات التراثية والميادين القديمة والمقابر، في أسوار القاهرة، وداخل أسواقها، في المقاهي العتيقة ودور السينما التاريخية، إنها ثروتنا، ورأس مالنا التاريخي والرمزي، والحفاظ عليه وتنميته واجب بالتعريف، والمساس به وتخريبه جريمة بحكم القانون والضمير الإنساني.
قبل شهر، بدأنا في “أخبار النجوم” حملة لإنقاذ مبنى سينما “ريفولي” التراثية، بعد أن استولى عليه أحد تجار قطع غيار السيارات والموتوسيكلات صينية الصنع، ممن يتمتعون بنفوذ هائل في منطقة التوفيقية التي تقع في قلب وسط البلد، بعد النشر تفاعل عدد كبير من الكتاب والصحفيين والمهتمين بالتراث المعماري والفني، وتساءل الجميع كيف يحدث ما يحدث في سينما “ريفولي” أشهر وأقدم دور السينما في مصر، وكيف يتم ذلك في قلب قلب القاهرة.. في وسط البلد وأمام أعين الجميع؟!
بعد النشر في “أخبار النجوم”، تحرك الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، المسئول الأول في مصر عن الحفاظ على المباني التراثية في عموم البلاد، وكلف المهندس محمد أبو سعدة رئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، المهندس رامي صبري رئيس قطاع المشروعات بالجهاز بالتوجه لمبنى سينما “ريفولي” والوقوف على ما يحدث في مبناها، ذلك أن مبنى السينما مسجل في قوائم الحصر بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري منذ عام 2010 باعتباره تراثا وطرازا معماريا متميزا (فئة ج)، وهي الفئة التي تعني أنه يُمنع المساس بالواجهة التراثية المميزة للمبني مع إمكانية عمل تغييرات بداخله مع الحفاظ على طابعه المعماري، وبالطبع وحسب ما كتبت في نفس المكان سابقا، فإن المخربين قاموا بافتتاح محلات تجارية في واجهة المبنى وتغيير واجهته وسد ممر الطوارئ.
توجه المهندس رامي صبري ممثلا للجهاز القومي للتنسيق الحضاري، وتأكد بالمعاينة من المخالفات، وقام بتحرير محاضر باسم الجهاز الذي يتمتع بالضبطية القضائية، وتم إرسالها من خلال الشئون القانونية بالجهاز إلى النيابة العامة، لتقوم بدورها في التحقيق في هذه المخالفات، طلبت النيابة استيفاء بعض البيانات لتستكمل عملها، مثل أسماء المخالفين وبياناتهم الشخصية بالتفصيل لتوجيه التهم إليهم، وهو الأمر الذي ليس في يد القومي للتنسيق الحضاري، حيث يقتصر نطاق الضبطية القضائية لديه على مراجعة المبنى مع استمارة الحصر الخاصة به، وهي الاستمارة التي تتضمن تفاصيل عن المبنى وأسباب تسجيله كمبنى تراثي وشكله الأصلي والتأكد من وجود مخالفات أو اعتداءات عليه، ويتم ذلك إما من خلال خطط يضعها جهاز التنسيق الحضاري لرصد المباني التراثية في منطقة أو حي معين، أو من خلال التحقيق في بلاغات مقدمة إليه بهذا الشأن وقد اعتبر المهندس محمد أبو سعدة ما نشرته هنا بمثابة بلاغ وكلف كوادر الجهاز بالتحرك الفوري.
تحررت المحاضر وقدمت للنيابة العامة، واستيفاء البيانات الآن مهمة حي الأزبكية الذي تقع سينما ريفولي في نطاقه، بالتوصل إلى المخالفين ومن ثم إعلام النيابة العامة بهم. هذا التحرك خطوة أولى شديدة الأهمية لإنقاذ سينما ريفولي مما حاق بها، وتتبعه خطوات ضرورية منها خطوات قانونية بيد العامة بعمل جنح للمخالفين وخطوات تنفيذية لحي الأزبكية بإلزام المخالفين بإزالة هذه المخالفات فورا وإعادة الشيء لأصله، وهو ما طالبت به في مقالي السابق.
والجهاز القومي للتنسيق الحضاري حسب قانون إنشائه عام 2001، هو جهاز يتبع وزارة الثقافة المصرية ومقره بقلعة صلاح الدين بالقاهرة ويهدف إلى تحقيق القيم الجمالية في الفراغ العمراني المصرى، ويشمل ذلك جميع الأعمال القائمة على أهداف تحسين الصور البصرية للمدن والقرى والمجتمعات العمرانية الجديدة، وكذلك إزالة كافة التشوهات والتلوث البصري والحفاظ على الطابع المعماري والعمراني للمناطق المختلفة، وتحقيق القيم الجمالية للعمران المصري بشكل عام بما يشمله ذلك من طرق وميادين وشوارع وحدائق وفراغات عامة ومباني عامة وذات قيمة متميزة، ارتكازاً على كافة الوسائل العلمية والفنية والإدارية والتشريعية.
ويهدف الجهاز إلى تحقيق القيم الجمالية للشكل الخارجي للأبنية والفراغات العمرانية والأثرية وأسس النسيج البصري للمدن والقرى وكافة المناطق الحضارية للدولة، بما في ذلك المجتمعات العمرانية الجديدة، ويحق للجهاز في سبيل تحقيق أهدافه اتخاذ جميع القرارات والتوصيات اللازمة لذلك، وذلك بما لا يتعارض مع أحكام القوانين والتشريعات القائمة، وله على الأخص إعادة صياغة الرؤية الجمالية لكافة مناطق الدولة والعمل على إزالة التشوهات، وإعداد قاعدة بيانات شاملة لجميع المباني ذات الطابع المعماري المميز بجميع محافظات الجمهورية ووضع القواعد اللازمة للحفاظ عليها، ووضع الضوابط التي تكفل عدم التغيير في الشكل المعماري القائم بمنع الإضافات التي تتم على المباني القائمة، والتي تشوه المنظر العام، ووضع أسس التعامل مع الفراغات المعمارية كالحدائق والشوارع والأرصفة والإنارة والألوان المستخدمة بمراعاة طبيعة كل منطقة والمعايير الدولية المتعارف عليها، وذلك بما يحقق احترام حركة المشاة والمعاقين مع استخدام الخامات والألوان التي تتناسب مع الطابع المعماري لكل منطقة، ووضع الشروط والضوابط اللازمة لشكل الإعلانات واللافتات بالشوارع والميادين، وعلى واجهات المباني من حيث المساحة والارتفاع والألوان والمكان الذي يوضع فيه الإعلان أو اللافتة، وإعادة صياغة الميادين العامة وفقاَ لرؤية معمارية وبصرية تتفق والطابع المميز لكل منطقة مع الاحتفاظ بالشكل القديم الأصلي للميادين التي تمثل طابعاً معمارياً متميزا، وإبداء الرأي في مشروعات القوانين واللوائح التي تسهم في تحقيق التنسيق الحضاري.
أريد هنا التذكير بتفاصيل الجريمة التي تجري في سينما “ريفولي” لتبقى حاضرة حتى يتم إيقافها نهائيا. منذ عام 2014 أصبح مبنى دار عرض “ريفولي” تحت يد وتصرف خالد درويش بطاح، وهو أحد كبار تجار قطع غيار وإكسسوارات السيارات والدراجات البخارية في منطقة التوفيقية، ويدعى السيد خالد بطاح، أنه مدير أملاك الأمير الوليد بن طلال الذي ورث وشقيقه الأمير عبد العزيز بن طلال مبنى السينما عن والدهما الأمير الراحل طلال بن عبد العزيز آل سعود وأنه شريكه أيضا، وبالتالي له حق التصرف في مبنى السينما التراثي!
قام السيد خالد بطاح بتأجير المدخل وما حوله، لصالح عدة محلات تقوم هي بدورها بتغيير طبيعة المبنى! ومنذ عام 2016 حاول حي الأزبكية وقف المخالفات وإغلاق هذه المحلات بالشمع الأحمر، لكنها تعاود نشاطها بعد يومين، وهو ما تضمنه تصريح صحفي للمهندس سيد عبد الفتاح رئيس حي الأزبكية في عام 2017 من أنه قام بعدة حملات بالتعاون مع الأجهزة المعنية لإزالة كافة الإشغالات بمحيط سينما “ريفولي”، وأسفرت الحملات عن إغلاق 4 محال وتشميع الباكيات داخل السينما، لكن الباعة يعودون بعد دفع غرامة قيمتها 100 جنيه!
تواصل التحايل لتغيير طبيعة المبنى وتحويل السينما إلى مول تجاري، بفتح المزيد من المحلات في مدخلها وهدم قاعة الطابق الأرضي، ثم وضعت لافتات نهاية عام 2017 تعلن أن السينما قيد التطوير!
غير أن التحايل وصل إلى مرحلة خشنة، واندلع حريق غامض في الطوابق العليا للسينما وسطحها في فجر أحد أيام شهر أغسطس عام 2018، ما ذّكر تجار سوق التوفيقية بحريق يشابه حريق السينما في “حكر” داخل السوق رفض شاغلوه إخلاءه وكان أحد أطراف هذا النزاع على “الحكر” أيضا السيد خالد درويش بطاح، الذي خرج على الصحفيين بعد حريق “ريفولي” ليعلن أن النيران الغامضة التهمت الأسقف وأنها دمرت أعمال التطوير التي يقوم بها في السينما وبلغت قيمتها نحو 30 مليون جنيه على حد ادعاءاته، بينما قدرت النيابة العامة حسب تصريحات صحفية الخسائر بما لا يزيد عن مليوني جنيه فقط!
وكان واضحا للجميع ممن استطاعوا تصوير المكان من الداخل أنه لا تطوير هناك ولا غيره، وأن مبنى السينما يتم تخريبه من الداخل ومن الجوانب التي كانت ممرات خروج لرواد “ريفولي” بحيث لا تصلح لأن تكون دار عرض وفق قواعد وإجراءات الحماية المدنية!
مع بدء أعمال حفر الخط الجديد لمترو الأنفاق، ووضع فواصل حديدية حول موقع العمل، ساعدت على عزل مبنى السينما عن أعين الجميع، زادت وتيرة فتح المحلات والباكيات في مبنى “ريفولي” وتدمير المدخل وتغيير شكله وطبيعته، وفتح قاعة العرض الأرضية على البهو الذي كان يضم مكتب التذاكر، وإزالة الحوائط الخشبية المميزة له، وللتغطية على هذا كله خرج السيد خالد درويش بطاح بالإعلان عن ما يسمى أكاديمية “ريفولي” الفنية التي يشرف عليها الفنان أحمد ماهر، ووضعت صور الأخير في كل مكان داخل وخارج السينما، وأفيشات لأدواره التلفزيونية بأحجام أكبر من من صور النجوم التاريخيين مثل أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وشادية ممن أحيوا حفلات شهيرة على مسرح “ريفولي” أو نجوم السينما التي عرضت أعمالهم على شاشاتها من بداية الخمسينيات وحتى التسعينيات!
أكاد أجزم أن الوليد بن طلال وسط استثماراته الضخمة حول العالم لا يعرف شيئا عن حقيقة ما يجري في سينما “ريفولي” ولا عن استغلال اسمه، حيث انه لا يستطيع هو نفسه أن يغير فيها باعتبارها مسجلة في قوائم التراث المعماري، ولا أعتقد أيضا أنه منح السيد خالد بطاح تفويضا ليفعل في “ريفولي” ما يفعله، وأعتقد أن الدولة ممثلة في وزارة الثقافة مطالبة بمخاطبة الوليد بن طلال وإعلامه بما يجري لوقف هذه التخريب فورا، وإلزام من قام به بإعادة الشيء إلى أصله على نفقته، وإعادة بناء ما تم تدميره تحت إشراف الجهاز القومي للتنسيق الحضاري وفق التصميمات الأصلية للمكان.
في فيديو له متاح على موقع يوتيوب بتاريخ مايو 2020 يتحدث خالد بطاح عن علاقته بسينما “ريفولي” قائلا إنه القائم بالأعمال لدى الأمير طلال بن عبد العزيز، وأنشر كلامه بنصه كما هو: “الأمير طلال اللي عنده المجلس العربي للطفولة في مدينة نصر، وعنده جمعيات خيرية كتيرة في مصر، ومنها جمعيات أطفال الشوارع، والأمير طلال هو صاحب روفالي (نطقها هكذا “روفالي” فهو لا يعرف اسم السينما أصلا!) وأنا القائم بالأعمال والشريك المسئول عن مشروعات الأمير طلال في مصر”. يسأله المذيع: “ما علاقة الفنان أحمد ماهر بهذه المنظومة”، ويجيب بطاح “أحمد ماهر هو من سيقوم حضرتك بالمشروع.. إننا هنعمل مشروع للطفل.. سينما للأطفال وهي السينما الوحيدة التي ستكون للطفل في جمهورية مصر العربية بيخش الطفل، فيها قصص الأديان، قصص القرآن، القصص الثقافية، أي حاجة عن الأطفال زي ديزني في فرنسا، حضرتك هتبقى ديزني العرب في مصر في رافولي، عاملين الطفل يخش، يستمتع بالأفلام، ويستمتع بألعاب للأطفال، ألعاب ترفيهية.. كل حاجة عاملينها للطفل، ذوو الاحتياجات الخاصة والمعاقين، الطفل يخش.. فيه وجبات حضرتك للطفل، وسمو الأمير طلال متبرع بـ322 ألف طفل (!!)، قائم بالجمعيات الخيرية بتاعته ييجو يخشوا سينما روفالي، يتفرجوا حضرتك، ودلوقتي المسئول عن المجلس العربي للطفولة الأمير عبد العزيز ومسئول عن والده وعن الورثة، والراجل بيشجعنا في الموضوع ده وعايز مشروع روفالي يخلص بس بعد مشروع مترو الأنفاق ما يخلص، هنعمل افتتاح والفنان أحمد ماهر هو اللي ماسك المنظومة كلها، وهو المستشار الثقافي للمنظومة كلها، عاملين قناة فضائية للطفل، وعاملين مسرح وجميع أنواع الألعاب داخل سينما روفالي”.. انتهى كلام السيد بطاح الكاشف لحقيقة ما يحدث في مبنى السينما، فلا سينما للأطفال ولا غيره، وإنما مزيد من التمدد للمحلات والتخريب للسينما من الداخل.
نحن الآن في انتظار أن يقوم حي الأزبكية باستيفاء البيانات التي تحتاج إليها النيابة العامة، وحتى يحدث هذا سنواصل هذه الحملة وفتح ملف دور السينما التاريخية في وسط البلد والقاهرة كلها، هذه الحملة مدعو للمشاركة فيها الجميع حتى نحافظ على التراث ونعيد للقاهرة كنوزها التاريخية.