وجدى الكومي يكتب: شلال النُبل

بهاء طاهر ووجدي الكومي
بهاء طاهر ووجدي الكومي

إذا استطاع إنسان أن يختار أباً يتجاور مع أبيه، فربما وقع اختياري على بهاء طاهر بلا تردد، ليكون أبي الروحي

لساعات بعدما طُلب منى كتابة هذا المقال عن بهاء طاهر، أخذت أفكر، ماذا أكتب عن بهاء طاهر؟ الذى أصبح راحلا عن عالمنا يوم الخميس 27، الأسبوع الأخير من أكتوبر.
لقد كانت قراءة هذه الكلمات: وداعا بهاء طاهر..أو «رحل عن عالمنا بهاء طاهر» بمثابة صدمة.. صدمة لى، تقاطعت مع أسباب الحزن الأخرى، الذى أعانيه منذ يناير الماضى، وهو حزن توديع أقرب الأقرباء، جاء خبر موت بهاء طاهر ليجدد لى حزن رحيل أبى وشقيقتى الكبرى.


لا أعرف كيف أصف هذا بدقة، لكن بهاء طاهر كان فى هذه المكانة، أب آخر لى، أو فى مكانة هذا الأب، وإذا استطاع إنسان أن يختار أباً يتجاور مع أبيه، فربما وقع اختيارى على بهاء طاهر بلا تردد، ليكون أبى الروحى، ليس لأنه كاتب كبير أحب أعماله، وقرأتها وتأثرت بها، ولكن لما قدمه لى من دعم ومساندة تقترب من أفعال الآباء.


كان فى بهاء طاهر سر غامض، وإشعاع ذكى، كان كمغناطيس، ينجذب إليه الكل، ويلتف حوله كل الرفاق، كان محسناً كبيراً.ومُحسن.. نعم.. هكذا قرأتها.. بكل ما تحملها من معان، أى العطف، والعطاء، والبذل بلا حدود، والدعم الذى يتدفق كشلال.


كان بهاء طاهر مُحسنا للآلاف من محبيه من القراء، الذين كتب لهم ومن أجلهم هذا الأدب الجميل الراقى، الذى حفر مكانته فى قلب محبى الأدب، كان طيبا، وكان قامة، وكان نقطة نور لا تظلم، ولا تخبو.

وكان محسنا للآلاف الذين حكى لهم بأريحية وثقة مشهداً تاريخياً شديد الجمال والتأثير فى روايته «واحة الغروب»، رأيته يحكى لنا من منظور آخر، منظور البطلة الأجنبية كيف ترى عيشة المصريين الفقراء، معتقداتهم، أفكارهم، تخلفهم، وإيمانهم بالأساطير.


«واحة الغروب» هى الرواية الثانية المؤثرة فى تكوينى بعد رواية «فساد الأمكنة»، وكلاهما أبطالهما أجانب.و«واحة الغروب» هى رواية صحراء، استكشف فيها بهاء طاهر إمكانات أبعد للرواية المصرية، ومغامرة جريئة خارج روايات وسط البلد الأدبية، أو روايات القاهرة، وفى نفس الوقت، كانت رواية تحوى ذلك الطابع الاستشراقى، بين الشمال والجنوب.


والبعض اتهم الرواية بأن فوزها بأول دورة لجائزة البوكر العربية كان لهذا السبب؛ أى الجانب الاستشراقى فى الرواية، ولكن هذا الادعاء لا توجد له أسانيد، والأرجح أن جائزة البوكر العربية هى التى كانت تبحث عن اسم يدعم وجودها وانطلاقها، فمنحت جائزتها إلى بهاء طاهر.


وهكذا كان للمرة الثانية بعد الألف محسناً..قبل الثورة أهدى بهاء طاهر إلى بلده، بيتاً وأرضاً فى الأقصر، ليصبح قصراً للثقافة، وبعد إعلانه إهداء البيت وقطعة الأرض، دشن جائزة تحمل اسمه، للأدباء الأقصريين قيمتها خمسة آلاف جنيه، وهو ربع وديعة تقدر بستين ألف جنيه، فقط اشترط أستاذنا الكبير أن تمنح الجائزة لأفضل كتاب منشور فى أى دار نشر حكومية أو خاصة، أو مخطوطة معدة للنشر.


لا أعرف مصير الجائزة هذه الأيام بعد مرور سنوات على تدشينها، وإن كانت مستمرة أم لا، لكننى أتذكر- إذ كنت صاحب الخبر الذى تم عبره تدشين الجائزة- أن بهاء طاهر أعلن عنها لرغبته أن تكون الأقصر عاصمة ثقافية تقاوم مركزية القاهرة الثقافية، وتستعيد مجدها الثقافى.


أثناء انعقاد مؤتمر اتحاد الكتاب فى الأقصر، عام 2009 منحنى فرصة إجراء حوار صحفى معه، وكان الحوار بمثابة الدعم الفنى والأدبى الذى يقدمه كاتب كبير مثله، إلى شاب فى مقتبل حياته المهنية والأدبية مثلى، إذ كان عمرى الصحفى آنذاك هو بضعة أشهر فى صحيفة اليوم السابع القاهرية، وكنت بحاجة لهذا الحوار كى أوطد أقدامى، وأكوّن أرشيفى الصحفى، وهكذا حينما طلبت منه إجراء الحوار، قال لى:ليس لدىَّ ما أقوله، لكن إذا كنت بحاجة لإجراء هذا الحوار، فلنفعل.


الدعم الأخير الذى قدمه بهاء طاهر حينما فاز بجائزة ملتقى الرواية، إعلانه أنه كان يفضل أن ينال الجائزة مناصفة مع روائى شاب، فيما مثل رسالة مبطنة إلى منظمى الملتقى بأن يمنحوا جوائزه إلى الكُتاب المصريين الشُبان، وهو ما لم يحدث أبدا بعدها.


قد يكون من الأفضل أن أتوقف هنا عن الكتابة عن بهاء طاهر، ولا أكمل، لكن ثمة حكاية أخيرة أرغب فى إضافتها.وهى أن هذا الأديب الكبير، لم يتعامل أبداً بصلف أو بتجبر مع أى شخص قصده، ولم يرد أبدا على أى شخص رغب فى مجالسته، أو تشريفه بحضور ندوته، بالاعتذار أو التهرب.


وهكذا سأختم سطورى هنا بذكر واقعة لا أنساها، العام 2013، حينما هاتفته يوم مناقشتى كتابى القصصى الأول «سبع محاولات للقفز فوق السور»، لأدعوه للحفل، راغباً فى الاتئناس بحضوره، والفوز بحضوره مساندا لجلوسى على المنصة، فوجئت به يقول لى: حاضر: المناقشة فين..؟
فقلت له: 
جنب بيتك، فى مكتبة الشروق بالزمالك فقال لى: يسعدنى يا حبيبى .. فى الساعة هكون موجود. أنا لا أعلم حتى الآن لماذا فعل ذلك؟ كان بوسعه أن يعتذر بارتباطات أخرى، كان بوسعه أن يقول إن لديه ضيوفاً، أو زواراً، أو لديه برنامج كتابة صارم، لماذا يحضر حفل توقيع كل من هاتفه قبلها بساعتين يدعوه للحضور؟ لكنه فعلها، وبأريحية كبيرة، كان متواضعاً، داعماً، ويمنح من حوله الحب بكرم ونبل، وهذا إرث بهاء طاهر الكبير، بجانب إرثه الأدبى، إنسانيته، لهذا لن ننساه.

اقرأ أيضا | الأديب بهاء طاهر: ابن رفاعة الطهطاوى.. وثقافة الحرية