كنوز| الحياة تستحق آلامها

محمود عوض
محمود عوض

محمود عوض

بعض الناس لا يغفرون للإنسان أبدا أن يكون أحسن منهم. 

إنك تنجو من الحصار فينهشون جثتك، وتقفز على الألغام فيطمرونك بالقذائف، وتخرج نظيفا فيجرونك الى الوحل.. مثلهم.

بعض الناس يندمجون في الواقع بحيث إنهم لا يغفرون للإنسان أبدا اكتفاءه بمجرد متفرج على الأمر الواقع. 

إنهم لا يغفرون لك أن ملابسك نظيفة وسط الوحل، وجافة رغم المطر، ومشدودة رغم العواصف، وأنك تدفع الثمن فادحا، ومع ذلك فإن هذا وحده لا يكفى، لأنك لابد أن تكون متورطا مثلهم، وجزءا من الواقع المريض الذى صنعوه فوق رأسك.

بعض الناس لا يغفرون لك أنك تحاول اختصار ماكياج النفاق والانتهازية والكذب، لأنهم سبق أن حاولوا وفشلوا، ويجب أن تفشل أنت أيضا مثلهم، لكى لا تكون أفضل منهم.

إنك تحاول وتحاول، لكى تكتشف في كل مرة أنهم ينهشونك بألسنتهم عقابا لك لأنك لم تضبط متلبسا مثلهم وأنت تبيع جزءا من نفسك في سوق الدعارة الفكرية.

يدوسونك بأقدامهم لمجرد التشفي، يفترسونك لمجرد الاستضعاف، يشرعون في اغتيالك لمجرد أن تكون عبرة لغيرك. 

إنهم يريدون إقناعك دائما بأنه عمل غير أخلاقي من جانبك أن تتمسك بالأخلاق في هذه الأيام، يدركون مدى اتساع الفجوة بين أقوالهم وأفعالهم، ويؤمنون بأبيات الشاعرة الأمريكية «سنيف سميث» : « إن علينا أن نستخدم ذكاءنا.. لقتل كل خصم.. لأن هذه القسوة تجرى في طبيعتنا. ومع ذلك فإن الحياة تساوى دائما أن نحياها ».

إنها تساوى، لأن الأفضل دائما أن يغار منك، فإذا لم تأخذ ما تستحق أفضل من أن يقال : «لم أخذت ما لا تستحق ؟».

وهى تساوى لأن الإنسان إذا فشل في أن يجعل للتاريخ معنى فعلى الأقل يجعل للحياة معنى.

وهى تساوى لأنك حتى لو فقدت صديقك، فلن تفقد شرفك، ولو تعرضت شجاعتك للامتحان، فإنها لن تتعرض للكسر.

هى تساوى، لأننا جميعا شريرون بدرجة متساوية، ولأنه إذا كان في داخل كل منا فرعون قوى وناعم وشرير، فإن في داخل كل منا أيضا بقايا من ضمير، وفضلات من براءة.

وهى تساوى لأن الذين يقيسونك على أنفسهم اليوم، سوف يدركون ولو بعد فوات الأوان أن الهروب من الحقيقة لم يكن أبدا علاجا لها، وجبل النفاق لم يكن سوى جبل من الثلج يذوب عند أول أشعة من شمس.

وهى تساوى، لأنه سوف يجيء الوقت دائما، حينما يصبح هذا القليل الذى تملكه، أكثر احتراما وصلابة وصمودا، من كل هذا الكثير الذى رفضت أن تحصل عليه.

وهى تساوى، لأن الضمير فينا ينام بسرعة، ولكنه يستيقظ ببطء، ولأن الحب الذى لا تتوقعه، يعوض لك الحقد الذى لم تسع إليه.

وهى تساوى، لأنك يوما بعد يوم بيدك فقط وبعرقك وحدك، سوف تستعيد الأبوة التي ضاعت والصديق الذى تنكر والجزء الذى مات من الحقيقة.

إن الحياة مازالت تساوى أن تتمسك بها، ليس فقط بسبب الأمل الذى لم يختف أبدا، ولكن أيضا بسبب الألم الذى يتزايد دائما، لأن الألم يا صديقي هو كالموت يجب أن يتلقاه الإنسان وحده.

من أرشيف « أخبار اليوم »