كنوز| حليم وثومة وفيروز وموسيقار الأجيال فى مرآة نزار قبانى

قصائد نزار قبانى بلسان العندليب وأم كلثوم وفيروز ومحمد عبد الوهاب
قصائد نزار قبانى بلسان العندليب وأم كلثوم وفيروز ومحمد عبد الوهاب

لا يستخرج من الشاعر درر الإبداع المكنون إلا شاعر مثله، كثيرون حاوروا نزار قبانى - أشهر شاعر فى العالم العربى فى القرن العشرين - واقتصروا فى حواراتهم على شهرته التى حققها بالإبحارفى جسد المرأة بجراءة يحسد عليها، وانتقاده لأنظمة الحكم بكلمات وأوصاف واتهامات غير مألوفة، لكن الشاعر السورى الكبير «نورى الجراح» أبحر معه فى حوار طويل جدا أجراه فى لندن قبل عام واحد من رحيله، ويصعب نشر الحوار بالكامل لضيق المساحة، ومن يريد الاطلاع كاملا فالحوار نشر أول مرة فى مجلة «المشاهد السياسى» بتاريخ 28 مايو 1997، وأعادت نشره مجلة «القصيدة» صيف 1999، ونستخلص هنا أهم ما جاء فيه: 

يقول نزار قبانى عن حرية المبدع: «المبدعون يصرخون كل واحد بطريقته، الشاعر بشعره، والرسام بألوانه، والمثال بكتلة الحجر، والموسيقى بأوتاره، ولذلك يستحيل أن أتصور مبدعا مصابا بالخرس، حتى الطبيعة لا تتوقف عن الكلام، فالريح تتكلم، والرعد يتكلم، والموج يتكلم، والزلزال يتكلم، والأعاصير تصرخ بعصبية، وعالم الحيوان لا يتوقف عن الهديل، والصهيل، والنباح، والمواء والزمجرة، فكيف يمكننا أن نطلب من الكاتب العربى أن يبلع لسانه ويتحول إلى حائط، أو إلى جبل من الجليد؟!».

ويقول عما يمكن أن يقدمه الشعر للإنسان فى زمن «العولمة»: «كل ما يجرى فى العالم مؤامرة على الشعر، العلم أصبح مغرورا لدرجة أصبح فيها يلعب بالجينات والهندسة الوراثية وقوانين الطبيعة، وصار إنتاج البشر لا يحتاج إلى رجل وأنثى، وهذا يعنى أن قصائد الغزل لن يكون لها نفع ومواعيد الحب لن تكون لها جدوى، ودواوين الشعر لن تكون لها فائدة، العلم سوف يقتل كل شىء ثم يقتل نفسه، لن يبقى فى مقهى «العولمة» كرسى واحد يجلس عليه الشعر، ولن تكون فى الحدائق العامة مقاعد يجلس عليها العشاق، ومع قدوم القرن الواحد والعشرين، سيحمل الشعر حقائبه ويسافر إلى جزيرة فى عرض البحر لا توجد فيها تكنولوجيا متقدمة ولا أقمار صناعية ولا تليفونات ولا إنترنت!.

وعن تحديد قراراته الشعرية يقول: «أنا لا أبرمج قراراتى الشعرية كل يوم يدخل فى خاصرتى سيف أصرخ من الوجع، وكل يوم يزاد هوان الأمة ألجأ إلى البكاء، لا أستطيع أن أرقص على جثة أمة تقترب من الانقراض، ولا أستطيع أن أكون شاعرا من البلاستيك، يشتغل على البطاريات، لا أستطيع أن أتغنى بأمجاد النهدين وأمجاد أمتى تسحق بالبولدوزرات، الناس كفروا بالعشق، يريدون شعرا يشبههم، والشعر الذى لا يشتبك بهموم الناس، سيذهب إلى سلة النفايات.

 وعن الكيفية التى يبنى بها القصيدة يقول نزار: «ليس فى الشعر كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ ومن المستحيل إلقاء القبض على قصيدة وهى تغزل قميصها الحريرى، لو كان الشعر صناعة، لكان حرفيو «خان الخليلى» أمراء الشعر، ولو كان وحيا لكان السحرة والمنجمون والراقصون فى حلقات الذكر من كبار الشعراء، الشعر زلزال داخلى يضربنا من حيث لا ننتظر، الحمد لله الذى كرمنى خلال حياتى، وأتاح لى أن أرى وجهى مرسوما فى عيون مئتى مليون عربى من الماء إلى الماء، وبعد خمسين عاما أشعر أن الرابح هو حصان الكلمات الجميلة الصادقة الشجاعة، راهنت على ديمقراطية الشعر فنجحت، وراهنت على بساطة اللغة فنجحت، وراهنت على وجدان الجماهير فنجحت، وراهنت على حرية المرأة وحرية الوطن فنجحت.

وعندما سئل عما يريده من الشعر والحياة والمرأة قال: «أريد من الشعر أن يكون مطرا يغمر كل الناس وخبزا يكفى لإطعامهم جميعا، وأريد من الحياة أن تكون واحة سلام وتسامح وحب، وأريد من المرأة أن تتخلى عن وصايا أجدادها، وتطبق وصايا قصائدى: «إنى خيرتك فاختارى / ما بين الموت على صدرى / أو فوق دفاتر أشعارى / اختارى الحب أواللاحبّ / فجبنٌ أن لا تختارى / لا توجد منطقة وسطى / ما بين الجنة والنار!».

وقال نزار عن سر خلود صوت عبد الحليم حافظ رغم مرور سنوات على رحيله: «عبد الحليم يختصر تاريخ الغناء والمغنين منذ إسحق الموصلى حتى اليوم، ولو أن الله كتب لهذا المبدع أن يعيش خمسين سنة أخرى، لقلب تاريخ الغناء العربى من أساسه، إنه مُغن ثورى وانقلابى ومغامر من طراز نادر، وحين أعطيته قصيدة «رسالة من تحت الماء» و«قارئة الفنجان» التمعت فى عينيه آلاف النجوم وقال «شكرا يا نزار..

هذا هو الشعر الذى أريد أن أغنيه» عبد الحليم كان صديقى، وأملى فى إنهاء عصر التلّوث الموسيقى الذى نعيشه، لقد أعطت أم كلثوم كل ما عندها وذهبت، وأعطى محمد عبد الوهاب كل ما عنده وذهب، لكن عبد الحليم كان وردة الحداثة التى جفّت قبل أن تعطى كل عبيرها، وكان قمر الحب الذى غاب قبل أن يملأ سماءنا بأمطار الياسمين».

وعندما سئل عن المطربات اللواتى تغنين بأشعاره قال: «لا أحد ينطق قصيدة الشعر مثل أم كلثوم، التقينا فى «أصبح الآن عندى بندقية»، و«عندى خطاب عاجل إليك» التى رثيت فيها جمال عبد الناصر، ولا أحد يستطيع أن يتقمص القصيدة الأنثى مثل نجاة التى غنت من أشعارى 5 قصائد، ولا أحد يستطيع أن يُلبس القصيدة ثوبا حضاريا مثل ماجدة الرومى. 

وعن ارتباط شعره بألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب قال: «لم يكن عبد الوهاب مغنيا عظيما فحسب، إنما كان متكلما عظيما ومحاورا كمحاورى الإغريق، عرفته فى القاهرة عام 1945 حين كنت دبلوماسيا فيها، لم أقترب منه شعريا لعلمى أنه لايزال يدور فى فلك أحمد شوقى. وحين لحّن قصيدتى الأولى «أيظن» لنجاة الصغيرة التى ضربت الآفاق فى الستينات، شعر عبد الوهاب أنه بحاجة إلى كلام من صياغات وصور جديدة، وعندما كان يلحن قصيدة «ماذا أقول له؟» التى أقول فيها «هنا جريدته فى الركن مهملة / هنا كتاب معا كنا قرأناه / على المقاعد بعض من سجائره / وفى الزوايا بقايا من بقاياه »، قال له أحد الأصدقاء «بعدما غنيت لأمير الشعراء بتلحن كلام عن السجائر والجرانيل يا أستاذ؟»، فأجابه عبد الوهاب «أنا ألحن هذه القصيدة لأنها تتحدث عن الحب المعاصر، وكلمة سجائر وجرائد هى التى جذبتنى، هل هناك عاشقان فى العصر الحديث يلتقيان فى كافتيريا ولا يكون بينهما جريدة وفناجين قهوة ومنفضة سجائر؟»، هكذا كان يفكر محمد عبد الوهاب، وهكذا كان يبحث عن الجديد المتطور، وقال يوما للصحافة فى لبنان: «ارتبطت طويلا بشعر أحمد شوقى، ولكن نزارا أدخلنى بشعره عصر الحداثة»، وقال عن قلة التقاء أشعاره بصوت جارة القمر: «فيروز كانت مكتفية اكتفاء ذاتيا، فزوجها عاصى الرحبانى شاعر كبير وسلفها منصور شاعر بارز، ومع ذلك غنت لى فيروز قصيدة «لا تسألونى ما اسمه حبيبى» و«موال دمشقى» وقصيدة «وشاية»، وغنت لى خلال السبعينات «كتبنا وأرسلنا المراسيلا.. وبكينا وبلّلنا المناديلا». 

« كنوز » 

 

إقرأ أيضاً|نزار قباني: لو كان عندي عقل لما كتبت الشعر