الأديب بهاء طاهر: موهبة بهاء الفارقة.. ولعبة الانحيازات السياسية القاتلة

فى إيطاليا عام ١٩٩٨ مع محمد البساطى وهدى بركات وسلوى بكر
فى إيطاليا عام ١٩٩٨ مع محمد البساطى وهدى بركات وسلوى بكر

فى مارس 1984، نشرت مجلة إبداع المصرية، قصة جديدة للكاتب والمبدع والناقد والمترجم بهاء طاهر، عنوان القصة «بالأمس حلمت بك»، تلك القصة خطّت مسارا جديدا فى ذلك العالم يتناول علاقة الشرق بالغرب، أو  أنها أنهت عالما قديما كان يرسم عوالم متخيلة أو شبه فنتازية حول العلاقة بين القطبين، أو التقاطع بينهما، أو حتى الصدام القاسى الذى جاء سرديا فى كتابات توفيق الحكيم ويحيى حقى وسهيل إدريس والطيب صالح وغيرهم، ذلك الصدام الذى يسير على خطى الشاعر الانجليزى روديار كيبلنج، ومقولته الشهيرة «الشرق شرق، والغرب غرب، لن يلتقيا»، وسنجد ذلك الصراع مجسدا بشكل بارز وواضح فى كتابات كل من نوهنا عنهم سابقا وغيرهم، إلى درجة القتل التى نجدها عند الطيب صالح وبطله مصطفى سعيد، كما أننا نلاحظ أن إسماعيل فى «قنديل أم هاشم» يضرب بكل ما تعلمه فى الغرب عرض الحائط، ويعلن عن ولائه العميق لبيئته وحضارته مهما كان شكلها ومضمونها، وكذلك سهيل إدريس الذى جعل بطله يخذل حبيبته التى ارتبط بها فى باريس ويعود إلى أهله، مصغيا إلى تعليمات ونصائح أمه التى أرشدته بالزواج من عائلته، ولم يستطع البطل أن يرفض أو يعترض أو يحتج حتى لو بشكل شفاهى على تلك التعليمات، لأنه مقتنع سلفا بأن الشرق شرق، والغرب غرب، ومن المستحيل أن يلتقيا أو يعيشا معا، أو يعقدا صداقة إنسانية بعيدة عن ذلك التعصب القوموى الذى يطارد الشرقيين أينما كانا.
 

ورغم أن القصة «بالأمس حلمت بك» تم تناولها نقديا فى أبحاث وكتابات كثيرة، إلا أننى أود تلخيصها كما أراها، وكما قرأها آخرون، وهناك فى تلك الكتابات الكثيرة تقاطعات وتوازيات بعدد قرّائها ونقادها، فهى كما أكّد كثيرون، كما سأتناول ذلك لاحقا، جاءت بشكل مغاير ومختلف عن كل ما سبقها فى ذلك المجال.


 بطل القصة العربى يعيش ويعمل فى مدينة غربية، ضمن أقلية عربية فى تلك المدينة، المؤسسة التى يعمل فيها عربية، ولكن رئيسها ومعظم من يعملون فيها يحملون جنسية البلد الأوروبى.

يشعر البطل كثيرا بالملل والغربة ثم الاغتراب، كما ينتابه شعور بوحدة لا حل لها فى تلك البلاد الباردة وذلك على عكس ما كان يحلم به قبل أن يغادر بلاده، ذات يوم عندما كان ذاهبا إلى عمله، يلتقى بحسناء جميلة من ذلك البلد البعيد.

وتلتقى النظرات ويتبادل الاثنان قدرا من الرسائل الصامتة، وكان زميله فى العمل قد أهداه كتابا عن الصوفية يقرأ فيه بينما يستقل السيارة التى تنقله للعمل، ليكسر جو الملل الذى يعيش فيه، يقرأ فى الكتاب أن الروح فى كثير من الأحيان تغادر الجسد وتقوم ببعض الجولات.

وأن ذلك يحدث عادة أثناء النوم، وفى تلك الجولات تلتقى تلك الروح الهاربة أو الملولة بأرواح شريرة، وكذلك بأرواح طيبة، ولذلك يحدث اتصال بين الروح الهاربة، وتلك الأرواح التى تلتقيها، هنا يشعر بطل القصة بالخوف والريبة، والقلق، فيغلق الكتاب.

ويقرر التخلص منه بإرساله إلى أحد أصدقائه الذى يسكن فى مدينة أخرى من البلد نفسها، لأن صديقه هذا هو الأقرب منه إلى تلك الأفكار، وفى صباح اليوم التالى يذهب إلى مكتب البريد ليرسل الكتاب.

وهناك يلتقى بالفتاة كأنها قدر يطارده، وتتعدد اللقاءات التى تأتى فى عفوية شبه مقصودة، ولكنها لقاءات أيضا شبه مدبرة، حيث تتلاحق وتتواتر حتى يلتقى بها فى السينما، ويتم التعارف الذى كان حتما ولازما بعد كل تلك المصادفات التى تقف خلفها رغبة قدرية غامضة.


وفى لقاء بينهما فى المقهى قالت له: قررت أن أواجهك، فرد عليها فى هدوء: هل نحن فى حرب؟، قالت له: «لا، لسنا فى حرب». وبعد حوار متوتر ومشحون بمواجهة فعلية يتفقان على موعد فى منزلها لاحقا، وفى الموعد المتفق عليه يذهب وهناك تكون المواجهة المؤجلة أكثر وضوحا بعد أن يتعرف على والدتها.

والتى تبوح بدورها ببعض مما لديها من انطباعات عن البلد الذى ينتمى إليه، وتندهش لأنه يعتز ببلاده المصرية، وتندهش أكثر أن بلاده تنطوى على رقى وحضارة، وتقول له بإن زوجها ذهب إلى مصر قبل أن يتزوجا.

وبعد حوار قصير يدخل بطل القصة الذى يتعمد الكاتب ألا يعطيه اسما كما يفعل فى كثير من نصوص أخرى، والكاتب هنا وفى كثير من كتاباته مولع بالتفاصيل الدقيقة التى تعبّر عن هوية أبطال قصصه عموما، فيصف الغرفة، واللوحات المعلقة على الحائط، والأشياء الصغيرة التى ترقد على المكتب، أو تستيقظ فى الصالة، ويحتد الحوار، ثم تعتذر له لأنها كانت حادة فى اللقاء السابق وزعمت بأنه يطاردها فى أحلامها.

ولذلك صرخت فى وجهه بأنها تكرهه، وفى غرفة النوم انفعلت وخلعت ملابسها وقالت له: «هيا افعل ما تريد، أليس ذلك كل ما تريده؟»، هنا رد على طلبها ببرود دون انفعال ملحوظ، ولكنه ارتبك بالفعل، وقال لها: لا، ليس هذا ما أريد؟ فقالت له: إذن ماذا تريد؟، فقال لها: «أريد أن يكون العالم فى سلام».

وبعد حوار يتقن بهاء طاهر سرد تفاصيله، يغادر البطل وهو فى حيرة كبيرة من ذلك اللقاء المؤجج، وتطارده فى هواجسه، ويقرر أن يسأل عنها لكى يضع نهاية لقلقه عليها، فيطلبها فى الهاتف، فلا ترد، فيذهب إلى منزلها، وهناك يدق الباب عدة مرات، فلا يجيب أحد.

وحتى يخرج رجل يسكن بجوار شقتها ويقول له: لن يرد عليك أحد، فيسأل لماذا؟، فيرد الجار: لأن مارى ألقت بنفسها من الشرفة ولقيت حتفها، وأمها مريضة، وفى تلك اللحظة تفتح والدة مارى الباب، وتراه، فتصرخ فى وجهه: أنت الذى أنهيت حياة ابنتى، وجئت لكى تنهى حياتى، وتغلق الباب.


هذا اختصار أرجو ألا يكون مخلّا لقصة طويلة، تصل إلى حجم نوفيلا، يتعامل فيها الكاتب على أن المشكلة التى تنشأ بين الطرفين، ليست محاولة سيطرة جانب على جانب آخر، ولكنها مشكلة عدم فهم، إنها مشكلة إنسانية بشكل محض، مشكلة طرفين لا يفهم أحدهما الآخر.

وهناك فى القصة حكايات صغيرة تدلل على ذلك، منها حكاية الإفريقيين اللذين عيرتهما واحدة من تلك البلاد بزنجيتهما، ولكن الإفريقى لم يتركها فى حالها، لأنها تعتبر زنجيته تهمة لا بد أن يقرّها، وهو يحاصرها مثيرا لأعصابها بأن تصرح ماذا تقصد، فتقول له: لا أقصد شيئا، فيسخر منها، ويقول لها: إنك لست وقحة فقط، بل إنك لست شجاعة أيضا.


 إذا القصة مكدسة بعدد من المعانى الدالة على أن الطرفين ليسا إلا ضحية لثقافات بالية، ثقافات لا بد أن تتغير فى ذلك العالم الجديد، ولم يصبح الشرقى كما كان، ولم يظل الغربى كما تم التعارف عليه سلفا، وإزاء تلك الحيرة، انتحرت الفتاة الغربية.

واعتقدت أمها بأن ذلك المصرى يريد قتلها هى أيضا، كما أن بطل القصة لم يفهم، ولم يستطع أن يضع نهاية عادلة لتلك المعانى، رغم أن القصة انتهت، ولكن المعانى لم تنته، بعد أن جرت فى مياه العلاقة بين الشرق والغرب ثقافة جديدة.


وقبل أن نتعرض إلى الجدل الذى أثارته تلك القصة، لا بد أن نعطى لمحة وملامح لمسيرة كاتبها بهاء طاهر، والذى كتبت عنه الأستاذة صافيناز كاظم بأنه متوسط الموهبة، واختصرته فى أنه كان كابوس جيلها، كما أنه اغتصب أو استحل، على حد تعبيرها، جوائز لا يستحقها.

وهذه اتهامات كانت تحتاج إلى أدلة قاطعة، فهى ليست وجهات نظر، فمسألة متوسطية موهبته هذه لا يقولها ناقد إلا بعد تحليل وصفى ونقدى مفصل، فحكم القيمة دائما لا يسبق التحليل، وفضلا عن أنه اتهام متعسف ومجحف، فالرأى العام الذى يتبناه نقاد وقراء حياديون، لا يقولون به، أما مسألة الجوائز واغتصابها، أيضا لا يقرّها كل من عرف بهاء طاهر عن قرب.

وابتعاده المتعمد عن الشهرة والذيوع وإثارة الزوابع التى يفتعلها الكتاب حتى ينتشروا، يبقى مسألة أنه كان كابوس الجيل، ولا أعرف كيف كان كابوسا، وربما يكون استعراضنا لبعض من محطات مسيرته وحياته، والتى تم التنويه عنها كثيرا، ما ينفى أنه كان «كابسا» على «نفس» الجيل، هذا إذا اعتبرنا أن الجيل كتلة واحدة صمّاء تتلقى الأحداث بطريقة واحدة.

وبرد فعل مشترك، وبوجهات نظر موحدة، ذلك الجيل الذى كان فرقا و»شللا»، وهى، أى صافيناز، تدرك جيدا البعد الشللى الذى يحيط بالجيل، وأعتقد أن بهاء ذاته نوّه عن ذلك فى رثائه لرفيق رحلته يحيى الطاهر عبد الله فى مجلة «خطوة».

وأعاد نشر ذلك الرثاء فى كتابه «أبناء رفاعة» الصادر عن دار الهلال فى أكتوبر عام 1993، إذ قال: «أذكر جيدا عندما جاء يحيى الطاهر إلى القاهرة، كان الوسط الأدبى فى الستينيات يتشكل من مجموعات منغلقة على ذاتها من الكتّاب، يتمركز كل كاتب حول مجموعة ولابد يحيى قد عانى كغيره، أو أكثر من غيره.

وهو الوافد الجديد، من هذا التمزق وهذا الشك، ولكنه استطاع وكأنما بمعجزة، أن يحلق فوق هذه المجموعات كلها وأن يبسط عليها جناحين من حبه، كانت كلمة أو لازمة «يا خويا» التى كانت مدخله لكل حديث هى أيضا مدخله لكل القلوب».


أعتقد أن هذه الفقرة كان بهاء يكتبها وهو يصف بها نفسه، أكثر مما كان يصف يحيى، فكل من اقترب أو تقاطع مع تلك الفترة، أو على الأقل التقى ببعض أبناء جيل الستينيات، سيدرك على الفور أن القاص الصعيدى والكاتب الموهوب يحيى الطاهر عبد الله كان غارقا لـ«شوشته» كما يقال فى كل التفاصيل الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية، للدرجة التى كان مطلوبا بقوة فى القضية السياسية التى اعتقل فيها رفاقه من أبناء الجيل فى أكتوبر عام 1966، وضمت كثيرا من الرموز التى تعبر عن ذلك الجيل مثل عبد الرحمن الأبنودى وسيد حجاب وإبراهيم فتحى وصلاح عيسى وغيرهم.

وظل يحيى هاربا حتى أفرج عنهم فى مارس 1967، ولذلك التداخل، وأيضا لموهبته العظيمة، كان يحيى مدرجا فى جميع الملفات الأدبية التى تم إعدادها منذ الملف الذى نشر فى أغسطس عام 1966، وضم كتّابا من طراز محمد البساطى وإبراهيم أصلان وجميل عطية إبراهيم، ولكن بهاء طاهر هو من غاب عن ذلك الملف، رغم أنه كان ملء السمع والبصر، ورغم أنه لم يكن أقل موهبة أو ذيوعا عن زملائه الذين نشروا فى ذلك الملف الذى دشن بقوة لجيل الستينيات.


فى تلك الفترة كان الشاب محمد بهاء الدين طاهر، قد قطع شوطا فى الكتابة الإبداعية والنقدية، كما أنه حقق تميزا فى إذاعة البرنامج الثانى «البرنامج الثقافى» حاليا، كان قد نشر مسرحيتين من الفصل الواحد، الأولى عنوانها «كأن» عام 1959 فى مجلة الآداب، والثانية فى مجلة الشهر عام 1960، وقبل أن يتخرج فى كلية الآداب قسم التاريخ التحق بهيئة الاستعلامات كمترجم، أما بعد التخرج عام 1956، التحق عام 1957 بالإذاعة وعمل محررا بها ومخرجا إذاعيا.

وكان قد أجرى حوارات ثقافية مع كتّاب وأدباء بارزين فى ذلك الوقت مثل د . عبد القادر القط، والكاتب المسرحى ألفريد فرج بعد خروجه من المعتقل، وبدأ يكتب مقالا نقديا فى المسرح بمجلة الكاتب بين عامى 1965 و1969.

وكان قد قدمه يوسف إدريس عام 1964 فى مجلة الكاتب تقديما مبهرا، نوهنا عنه أكثر من مرة فى كتابات سابقة، وأهمية ذلك التقديم أن يوسف إدريس لم يكن يقدم شابا على سبيل التشجيع، ولكنه كان منبهرا به، للدرجة التى اعتبره بها أنه يمتلك أدوات كاتب ناضج وكبير.

وقال عنه بإنه يكتب  قصة «بهائية طاهرية» ذات ملامح خاصة ومستقلة، وهذا الكلام عندما يصدر من كاتب مثل يوسف إدريس، فهو شهادة ميلاد قوية جدا فى ذلك الوقت، وخاصة أن إدريس كان يقدم الكتاب بشكل متحفظ على سبيل التشجيع، كما فعل مع يحيى الطاهر عبد الله عندما قدم قصته «محبوب الشمس» فى أغسطس 1965 بمجلة الكاتب كذلك.


القصة الأولى التى قدمها يوسف إدريس لبهاء طاهر، كانت تطرح هموما فنية جديدة، لم تتمثل ما كان شائعا فى ذلك الوقت بما يسمى بالواقعية الاشتراكية أو الرمزية أو أى اشتراكية أخرى، حيث إن بهاء وكثيرين من أبناء جيله كانوا متأثرين بالفلسفة الوجودية التى كانت تلقى بظلها الطويل على المثقفين والمبدعين فى ذلك الوقت.

ورغم أنها كانت القصة الأولى، إلا أنها بالفعل كما ذكر يوسف إدريس أتت بملامح ناضجة، ملامح وقسمات تكاد تلامس ملامح كاتب مخضرم خبر الكتابة منذ زمن بعيد.


تبدأ القصة بحوار بين شاب يشعر بضجر شديد وبين أمه حول ماهية الطعام الذى تعده للغداء، حوار كان مزعجا للغاية، يخرج على إثره شبه غاضب أو متذمر، ويذهب إلى شقيقه فى منزله، ويدور حوار آخر بينهما حول الميراث، حيث إن الشاب كان يريد أن يبيع الأرض التى تركها والده.

ولكن شقيقه لا يريد ذلك، تلك الأرض التى كانت ثمرة تعب والده على مدى حياته الطويلة، يتهمه شقيقه بأنه مبذر، فيتركه ويذهب إلى السينما، ويشاهد فيلما مثيرا، وكانت تجلس بجواره امرأة يصفها بأنها أربعينية، ويقدم لها سيجارة، ويخرجان معا وسط نظرات مريبة من رواد السينما.

ويدور حوار بينهما يعبر فيه كل منهما عن همومه الخاصة التى تتعلق بالسعادة والتعاسة، وفجأة تترامى إلى سمعيهما صرخات وهتافات يعتقد أنها مظاهرة، ولكن عندما يقترب الحشد، يدرك أنها ليست مظاهرة احتجاج، ولكنها فرحة الجماهير بفوز النادى الأهلى على خصمه، فيترك صاحبته وينخرط مضطرا ومدفوعا بفعل ذلك الزحام فى أمواج الناس المتلاطمة والمتعاركة.

ويجد نفسه يضرب آخرين، ويضربه آخرون دون أى عداء شخصى، ويصاب بجرح غائر فى رأسه، ويكتشف أن خيط دم يتسلل على جبهته ويصل إلى بقية وجهه.
 معركة عبثية لا أسباب لها، سوى أن الجميع وجدوا أنفسهم فى ذلك الحشد العشوائى، فيهرب ويركب مركبة عامة لكى يعود إلى بيته.

ويدور حوار عبثى رابع بينه وبين رجل وجد نفسه بجواره فى الأتوبيس، وكان الحوار حول عبثية لعبة كرة القدم التى يتقاتل الناس حولها، وينهى بهاء قصته: «.. سكت الرجل أخيرا، وسكتت كل الأصوات فى العربة، فتنهدت بارتياح وأنا أسند رأسى المجروح فى حذر إلى ظهر العربة، لا أفكر فى شىء، ولا أهتم بشىء، ولا أستمع إلى شىء غير صوت إطارات العربة الرتيب، وهى تدرج على أسفلت الطريق».


 تلك القصة ألقت بحجر ثقيل على المستوى الفنى والفكرى فى مسار القصة القصيرة، ومن هنا جاء انبهار يوسف إدريس، إنه احتفاء صادق للغاية من كاتب كبير، بكاتب شاب لم يصل إلى الثلاثين من عمره، ومن ثم بدأ بها كبيرا بالفعل، ونشر قصته الثانية «الصوت والصمت» فى مجلة «الكاتب» فى مارس 1966، ولم تكن تقل أهمية عن القصة السابقة، ولكنها أضافت لذلك الشاب حضورا ومذاقا خاصا، ورسخت أقدام كاتب القصة الجديد فى أرض الحياة الأدبية.


لم ينتم بهاء إلى أى من التنظيمات السياسية التى نشأت وتكونت على هامش حل «الحزب الشيوعى المصرى»، واندماج أعضائه السابقين فى الاتحاد الاشتراكى العربى، وتشكلت مجموعة من المبدعين والمثقفين والكتّاب حول منظمة «وحدة الشيوعيين»، ضمت فى إهابها كتابا ومبدعين موهوبين من طراز إبراهيم فتحى وغالب هلسا وسيد خميس، بالإضافة إلى من نوهنا عنهم من قبل، وتم اعتقالهم.

وكان بهاء بعيدا عن تلك الجماعات السياسية التى عبّرت عن نفسها بشتى الوسائل، ولكن بهاء كان يغرّد فى فضاء آخر، وآثر أن يعبر عن نفسه بطريقته الخاصة، وكانت مقالاته فى النقد المسرحى خير تعبير عن رأيه واحتجاجه، كما كانت كتاباته القصصية أيضا تقول الكثير.

ولكن وجود وفعالية وحركة بهاء التى كانت خارج الجماعات عملت على إقصائه من بعض الملفات التى نوهنا إليها، وعندما صدرت مجلة «جاليرى 68» فى مايو 1968، تجاهلته فى الأعداد الأربعة الأولى، والتى نشر فيها كل أبناء الجيل، وعندما خصصت المجلة العدد الخامس للقصة القصيرة، نشرت له قصة «الخطوبة».

وأشاد بها الناقد والقاص الأردنى غالب هلسا فى العدد ذاته، ولكن فى العدد السادس الذى صدر فى أكتوبر عام 1969، كتب خليل سليمان كلفت تعقيبا نقديا على عدد القصة القصيرة، وهاجم فى ذلك التعقيب بهاء طاهر وقصته «الخطوبة» فى وقت واحد قائلا: «..وفى قصة «الخطوبة» لبهاء طاهر نجد البطل متهما لم يرتكب ذنبا، أما اختياره فإن محكمة ذاته هى التى تقرره: (أن يرفض أو يذعن)، هذه مسألة قلبه وعقله يقرران فيها ما يشاءان، إن الأمور هنا متطرفة والوقائع ضيقة وبعيدة عن أن تكون غنية ومتنوعة، وحتى محبوبة البطل تظل مغلقة تماما.

ولا يبدو أنها يمكن أن تلعب أى دور، إن وقائع مختلفة من أساسها، فى الغالب، هى التى تحاصر بطلنا، ومن هنا فإن أحاسيسه ومشاعره وانفعالاته وأفكاره محكوم عليها بأن تدور فوق السطح، ويبدو اقتراح الخروج من الحصار حيلة مفتعلة، أى جانب من الاغتراب تتناوله القصة؟، إنه اغتراب أفراد متهمين بلاسبب فى عالم غريب، إنها تذكرنا بجوزيف ك فى قضية كافكا، (ذات صباح جميل يلقى القبض عليه بلا سبب)، إن مثل هذا الحصار لن يفك لأنه حصار شخصيات حية تمارس نفسها فى وقائع حية فى معطى هو واقعنا.

ومن حقنا أن نتساءل ما إذا كانت القصة تملك أن تكون صادقة فى تعبيرها عن واقعنا؟»، هذا السؤال بالطبع يأتى فى شكل استنكارى، وليس فى شكل استفهامى، فكل ما ذكره خليل كلفت سلفا، يضع مبررات لاستنكار القصة وكافكاويتها وعبثيتها كما تقول الكلمات.

ويبدو أن بهاء طاهر استشعر تلك الغربة بشكل ما عن جيله، فكتب شهادة عميقة وهادئة فى مجلة الهلال الصادرة أغسطس عام 1970، لكى ينفى بشكل خجول انتسابه لذلك الجيل من الشباب، ولكنه نفى مقنع، إذ يقول: «أحب أولا أن أنبه إلى أننى لا أنتمى إلى جيل الشباب، ولا إلى جيل الكبار، أو الواصلين، والانتماء إلى جيل الشباب الجديد، ليس تهمة أدفعها.

ولكنه شرف لا أدعيه، فالخامسة والثلاثون ليست هى بالضبط شرخ الشباب، ولكنها بالأحرى صدعه وبدء وداعه..»، يكتب بهاء ذلك الكلام، وهو يعرف أن إبراهيم أصلان وهو أحد الأعمدة الراسخة فى جيل الستينيات كان مولودا فى ذات عام ولادته، أما بقية أبناء الجيل، فالفرق بينهم فى  العمر يتراوح بين العام والعامين، لكننى أشعر أن بهاء كاد يقول «لكم جيلكم، ولى جيل».

وهذا من كثرة وعمق تجاهله، ثم الهجوم عليه، واعتباره أحد المتأثرين بعبثية كافكا والعياذ بالله، وزاد على ذلك أنه سافر ضمن وفد مصر فى مؤتمر كتاب آسيا وإفريقيا فى نيودلهى عام 1970، ذلك المؤتمر الذى كان يترأسه يوسف السباعى، ثم ذهب إلى ندوة فى مهرجان دمشق المسرحى عام 1972، والطامة الكبرى أن تصدر مجموعته الأولى «الخطوبة» عن مطبوعات الجديد التى يرأس تحريرها الدكتور رشاد رشدى، ذلك اليمينى المتطرف فى اعتقاد كل المثقفين فى ذلك الزمان.


ولكن بصدور تلك المجموعة، وتحقيقها لحضور نقدى مرموق، لم تستطع الجماعة الثقافية تجاهل نصوص بهاء طاهر، وهذا ما يدفعنا للعودة والضجة التى أحدثتها قصة «بالأمس حلمت بك»، وحتى ذلك العام 1984، لم يكن بهاء قد أصدر مجموعته الثانية.

ولكن بعد نشره لقصته هذه نشر مجموعته الثانية، ولكن المهم هنا أن ننوّه على المقال الذى كتبه الناقد محمد محمود عبد الرازق عن تلك القصة فى عدد يوليه من مجلة إبداع، واعتبر أن القصة تبدأ عالما أو خطا جديدا فى مسألة العلاقة بين الشرق والغرب، وبعد صدور المجموعة كتب الناقد سامى خشبة.

وهو أحد النقاد الكبار والمرموقين فى ذلك مقالا فى مجلة إبداع سبتمبر 1984، أى فى أعقاب صدور مجموعة «بالأمس حلمت بك» عن مختارات فصول، وجاء فيما كتبه: «..وقصة بهاء طاهر، يكتبها بعد أن زالت أوهام كثيرة عن كل الاحتمالات التى حملتها أو حققتها، أو أنذرت بها، تلك العلاقة الدراماتيكية بين الغرب وثقافته.

وبيننا وثقافتنا، احتمالات الانبهار بالغرب، الانبهار بما يمكن أن نتعلمه منه وبما نشعر بوجوب أن نرفضه فيه»..»، ويستطرد خشبة فى قراءة بقية المجموعة، ورغم أن سامى خشبة كان ناقدا موضوعيا وشديد الصرامة، إلا أنه كان يبدى عبارات الإعجاب والانبهار بذلك الكاتب الذى يقول عن نفسه دائما بأنه كاتب مقل، ونحن نفهم هذه الجملة على أنه مقل فى الكم، ولكنه كثيف فى الفن والإبداع.


ونعود لحكاية أنه كان كابوس الجيل، ونستشهد هنا بكلمات ناقد شديد الصرامة والنزاهة، من الممكن أن نختلف مع بعض أحكامه القاسية، ولكننا لا نختلف على نزاهته ووسوسته الشديدة، وأعنى الناقد فاروق عبد القادر، والذى كتب مقالا مهما فى إبداع بهاء طاهر.

وعندما أصدر روايته «خالتى صفية والدير»، ولا أريد استعراض ما كتبه عبد القادر، ولكننى أريد ببعض كلماته أن أنفى حكاية ما قيل عن كابوس الجيل، فاروق عبد القادر لم ينتظر صدور الرواية فى كتاب، ولكنه سارع بالكتابة عن الرواية من خلال الحلقات التى نشرت للرواية فى مجلة «المصور» من 4 يناير 1991 حتى 1 فبراير 1991، ويقول بالنص.

وهو يعتذر للقارئ: «وعذرى أن عملا جديدا لبهاء طاهر هو (حدث أدبى) لا شك فيه، فبعد أعماله الأخيرة: «شرق النخيل» 1984، و«قالت ضحى» 1986، ومجموعتيه «بالأمس حلمت بك»، و«أنا الملك جئت»، أصبح ما يقدمه بهاء، موضع ترقب وانتظار من القراء والمتابعين، وعذرى كذلك أن تلك الرواية القصيرة، هى من أفضل الأعمال التى قدمت، حتى اليوم، فى هذا الشكل الفنى الصعب، وقد أثبت بهاء قدرته على هذا الشكل وتميزه فى روايتيه السابقتين).


لا أستدعى سامى خشبة وفاروق عبد القادر، وهما ضميران نقديان لجيل الستينيات كله، ولا خلاف على نزاهتهما النقدية، أما النقاد على الراعى وشكرى عياد وغالى شكرى وابراهيم فتحى وادوار الخراط، وغيرهم من الذين كتبوا عن بهاء طاهر، فهم يثبتون أن بهاء طاهر كان أحد أبرز أبناء جيله الكبار، وأضاف الكثير إلى فن القصة القصيرة والرواية، وما الجوائز التى حصل عليها، إلا مكافآت قليلة لإبداع ولمبدع لا ولن ينمحى من الذاكرة المصرية والعربية.

اقرأ ايضا | الأديب بهاء طاهر: فن الاعتراض