عندما يسمو الإبداع على الزمان

محمد توفيق وبهاء وزوجتاهما
محمد توفيق وبهاء وزوجتاهما

لا يمكن الحديث عن بهاء طاهر – ابن الأقصر العريقة – دون التطرق إلى الموروث الثقافى الذى تغلغل فى كيانه، فهو ابن مصر بحضارتها ذات الروافد الثقافية المتداخلة المتراكمة

معيار الصداقة بالنسبة لى أن تشعر أن علاقتك بالصديق مكون أساسى فى حياتك، سواء تواصلت معه يوميا أو مرة كل سنة، فلحظة اللقاء طبيعية لا تتطلب إعادة مد للجسور أو استعادة لنقاط التلاقى، والحديث يُستأنف من حيث تُرك ماحيا الفترة التى مرت. هكذا الصداقة.. تسمو على الزمان ذاته.
لذلك أصابنى شيء من الدهشة عندما حاولت هذه الأيام أن أتذكر لقائى الأول بأديبنا الكبير بهاء طاهر، كأن السؤال ذاته يتنافى مع منطق الأمور، وأن معرفتى به حقيقة ثابتة لا يمكن أن ترتبط بنقطة بداية محددة فى الزمان والمكان. كنت أعرف بطبيعة الحال من خلال أعماله قبل أن نلتقى على أرض الواقع عام 1997، كما كنت شغوفا بلقائه قبلها بعدة أشهر منذ عرفت بقرار نقلى للعمل ببعثة مصر لدى المقر الأوروبى للأمم المتحدة فى جنيف، ولعل طبيعته الودود البعيدة عن التكلف ساعدت على سرعة توطيد العلاقة، لكن المسألة لها بعد آخر مرتبط بشخص بهاء طاهر ذاته، كإنسان وككاتب. 

لا يمكن الحديث عن بهاء طاهر – ابن الأقصر العريقة – دون التطرق إلى الموروث الثقافى الذى تغلغل فى كيانه، فهو ابن مصر بحضارتها ذات الروافد الثقافية المتداخلة المتراكمة، يعتز بها أيما اعتزاز ويعبر عنها ببلاغة الأديب ورؤية الفيلسوف.

والشعور الوطنى والهمُّ العام لا يغيب عنه بغض النظر عن موقعه الجغرافى، فهو عندما يتبنى المبادئ الإنسانية كالحرية والعدالة والتعددية والتعايش وقبول الآخر، ويُقبل على حياة كوزموبوليتانية فى بوتقة جنيف متعددة اللغات والثقافات، فإنه يقدم عليها بسماحة المتمكن من هويته، وبانفتاح المتواصل مع جذوره.


ولا يمكن من جهة أخرى أن نفصل بين بهاء طاهر الإنسان والكاتب، فالأدب يجرى كالهيموجلوبين فى شرايينه، ومن ثم كان الرجل الذى التقيته للمرة الأولى يتطابق إلى حد كبير مع صورتى الذهنية للأديب المصرى المعاصر، فملامحه منحوتة كتمثال فرعونى، أنيق دوما ولكن ببساطة تنافى المظهرية بأشكالها وإشكالياتها، يستمع أكثر مما يتحدث وإن تكلم أوجز.

وحمَّل كلامه مجاملة رقيقة، وشيء من سخرية تتخللها حكمة آتية من أعماق ممتدة فى الزمان والمكان. ولم يكن غريبا أن تتضافر المسائل الأدبية فى أحاديثنا مع قضايا العلاقات الدولية وتطور أشكال الهيمنة الإمبريالية قديما وحديثا، تلك الحوارات التى تواصلت حتى فترة قريبة قبيل رحيله عن دنيانا المحدودة هذا الأسبوع.


عندما التقيته فى جنيف أعربت له بطبيعة الحال عن إعجابى بإنجازه الأدبى المتميز، والذى أعتبره تطبيقا نموذجيا لمعيار ذهبى وضعه الشاعر والفنان الإنجليزى ويليام بليك فى القرن الثامن عشر: أن تنظر إلى حبة رمل فترى الكون بأسره.

وأشرت إلى رواية «الحب فى المنفى» على وجه الخصوص والتى تركت فى نفسى أثرا لا يمحى، وأعتبرها من أهم الروايات العربية لأنها تدمج بسلاسة تامة عنصرين يصعب المزج بينهما وهما: رحلة البطل الداخلية المبنية على علاقاته الشخصية المباشرة، وتفاعلات العلاقات الدولية وانعكاساتها على المنطقة العربية بما فى ذلك توظيفها لأطراف محلية لخدمة أغراضها.


من جهة أخرى عبرت عن انبهارى بقصة «الخطوبة»، والتى أعتبرها نموذجا للتوازن بين الفنيات القصصية والنقد الاجتماعى، فتوظيف عناصر التكثيف والرمز والتكرار والإيقاع والتحول والإنقلاب يبرز ورطة الشباب فى بلادنا بين تحكمات المجتمع البطريركى، ومحدودية فرص الحراك الاقتصادى والاجتماعى. 


وقد استمع بابتسامته المحافظة التى تمزج التفكير العميق بشيء من التحفظ، ثم قرر الانفتاح فجأة وذكر أنه مع هذا يظن أن قصة «أنا الملك جئت» أهم ما كتب (للتذكرة دار هذا الحديث قبل كتابة روايتى «نقطة النور» و «واحة الغروب» والكتاب القصصى «لم أعرف أن الطواويس تطير»).

وفى لقاء لاحق أهدانى نسخة من الكتاب، فتعرفت بالفعل على عمل إبداعى مذهل فى شفافيته، يتعامل مع التراث كمكون نابض فى حاضرنا، والزمان كامتداد فى كل/ الاتجاهات لا يأبه بتعريفاتنا المصطنعة، والنفس البشرية كثقب أسود تتوقف عنده قوانين الفيزياء، وهكذا بدأ فصل جديد فى رحلتى الخاصة مع الأدب.


وكان ذلك على عكس توقعى عند وصولى لجنيف فى أغسطس 1997 بأن أمضى بها أربع سنوات كما هو معتاد فى السلك الدبلوماسى، وأن تكون فترة إقامتى بالمدينة السويسرية – بما عرف عنها من هدوء ونظام وجمال – بعيدة عن المناخ الأدبى المحبب إلى قلبي.

ولكن لحسن حظى أثبتت السنوات خطأ التوقعين معا، إذ أمضيت بالمدينة أكثر من خمس سنوات، واكتشفت أن جنيف مركز مهم للثقافةالعربية وآدابها، فإلى جانب الأستاذ بهاء كان من المقيمين بها الأديب جميل عطية إبراهيم – رحمه الله، والأديبة الفيلسوفة فوزية أسعد – متعها الله بالصحة والعافية.

واللذان أصبحا سريعا مع الأستاذ بهاء والسيدة ستيفكا زوجته من الأصدقاء المقربين لى ولزوجتي.وأقام بجنيف وقتئذ أيضا صديقى الدبلوماسى والمثقف الراقى وليد عبد الناصر، والذى أدار مع الأديبة فوزية العشماوى الجمعية الثقافية المصرية.

وكانت جنيف تستضيف فى تلك الفترة سيلا متدفقا من الأدباء والمفكرين المصريين والعرب. ربما كان النُزُل المخصص لإقامة الكتاب فى قرية لافينيى على مقربة من المدينة من أبرز المحافل المستقبلة لهم.

ونظرا لكون الدكتورة فوزية أسعد عضو فى مجلس إدارة المؤسسة التى تدير هذا النُزُل أو القصر الصغير، حرصت على دعوة مجموعة متميزة من الكتاب والنقاد المصريين، ما ساهم فى إضفاء مزيد من الحيوية على هذا المناخ الثقافى النشط أصلا.


وأذكر ندوة نظمتها الجمعية الثقافية المصرية تحدث فيها الأستاذ بهاء وعلق على رؤيته للتيارات الجديدة – آنذاك – فى الأدب المصرى، وأشار فى الحديث إلى مشهد من روايتى الأولى يجلس فيه البطل إلى العشاء مع جده الذى رحل قبل مولده، باعتبار المشهد نموذجا للتوظيف الحديث لعنصر الزمن، والحقيقة إنى لم أكن أتصور أن المشهد يستحق التوقف عنده، ولم أتوقع أن يقرأ الأستاذ بهاء روايتى بهذا القدر من التدقيق أصلا. 


وردا على سؤال له فى لقاء لاحق أوضحت أننى أقوم بعملية البحث التاريخى المطلوبة استعدادا لكتابة رواية تتناول الرحلة التى قام بها أحمد حسنين باشا مع المستكشفة الإنجليزية روزيتا فوربز إلى واحة الكفرة فى الصحراء الليبية، فذكر أنه منذ قصة «أنا الملك جئت» شغوف بكتابة رواية من أدب الصحراء، وأنه يفكر فى الإقدام على عمل جديد فى ذاك الإطار، وهكذا أضيف إلى حواراتنا موضوع أدب الصحراء وتأملات كل منا حول رحلة اكتشاف الذات وعلاقتها الوثيقة بمسألة الهوية.


ومع هذا لم يتناول الأستاذ بهاء طاهر الصحراء فى الرواية التى بدأها فى تلك الفترة، وإن لم يستطع أن يتجنب مسألة الشفافية التى وهبها البعض منا ورحلتنا للكشف الذاتى فرديا وجماعيا، فدمجها فى إطار النقد الاجتماعى اللاذع للتحولات التى بدأت فى السبعينيات وأخذت المصريين فى سباق محموم وراء المادة، وأن توازن مجتمعنا وتماسكه لا يحفظه غير «نقطة النور» المتمثلة فى تلك القيم الإنسانية التى أغفلها الكثيرون منا.


وعندما صدرت الرواية عام 2001، أبهرنى تناول الأديب الكبير للأفكار التى شغلت باله والتى عبر عنها فى أحاديثنا المتفرقة، وكيف نسج منها حكاية متعددة المستويات غزيرة الأبعاد، وأثار انتباهى – بنفس القدر – أنه لم يكتب رواية الصحراء التى راودته، فاستنتجت – قياسا على نفسى – أن رواية الصحراء لم تختمر بعد.

وهى خاصية أقدرها كثيرا فى بهاء طاهر كأديب، فهو لا يسارع للإنتهاء من العمل ونشره، بل يترك العمل ليتبلور فى عقله وخياله ووجدانه، ولا يهتم بعدد الأعمال التى يصدرها بقدر حرصه على جودتها.


وأذكر هنا أن الأستاذ جميل عطية إبراهيم أصدر خلال تلك الفترة عملين مهمين، هما «خزانة الكلام» و«المسألة الهمجية»، وهما روايتان معبأتان بكثير من الشواغل التى تداولناها ثلاثتنا فى أحاديثنا حول النظام العالمى الذى أخذ يتبلور فى تلك المرحلة، وكنا نتابع تفاصيله من خلال عمل أجهزة الأمم المتحدة.

ووكالاتها المتخصصة فى جنيف، بينما أصدرت الدكتورة فوزية أسعد كتابها المهم عن الملكة حتشبسوت والذى تناول مسألة الهوية من زاوية أخرى، وأذكر كذلك روايتى التى كتبتها فى جنيف، والتى لم تتناول أيضا الرحلة الصحراوية، بل النقد الاجتماعى ممتزجا برحلة البحث عن الشفافية.


وتساءلت كثيرا عما إذا كان لأدب الخارج – ولا أقول بالضرورة أدب المهجر – خصائص تميزه أو قيمة مضافة يمد بها مسيرة بلادنا الأدبية. فكيف تتلاقى مجموعات المبدعين فى الخارج.. للتغنى بعشقهم المشترك للأدب.. للتفاعل عن بعد مع هموم الوطن، والتعبير عن قرب عن أحلامهم الوطنية والإنسانية المشتركة؟ 
ثم كيف يستوعب كل منا ذات القضية بذات المعطيات فينتج عملا مغايرا تماما لما يبدعه الآخر؟ 
وكيف ينقل جيل للجيل الذى يليه تجاربه الإبداعية.. ليس من حيث فنيات الكتابة أو تعدد معانيها فحسب، وإنما بوصف الكتابة أسلوبا للحياة.. بل الحياة ذاتها؟
وعندما أصدر بهاء طاهر «واحة الغروب» عام 2007– روايةالصحراء التى أخذت وقتها لتختمر فى ذهنه– كنت أقترب من نهاية مهمتى الدبلوماسية التالية فى أستراليا والتى بدأتها عام 2004، وكنت أيضا قد أنهيت المسودة الأولى من رواية الصحراء الخاصة بى والتى مع هذا تطلبت خمسة عشر عاما إضافية لتتخذ شكلها النهائى وتصدر فى 2021.


والآن بعد الرحيل أتذكر صديقى بهاء طاهر الرجل المصرى حتى النخاع، المواطن العالمى المشغول دوما بقضايا الإنسانية،المبدع ذا العقل المشتعل بالفكر والنفس النقية الشفافة، الإنسان الكريم.. وأذكر بوتقة الأفكار التى ساهم فيها مثقفون رائعون: الأستاذ جميل عطية إبراهيم بحسه الأدبى الرفيع، الدكتورة فوزية أسعد برؤيتها الفلسفية ووطنيتها النابضة، السيدة ستيفكا بإدراكها العميق للثقافات المختلفة والقضايا الدولية، ابنتيه دينا ويسر المذهلتين بوعيهما وثقافتهما وعطائهما، السيدة ميرفت رجب الإعلامية والأديبة التى ساهمت برؤيتها فى تشكيل وعى أجيال من مثقفينا، زوجتى ومنتداها المشع فى صمود نادر.


تتلاحق الصور أمامى الآن.. جلسات جمعتنى ببهاء طاهر تضمنت بالضرورة حوارات جادة وهموم مشتركة.. منزل الدكتورة فوزية أسعد بضاحية كولونج بيلريف فى جنيف، حديقة منزلى فى شامبيزى على الجانب المقابل من البحيرة، مطعم أنيق دعانا إليه الأستاذ بهاء والسيدة ستيفكا بالقرب من بحيرة ليمان، المقهى المصرى فى شارع لوزان مكان اللقاء المفضل للأستاذ جميل عطية إبراهيم، مكتبة أوليفييه فى منطقة باكى، قصر لافينيى بين مزارع الكرم على سفح جبال الجورا، تتداخل كلها مع منزل الأستاذ بهاء بحى الزمالك القاهرى، مكتبة الديوان حيث حضر التقينا كثيرا وحضر حفل توقيع واحدة من رواياتى، مقهى زهرة البستان معه والأستاذ جميل فى فترة الفوران الفكرى اللاحقة لثورة 25 يناير، مقهى رباعيات الخيام.


كان مقهى رباعيات الخيام هو المفضل لدى الأستاذ بهاء لقربه من منزله بالزمالك، وهو المقهى ذاته الذى كنت أجلس إليه مع زملائى فى السبعينيات إبان مرحلة التعليم الثانوى، ويقع على ناصية الشارع الذى تسكنه والدتى، واعتدت لسنوات أن أنظر داخل المقهى كلما مررت أمامه فإن وجدت الأستاذ بهاء دخلت لتحيته ولمشاركته فى جلسة تكون ممتعة بالضرورة.

والمدهش أن نظرتى التلقائية داخل المقهى لم تتوقف فى الفترة الأخيرة رغم علمى بأن ظروفه لم تعد تتيح له النزول للمقهى.. وهى عادة لا يمكن أن تتوقف بعد رحيله.. كأن أبحث عن لمحة عالقة من صديقى الكبير أو عبق خاص لعمل من أعماله الأدبية الكبرى.. هكذا الصداقة لا تتلاشى بالانتقال..  وهكذا الإبداع.. يسمو على الزمن ذاته.

اقرأ ايضا| «القومي للترجمة» يناقش أعمال «فوزية أسعد»