محطات في رحلة الملك «تحوت».. مخترع الكتابة وصاحب الحكمة الأولى!

تحوت المصرى أول من نطق بالحكمة
تحوت المصرى أول من نطق بالحكمة

كتب: رشيد غمرى

حكيم مصرى قديم، استعيرت فلسفته على مدار العصور والحضارات. قدسه اليونانيون، وأطلقوا عليه اسم هيرمس مثلث العظمة، وعلى أساس حكمته قامت إنجازات الإسكندرية القديمة. تلقفه العرب، وترجموه، فبعث الروح فى علومهم، ومذاهبهم الصوفية. كان فتيل عصر النهضة الأوروبي، ومنه إلى بلاط إليزابيث الأولى، وسائر أوروبا. ورغم الحرب على أفكاره، ما زال محل اهتمام متجددا، وتصدر سنويا الكتب والدراسات عن حكمته التى لم تنقطع طاقتها الروحية والفكرية. إنه تحوت المصرى أول من نطق بالحكمة.

ووفقا لكتاب اآلهة وإلهات مصر القديمةب لمورجان مورونى الصادر 2020، فقد ذكر القدماء أن تحوت هو مخترع الكتابة، وعلوم الفلك والجغرافيا والطب والسيمياء. وبمرور الوقت تم تقديسه، وتحول إلى كائن إلهي، ورسم على هيئة طائر أبى منجل. كما أسموا الشهر الأول فى التقويم المصرى باسمه: اتوتب. ويقال إنه صاحب كتاب الموتي، أو ما يعرف بـاالخروج إلى النهارب. ورغم وجوده داخل منظومة الدين المصرى القديم فإن تعاليمه تشهد بوحدانية الخالق، وأزليته. ويرجح جشوا مارك فى كتابه اعبادة تحوتب أن تقديسه بدأ فى الوجه البحرى بمصر قبل الميلاد بستة آلاف عام، واستمرت طوال العصر البطلمي، ما يعنى أنه أسبق من كل حكمة أخرى وجدت فى أى مكان.

عرف العالم اتحوتب ومتونه عن طريق اليونانيين. وقد ترجموها، ونسبوها إلى إلههم هيرمس الذى هو نفسه اتحوتب. وصار ملهما لفلاسفتها وعلى رأسهم أفلاطون، وإقليدس وفيثاغورث، ولفنانيها ومفكريها. وفى الإسكندرية القديمة ومع الانفتاح الثقافى والمعرفى، تصدرت الحكمة الأولى اهتمام الباحثين من مختلف البلدان والاتجاهات، وانصب الجهد طوال القرنين الأول والثانى الميلاديين على جمعها وتفسيرها. كما أن مخطوطات نجع حمادى المكتشفة عام ١٩٤٥، وترجع إلى القرن الأول، تؤكد أن المسيحيين الأوائل فى مصر ذوى النزعة الغنوصية، قد حملوا بتبجيل الحكمة البشرية الأولى المنسوبة لتحوت، وضمنوها فى متونهم الدينية الأولى. 

وقد كان لحقبة انفتاح الحضارة الإسلامية الفضل فى حفظ الكثير من التراث الإنسانى القديم، ومنه تعاليم تحوت. وقد تم ترجمتها وتداولها، وأثرت بقوة فى أفكار الكثير من المتصوفة، خصوصا القائلين بوحدة الوجود من أمثال ابن عربى وابن سبعين، وغيرهم. بل يرى البعض تأثر القبالة اليهودية بها.

وتتنوع الحكمة الأولى لتحوت المصرى بين جوانب روحية، ونبوءات، وإشارات عن الحقائق الخفية، وتفسير الوجود. وتربط العلم بالروحانيات، والإلهيات بحركة المادة. وهذا ما جعلها تحتل مكانة مرموقة فى دار الحكمة ببغداد خلال القرن التاسع، وصارت أحد مرتكزات الفلسفة الإسلامية، ذكر الفيلسوف يحيى السهروردى أنها ليست سوى الدين الإلهى الأصلى الذى أنزل على إدريس فى مصر: اأخنوخب عند اليهود. وقد حملها سلسال من الحكماء على مدار التاريخ، حتى وصلت إلى السهروردى عن طريق أستاذه الحلاج. 

كان انفتاح فلورنسا الذى دشن عصر النهضة إشارة كى تستعيد حكمة تحوت مكانتها. ووفقا لكتاب امتون هرمسب فقد تلقفها الفنانون والمفكرون فى طول أوروبا الناهضة وعرضها، من ليوناردو دافنشي، ومايكل أنجلو، ورافاييل، وبوتيتشيللى الذى رسم الزهرة والمريخ فى لحظة فلكية تعتبر رمزا صوفيا مهما. واكان كوزيمو دى ميديتشيب أحد باعثى عصر النهضة قد أرسل للبحث عما تبقى من تلك الحكمة فى كل مكان، وأمر بترجمتها، واحتفى بها بوصفها الحكمة البشرية الأولى التى جاءت على يد المصريين القدماء. وبفضلها كون اريوكلينب أبو الإصلاح الكنسي، ومعلم امارتن لوثرب أفكاره التى بثها إلى تلاميذه، والذين غيروا وجه أوروبا. وحتى شكسبير، وتوماس مور، ووليام بليك، ووكوبرينيكوس، دانوا بالفضل لها، وكان نيوتن مهتما بالسيمياء، ويؤمن بأن أصلها عند تحوت المصري. والفلكى الشهير كيبلر نشر مقتطفات من حكمة تحوت ضمن كتابه عن تناسق العالم. والشاعر جون ميلتون احتفى بالحكمة التحوتية فى بعض قصائده.

تراوح وضع الحكمة الأولى بين الظهور والخفوت، حيث كان حاملوها يتعرضون للمطاردة فى عصور الظلام، فيهربون، ويتخفون، حتى تتاح لها الفرصة من جديد. حدث ذلك بعد حقبة ازدهارها فى الإسكندرية عندما طاردتها الإمبراطورية الرومانية المسيحية. وحدث فى نهاية الحقبة الذهبية للحضارة الإسلامية، عندما بدأ الانغلاق الفكري. وحتى فى عصر النهضة عندما تلقفتها فلورانسا، ثم انقض عليها ملك فرنسا، لخوفه من تأثيرها التنويري. كما شنت الحرب عليها فى أوروبا بسبب الخوف من تأثيرها.

رغم كل ما هو سائد عن وثنية وتعدد آلهة الديانة المصرية القديمة، فإن الحكمة الأولى تبدو سماوية الطابع، وتتحدث عن إله واحد فوق كل الكائنات المقدسة والإلهية، وتصفه بالعقل الأكبر، والذى بوعيه غير المتناهي، يحيط بكل ما كان وما سيكون. 

ومازالت حكمة تحوت موضع دراسة، وتصدر الكتب سنويا عنها.

أقرأ أيضأ : قصواء الخلالي: تعاليم بتاح حتب تعتبر أقدم مصدر للأدب العالمي