إسراء النمر تكتب .. جدل سكندرى: أين يكمن الفن فى المساحة الفنية؟

من مشروع «إنى أرانى»
من مشروع «إنى أرانى»

طور الفنانون المشاركون فى معرض«عتبات» أفكارًا تنطلق من النظرى للمحسوس، من التساؤلات لمحاولات طرح حلول محتملة

رسخ برنامج «الكتابة والترجمة» أساليب تعبيرية جديدة يمكن أن يستفيد منها الشباب فى التعرف على ذواتهم مثل التاريخ الشفهى والإثنوغرافيا

شهدت مدينة الإسكندرية الأسبوع الماضى فعاليات ختام برنامج بِهنا الدراسى (الجزء الأول)، الذى أطلقته «وكالة بِهنا» المعنية بالسينما والفنون المعاصرة والتعليم البديل، بالتعاون مع مؤسسة دروسوس، إذ قدمت خلال عامى 2021-2022 أربعة برامج فنية وثقافية: برنامج للموسيقى وآخر للسينما وآخر للفنون البصرية وأخيرًا للكتابة والترجمة. تعمل هذه البرامج على تطوير المواهب الفنية للمشاركين فيها، ممن يرغبون فى استدامة الثقافة والفنون بمدينتهم فى مواجهة فقر الحياة المدينة الحالية.


ففى الفترة الماضية انتشرت البرامج التعليمية الفنية والثقافية فى مؤسسات ثقافية مختلفة،بعدما تراجعت مستويات التعليم فىبعض المؤسسات التعليمية والجامعات والمعاهد، من هنا جاء حرص وكالة بهنا، التى تديرها الشاعرة والكاتبة أميمة عبد الشافى، على أن تمد يدها للشباب بهذا البرنامج الدراسى، الذى يقوم على تبادل الأدوار بين العمل والتلقى: فأنت لست قارئًا ولا مستمعًا ولا متفرجًا طوال الوقت، بل أيضًا كاتب ومتحدث ومؤد فى أحيان أخرى، ومن ثم تشعر بإسهامك فى المجال الفنى والثقافى.


وقد تم اختتام كل من برنامج الفنون البصرية، بمعرض «عتبات» فى مقر الوكالة فى «المنشية»، وهو معرض جماعى لخريجى برنامج الفنون البصرية، وبرنامج الكتابة والترجمة، حيث تم إطلاق (كراسات بِهنا) فى بلاتوه بهنا فى شارع فؤاد.

عتبات

بالنسبة للمعرض، فقد ضم أعمالاً بصرية لعشرة فنانين، هم: إبراهيم خالد وأحمد برهام وبانسيه عاطف مهران وروان الديب وزياد فايد وسارة يونس وعبد الرحمن حسين وعزة عزت ومحمود يوسف ووفاء سمير. تطمح الأعمال إلى تخطى مفهوم المساحة الفنية المتبنى لتوتر الثنائيات التقليدية: بين الفن الحديث المحموم بالمستقبل -عبر هوية متخيلة نستقيها من قطع الماضى المختلفة-، والفن المعاصر القائم على تأييد الحاضر -عبر النهايات المفتوحة لعروض الهويات والثقافات والذاتيات المتعددة- كأنه هامش لمتن التدفقات البصرية اليومية لوسائل التواصل الاجتماعى.

 


وقالت الفنانة التشكيلية دينا أبو الفتوح، المشرفة على برنامج الفنون البصرية، إن «المعرض محاولة للوصول لمفهوم يتجاوز ثنائيات المحلى والعالمى، الكونى والخصوصى، والعلمى والفنى. فعلى مدار عام، طور الفنانون المشاركون أفكارًا تنطلق من الخاص لما قد يكون عابرًا للفرديات، من النظرى للمحسوس، من التساؤلات لمحاولات طرح حلول محتملة؛ ولو كانت مؤقتة وتخيلات جمالية لمساءلة الآنى والمُهيمن فى الأزمات الدائمة لحياتنا المشتركة».


وأضافت: «انطلاقًا من الافتراض الذى يرى أن المساحة الفنية مهما كانت نقدية هى ركن ركين من العملية الاقتصادية التى تحكم العالم، وليست ستارًا رمزيًا لها، أصبحت تلك المساحة هى الآمن الذى يطمح الإنتاج الفنى والمعرفى أن يصل إليه. وأصبح علينا التفكر فيما يمكننا فعله كشخوص متحركة داخل هذه المساحة».


ومن الأعمال البصرية اللافتة فى المعرض، مشروع «تداعى الجسد» لوفاء سمير، والذى يستكشف الألم كلغة تواصل بين الجسد وصاحبه، ويفكر فى الجسد كأرشيف لمحيطه النفسى والبيئى. يتتبع المشروع كيف يمكن لأشياء تمر بها بشكل يومى مثل التوتر والضغط النفسى أن تؤدى إلى آلام وأمراض جسدية مزمنة من خلال اتخاذ أمراض المناعة الذاتية موضوعًا للبحث.

كما يسعى المشروع إلى ترجمة الجوانب الحسية والنفسية للألم بشكل تجريبى لإعطاء صورة أوضح لما هو غير مرئى، كما يتأمل ممارسات التعايش مع مرض مزمن ومحاولات إصلاح أجسادنا حتى وإن كنا نعرف أنها غير قابلة للإصلاح.


وأيضًا مشروع «إنى أرانى» لسارة يونس، والذى يسلط الضوء على تجربة شخصية مع شلل الوجه النصفى المعروف بـ «شلل بيل». يدعو هذا المشروع للنقاش حول تعريفات الجسد ومدى تأثير سياسات الجمال التى تجعل من وجهنا عبئًا علينا.

ويستخدم المشروع الفوتوغرافيا للتشكيك فى مدى حياديتها كوسيط، هل حقًا من الممكن أن نتعرف على ملامحنا من خلال الصورة؟ فى محاولة لإعادة التفكير فى فعل النظر نفسه، هل هو فعل حر تمامًا أم خاضع للعديد من المؤثرات الواعية وغير الواعية أحيانًا؟

كراسات بِهنا

أما «كراسات بِهنا» فهى ثلاث مطبوعات، تحمل العناوين الآتية: «الجدال السكندرى، وأرشيف الكوزموبوليتانية، ومرايا المدينة». وتضم هذه الكراسات المشاريع التى تم انتاجها ضمن برنامج الكتابة والترجمة، الذى أشرف عليه كل من الشاعر والمترجم عبد الرحيم يوسف والمترجم حسين الحاج، وقد حرص البرنامج على استكشاف جيل جديد مـن الكُتّاب والباحثين والمترجمين، على مدار عام كامل، انقسم إلى أربعةمراحل: تأسيسية وبحثية وإنتاجية وتحريرية.


ضمت المرحلة التأسيسية فى البرنامج عشرة لقاءات تنوعت بين المحاضرات وجلسات المناقشة حول التاريخ والإثنوغرافيا والعمارة والدراسات الثقافية والأدب والترجمة، وفى المرحلة البحثية انقسمت رحلة البرنامج إلى قسمين: الأول متمثل فى مسارات التاريخ الوثائقى والتاريخ الشفوى والإثنوغرافيا والترجمة، وتمثل القسم الثانى فى ورشتى الكتابة والترجمة، وفى المرحلة الإنتاجية عمل المشاركون على تأليف وترجمة المشروعات الخاصة بهم.


ويرى القائمان على المشروع أنه تم ترسيخ ــ فى هذا البرنامج ــ أساليب تعبيرية جديدة يمكن أن يستفيد منها الشباب فى التعرف على ذواتهم مثل التاريخ الشفهى والإثنوغرافيا. «فلم تكن هذه المناهج البحثية مألوفة فى الأوساط الثقافية من قبل كوسيلة للتعبير عن الذات.

ونرى أن تعميمها يمكن أن يرفع الشعور بالمشاركة الحقيقية فى الإنتاج الثقافى. كما أننا شجعنا تجربة الترجمة إلى العامية المصرية من خلال ترجمة مقال خالد فهمى (نحو تاريخ اجتماعى للإسكندرية الحديثة)، لأننا أردنا إعادة سرد تاريخنا الشعبى بلساننا العامى من أجل بث الألفة بيننا وبينه، فهذا التاريخ حق لنا».


وأهم ما يميز كراسات بِهنا هو العمل الجماعى، فالعلاقات بين المشاركين توطدت للحد الذى صاروا فيه قادرين على التعاون معًا فى إنتاج الترجمات الجماعية، التى ركزت على الجدالات حول المدينة وهويتها من زوايا مختلفة: ثقافية (هالة حليم)، أدبية وفنية (ديبورا ستار)، إثنوغرافية (ألكسندرا شندلر)، وتاريخية (ويل هانلى وخالد فهمى). كذلك قدمت بعض الكتابات بعدًا إضافيًا عن رؤية المشاركين لمدينة الإسكندرية فى ماضيها وحاضرها، وفى تجلياتها الثقافية والحياتية.

مرايا الإسكندرية 

بدت هذه الكتابات وكأنها مرايا مختلفة الأبعاد لملامح من مدينة الإسكندرية، فيصطحبنا المعمارى والأكاديمى أحمد برهام -ابن القاهرة- فى جولة قراءته وتعرُّفه على الإسكندرية عبر عدة كتب من ناحية.

وعبر جولاته الخاصة لمناطق مختلفة فى الإسكندرية، سواء كان قد اكتشفها وحده أو مع أصدقائه، أو بفضل الكتب التى تحولت إلى أدلة وخرائط وبوصلة يرسم بهاخريطته الشخصية للإسكندرية.


وتأخذنا بسمة جاهين، معلمة اللغة الإنجليزية، فى ثلاث جولات ممتعة: الأولى نستكشف فيها معها عالم رياضة الكيك بوكس بالنسبة للفتيات وصالات التدريب وقواعد ومخاطر اللعبة، فى استبطان ذاتى يصل إلى حد الشاعرية أحيانًا لجوانب هذه الرياضة العنيفة.

ودوافع الكاتبة لاختيارها ومغامراتها فى عوالمها، أما الجولة الثانية فهى رحلة بحثية شائقة عن كاتبة سكندرية أصدرت ثلاث مجموعات قصصية فى الستينيات وهى دون التاسعة عشرة، وهى الكاتبة مواهب صدقى ربيع،الـتى لا نعرف عنها شيئًا. الجولة الثالثة: (تلابيب الرصافة) سرد متـواز بين عالمين: الرصافة/ محرم بـك حاليًا حيث تعيش بسمة، والرصافة/محرم بك حيث كانت تعيش الكاتبة الشهيرة صافى ناز كاظم، حيث تحاول بسمة رصـد تحولاتهـا مثلمـا رصدت تحـولات المكان، وتوازى بين رؤية صافى ناز كاظم للكتابة ورؤيتها هى شخصيًا لها.


وفى رحلة أخرى نذهب مع الكاتب والمترجم عمر شاهين لمطالعة خريطة أخرى للمدينة رسمتها روائحها، وكانت بوصلته فيها أنفه وذكرياته وقراءاته الواسعة لكتب ومقاطع مـن روايات تعاملت مع تجليات الروائح فى هذه المدينة ومفهـوم الرائحة بشكل عام، فى عصر أنهك حواس الإنسان وجعله يكاد أن يفقدها. 


وعبر مزيج من التجربة الشخصية والتأريخ الشفهى تحاول طبيبة الأسنان والقاصة منة الله عبد المنعـم التأريخ لتجربة ندوة وجماعة أصيل الأدبية التى بدأت فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى وانتهت فى عام 2007.

والتى شكلت جانبًا مهمًا من جوانب المشهد الأدبى والثقافى للإسكندرية طوال هذه الفترة، مـن خلال لقاءات موسعة مع عدد كبير من الأدباء والكتاب الذين أسسوها أو حضروا جانبًا كبيرًا منها، اعتمادًا على ذاكرتهم وحكاياتهم.

وعلى ما توافر من إصدارات وتدوينات، مع وجـود خط شخصى تحكى فيه منة تجربتها مع ورش الكتابة التى تلاقت بالصدفة مع ورش وأنشطة نظمها بعض من هؤلاء الأدباء أنفسهم.


أما ميرنا محمود فتأخذنا فى رحلات حقيقة -حتى وإن كانت مهمشة- مستقلين أتوبيس النقل العام من محطة مصر التى تنظر لها كمركز مثالى للإسكندرية إلى العجمى حيث تسكن، وفى هذه الرحلات ترصد بعين محللة ومتعاطفة وضجرة تفاصيل الناس والأحوال والعلاقة بمدينة الإسكندرية من زاوية مختلفة.


وفى المقال الأخير، والأكبر، الذى اُستعير منه عنوان كراسة «مرايا المدينة»، للباحثة يسر الشعراوى وعمر شـاهـين، نجد أنفسنا فى رحلة موسعة لتتبع تحولات الإسكندرية فى مرآتها ومرايا عـدد كبير من الكُتّاب والكاتبات،حيث تناول الكاتبان جوانب كثيرة كالكوزموبوليتانية والشعور السكندرى الجريح بالتميز والاختلاف والنوستالجيا -التى يرى الكاتبان أنها قد تكون وليدة عجز والتصاق مريض بماض لـم يكن ورديًا بالضرورة، لكنها شعور لا مناص منه لأسباب عديدة.

وتخلص المقالة إلى أن فهـم هذه التحولات بقراءة سياقها السياسى والاقتصادى والثقافى هـو السبيل للتعامـل مـع وطأة وورطة الأزمة السكندرية، بعيدًا عن النزعة الطللية البائسة أو النزعة العملية البليدة. يحـاور هـذا المقال إلى حد كبير كثيرًا مماجاء فى كراستى الترجمة ويشكل جسرًا ورابطًا قويًا معهما.


وأخيرًا تتطلع وكالة بهنا فى النسخة الثانية من البرنامج التى تستعد لها هذه الفترة، إلى الخروج من قلب المدينة وأساطيرها الكوزموبوليتانية المتقدمة من أجل رسم خريطة أدبية لجسد الإسكندرية بأكمله. كما تأمل فى توسيع التجربة التعليمية كى تضم أبعادًا أكثر تزيد من إتساع رؤيتنا للإسكندرية ثقافيًا وفنيًا.

اقرأ ايضا | أنيسة عبود تكتب: قصائد