المسرح.. صناعة لبنانية لهذه الأسباب

المسرح اللبناني
المسرح اللبناني

محمد عزالدين 

من لبنان انطلقت أول شرارة للمسرح العربي الحديث، فالمسرح صناعة لبنانية بإمتياز، ليس فقط لأن البداية كانت مع مارون النقاش الذي قام بترجمة واقتباس وإخراج مسرحية البخيل وعرضها في حديقة منزله عام 1874، لتكون أول عرض مسرحي عربي مؤرخ حتى الآن، لكن أيضا لأن المسرح المصري الذي أصبح أكثر تنوعا لاحقا تأسس على يد مهاجرين من لبنان أيضا.. 

رغم البداية المسرحية المبشرة في لبنان، لكن المسرح سرعان ما تعرض لسلسلة من الأزمات الاقتصادية عندما كانت تحت حكم الدولة العثمانية، الأمر الذي دفع الكتاب المسرحيين للاتجاه إلى مصر مع بداية القرن العشرين، لتوافر ظروف مختلفة اجتماعياً وسياسياً وثقافياً خلال فترة حكم الخديوي عباس حلمي الثاني، وشاركوا نظرائهم المصريين في الإسكندرية والقاهرة في تأسيس الحركة المسرحية العربية، حيث جاء سليم النقاش إلى مصر هو ويوسف الخياط بالإضافة إلى سليمان القرداحي وإسكندر فرح الذين قاموا بتكوين الفرق المسرحية، ومن خلالها قاموا بتقديم عروض متنوعة بالقاهرة، وجاء من لبنان إليهم فرح أنطون الذي كان يعمل كناقد ومسرحي، كما قام الخديوى عباس بإرسال جورج أبيض اللبناني إلى فرنسا حتى يتمكن من التعلم ونقل الفن المسرحي إلى مصر، فكان أبيض أول ممثل عربي يتلقى فنون التمثيل بشكل علمي على أيدي الفنان الفرنسي الكبير، هو سليفان.

تكوين الفرق

ورغم معاناة المسرح اللبناني على مدار عقود طويلة نظرا للتوترات السياسية أحياناً والاقتصادية أحيان أخرى، إلا أن للمبادرات الفردية وإرادة رواده الدور الأبرز في استمراره ونهوضه ورفضه الإندثار والزوال، فقد انقسم الفن المسرحي إلى عدة فرق بمنتصف القرن العشرين، مثل “جمعية إحياء التمثيل العربي”، وأيضاً “فرقة التمثيل العربي”، بالإضافة إلى “جمعية إحياء التمثيل الوطني” و”الاتحاد المسرحي اللبناني”، وغيرها من الفرق.. كذلك ازداد عدد المسارح ببيروت، مثل مسرح “زهرة سوريا”، بالإضافة إلى مسرح “الباريزيانا” و”الشيدوفر”، و”الكورسال” و”كريستال”، وأخيراً “التريانون”، وقد أخذ النص المسرحي حينذاك شكل النص الأدبي الذي اعتاد تأليفه باللغة العربية الفصحى بواسطة الشعراء والكتاب، مثل بطرس البستاني وإبراهيم اليازجي، وظهر عدد من النساء في ذلك الوقت فى مجال التأليف المسرحي، أمثال حبيبة شعبان يكن وحنة خوري شاهين، بالإضافة إلى إسكندر رزق وألكسندرة الخوري، وانتشر بلبنان في ذلك الوقت المسرحية الشعرية عند سعيد عقل وبشر فارس، بالإضافة إلى يوسف الخال وفوزي معلوف ويوسف غصوب، بالإضافة إلى إلياس أبوشبكة، وفي عام 1969 قامت فرقة “المسرح الحديث” بتقديم مجموعة من العروض الهامة، منها “أمسية من المسرح الإغريقي” و”ماكبث” و”الذباب” و”هاملت”، وبعد ذلك تم عمل تجربة حلقة المسرح اللبناني التي قام أنطوان ملتقي بتأسيسها عام 1963 بعد خلافة الفني مع أبو دبس.

مسرح الرحبانية

صنع الأخوين عاصى ومنصور رحبانى صنعا مسرحاً خاصاً ممزوجاً بالتاريخ ومعطراً بالفولكلور الشعبى والتراث والحداثة انتشرت أصداؤه لبنان والعالم العربى، وقدمت مدرسة أخرجت فنانين طليعيين ما زالوا يحملون راية الرحبانية.

فجاء إنطلاق النشاط المسرحي الرحباني عام 1957 مع استعراض “أيام الحصاد” الذي أطلق شرارة الإبداع الرحباني، فاشتعلت أنوار مهرجانات “بعلبك الدولية”، وأضاءت على أعمال المسرح التي توالت بعد ذلك، وتطورت شكلاً ومضموناً فتحولت من الاستعراض الغنائي الخجول مسرحياً إلى العرض المسرحي الشامل والمتميّز، مروراً بمراحل الاختبار والتطوير على صعيد الكتابة والحوار والحبكة والتمثيل والطرح والإخراج، إلى أن وصل المسرح الرحباني إلى أرفع مستوياته، وما أسهم بقوة في ارتقاء التجربة الرحبانية على سلّم الإبداع، وجود السيدة فيروز التي غنّت أشعار الأخوين عاصي ومنصور، لكن الأخوين رحباني كانا يدركان أن مساحته الحقيقية هي خشبة المسرح، واستطاع المسرح الرحباني أن يشكّل مرآة تعكس صورة الإبداع الفني اللبناني إلى العالم، بنجاح وثبات وتطوّر لم تشهد الحركات والمشاريع الفنية اللبنانية خلال نصف قرن مثيلاً له.

قامات مسرحية

أخرج لنا المسرح اللبناني قامات مسرحية عديدة، حيث بدأ في التطور والتقدم على أيدي المخرج اللبناني الفرنسي منير أبو دبس، وبعد أن قام بتوقيع اتفاقية بينه وبين التليفزيون الفرنسي، حتى يقوم بعمل تليفزيون في لبنان، وعاد إلى لبنان مرة أخرى. وكان أبو دبس قد اتخذ قرار للعمل على المسرح التليفزيون اللبناني مع عدد من أصدقائه، ومن أشهرهم أنطوان ملتقي، وكانوا قد عرضوا عدد من المسرحيات على التليفزيون.

ويعتبر أبو دبس هو مؤسس مدرسة “المسرح الحديث” بلبنان، حيث حصل على دراسته في فرنسا من سنة 1952 حتى 1960 بالأكاديمية الوطنية للفنون، وبالإضافة إلى مسرح “الكونسير فانوار الوطني”، وكذلك جامعة “السوربون”، ويعد أبو دبس عضو من أعضاء فرقة “المسرح الإغريقي للسوربون”، وقام بتأسيس مدرسة “المسرح الحديث” سنة 1960، وهذه المدرسة كانت أول مدرسة مسرحية بلبنان، ثم تم تعيينه كمدير فني بمهرجانات “بعلبك الدولي” من 1960 وحتى 1970، وقام بتأسيس “مسرح الاختبار” ببيروت عام 1970، وأسس أيضا مهرجان “الفريكة” في الفترة من 1997 وحتى 2013، كما قدم مجموعة من الأعمال الفنية الضخمة، منها مسرحية “أنتيغون” سنة 1960، “ماكبث” سنة 1962، “الذباب” سنة 1963، “الملك يموت” سنة 1965، “ملوك تيبا” سنة 1966، “العم فانيا” سنة 2004، “طلب زواج” سنة 2012.

وهناك أيضا 5 نماذج آخرين يمثلون عدة فترات مختلفة للمسرح، أولهم ريمون جبارة الملقب بـ”صانع الأحلام”، الذي يتميز بسخريته اللاذعة، ولد في قرية شهوان عام 1935، ودرس بمعهد الفنون، وترأس مجلس إدارة التليفزيون سابقاً، ومن أهم أعماله “أنتيغونا” عام 1960 مع منير أبو دبس، “جريمة وعقاب” عام 1962 مع منير أبو دبس أيضا، “شكسبير” مع أنطوان ملتقي، “وصية كلب” مع لطيفة ملتقي، “لعبة الختيار” و”الزنزلخت” مع برج فازليان عام 1970. 

كذلك نضال الأشقر التي قالت “المدينة بلا مسرح.. فراغ”، وهي فنانة مسرحية لبنانية لعبت في الستينات والسبعينات دوراً أساسياً في تحريك الفن المسرحي اللبناني والعربي، محاولة تحديثه وتجديد تعابيره ولغته وأدواته، وقد أسست مع مجموعة من الفنانين اللبنانيين “محترف بيروت للمسرح”، ومع فنانين عرب أسست فرقة “الممثلون العرب” التي طافت بعروضها مختلف البلاد العربية والأوروبية، وكرست حياتها لمسرح المدينة الذي أطلقته عام 1996.

هناك أيضا روجيه عساف الذي قال: “المسرح فنّ حيّ”، وهو مخرج وممثل مسرحي لبناني، من رواد المسرح الطليعي العربي الواقعي، الذي لا يخاف الغوص في مختلف أساليب التجريب والتعبير المسرحي، وحصد عدة جوائز منها: جائزة “الأسد الذهبي” في “بينالي فينيسيا” للمسرح لعام 2008 عن مجمل مسيرته المسرحية، وهو يعتبر من الفنانين الذين يشددون على ضرورة التواصل بين الفنانين العرب بشكل عام، على الرغم من التجزئة والحدود الملعونة، معتبراً أن النشاط المسرحي قد يكون تجربة لنجسّد أحلامنا للمجتمع اللبناني، وهو دائم العودة إلى المسرح اليوناني ومسرح شكسبير.

لينا أبيض الملقبة بـ”الجريئة”، مخرجة مسرحية ومعلّمة مسرح في الجامعة اللبنانية، أقامت العديد من المسرحيات على مسرح هذه الجامعة، وأبرز ماقدمته مسرحية “وصفولي الصبر”، التي كسرت “التابو” حول السرطان، فهي جريئة، حرّة وشجاعة، أرادت أن تكون المسرحية مشروع حياة، عبر دعوة النساء إلى التحلّي بالجرأة، والتحرر من الضغوط.

 

 

هناك أيضا جورج خباز الذي يعتبر فخر الفن الراقي، ويمثل الجيل المسرحي الجديد.. وهو ممثل، مؤلف، ملحّن، مخرج ومنتج لبناني، من مواليد 1976، والده هو الممثل اللبناني جورج خبّاز الأب، وقد مثّل في عدة مسرحيات مثل “سهرية”، وأمه هي الممثلة اللبنانية أوديت عطية، قدمت أيضاً عدة مسرحيات، وكذلك خاله غسان عطية، بالإضافة إلى المسلسلات التي مثّل فيها، شارك ابن أخته في بعض الأعمال المسرحية والتلفزيونية، ويعتبر مسرح جورج خباز حاليا من أكثر المسارح اللبنانية شعبية، حيث يقدم عروضاً بشكل متواصل تناسب العائلة، لها أهداف ذكية ولاذعة.

حالة مدهشة

التشابه يبدو كبيرا في المسرح اللبناني بين الأمس واليوم، من حيث الظروف العصيبة التي يمر بها لبنان من انهيارات، واختفاء الكهرباء بشكل شبه كلي، بحيث عم البلاد الظلام، بالإضافة إلى فترة الإنغلاق الطويلة جراء جائحة “كورونا”، والضربة القاصمة مع انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، الذي أدى لخراب العديد من المسارح، وظن البعض أنه لا قيامة للثقافة في بيروت من بعده.

لكن، وكعادة الشعب اللبناني المحب للحياة، أعاد البناء من جديد وبأيدى مثقفيه، فما يحدث حالياً يبدو مدهشاً، من وجود حالة كثافة مسرحية المفاجئة، وإقبال جماهيري كبير ومتزايد، فبسبب كثرة العروض، ينتظر بعض المسرحيين دورهم للسنة المقبلة، ليتمكنوا من العثور على صالة عرض لتقديم أعمالهم، فهناك برنامج “مسرح المدينة” حافل ومليىء بالعروض، ومسرح “مونو” يستمر في تقديم عدد كبير من العروض، ومسرح “شغل بيت” يقدم مسرحية جديدة كل شهر دون انقطاع، وفرقة “زقاق” الماضية في نشاطها، و”مترو المدينة” تحول إلى ما يشبه مؤسسة مسرحية، وهذا ما ننتظره دوما من لبنان، عاصمة الفن والإبداع في بلاد الشام، ومنبع لخروج كبار الفنانين، مهما كانت الظروف والصعاب.

أقرأ أيضأ

 حضور ضعيف لسادس أيام مهرجان الموسيقى العربية