مرام بدران تكتب : ظلال

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

عرفتها، دائما ما كان صوتها مرتفعا، لا تخلو لهجتها من رقى مفتعل، وكلمات إنجليزية فى توجيه الأبناء.
كانت أماً لولدين، تنشد الكمال فى نفسها وفيمن حولها، محجبة، أنيقة لا تخلو تعليقاتها علينا نحن غير المحجبات من السخرية. 


تقول مدعية المزاح: 
ما أسعدكن.. ما أسهل ما تجدن غايتكن فى محلات الملابس أما نحن المحجبات نعانى كى نجد ضالتنا. ولا تفوت فرصة التعليق على الطقس فى الأيام الحارة:
طبعاً أنتن لا تشعرن بحرارة الجو مثلما نشعر فنحن المحجبات لا نستطيع أن نتخفف من الملابس مثلكن. 


كنت دائماً أقابل تعليقاتها بضحكة مصطنعة وغيظ مكتوم ودعوة ربنا يهدينا، ونعانى كلنا سوا لكن بالرغم من هذه الشكوى المغلفة من الحجاب كنت دائماً أراها امرأة فى غاية الأناقة مظهرها ينبئ عن جهد فى الاعتناء به. أذكر تعليق صديقتى الأيرلندية عليها أنها تحب آن ترى تنسيقاتها لمظهرها لأنها ترى فيها مثالاً جميلاً على دمج الحجاب بصيحات الموضة


فى شلتنا لم يكن لها صديقة مقربة كان حضورها لطيفا دون حميمية أو قرب حقيقى. مثال حى لما يجب أن تكونه الزوجة والأم الأربعينية من سكان الكومباوندات، كان زوجها يعمل فى شركة عالمية ويرتاد أولادها مدارس من ثلاثة أحرف. لا تخرج إلى مكان بدون مربية الأطفال رغم تخطى أبنائها العمر الذى يفترض فيه وجود مربية.


كانت المربية هى الإنسان الوحيد الذى رأيت أمانى تتعامل معه بقرب وحميمية للحد الذى أثار فضولى وسألتها مرة:


أرى علاقتك بمربية الأولاد مميزة؟
أجابت بحماس أنها كانت جارة لأهلها، وقد رشحوها لها بعد أن ساءت أحوال زوج الجارة وتراكمت عليه الديون فلم يكن منها إلا أن بدأت بالبحث عن أى وظيفة هى التى لم تعمل فى حياتها ولا تحمل أى مؤهل ييسر لها عملا. حين علمت أمانى بحال جارتهم سألتها على استحياء إن كانت ترغب فى العمل عندها ومساعدتها فى العناية بالأطفال الذين كانوا صغاراً جداً حينها ووافقت طبعاً دون تردد. أضافت بحماس: منذ ذلك الحين أصبحت فرداً من عائلتى لا أستغنى عن صحبتها أينما أذهب.


منذ تلك المحادثة تقاربنا أمانى وأنا بحذر. توالت لقاءاتنا المنفردة بمعزل عن باقى المجموعة. وفى إحدى اللقاءات كنت أتحدث عن علاقتنا بآبائنا وكيف تلقى علاقة الأب بابنته بظلالها على كل نواحى حياتها فيما بعد. كنا نتحدث بينما أدخن أرجيلتى التى اعتادت أمانى الامتعاض منها، دائما ما تذكرنى بمضارها على صحتى ناهيك عن بشرتى تقولها بقلقٍ حقيقى وأتقبل تعليقها كما أتقبله من أمى دون تأفف وبابتسامة محاولة طمأنتها.


 لكن هذه المرة جذبتها منى بحركة مفاجئة وبدأت فى سحب نفسٍ طويل أثارت به قلقى وسألتنى بصوت كأنما تتحدث إلى نفسها 
أى ظلال تلك التى تتحدثين عنها؟ هل أخبرتك يوماً قصتى؟ لم أنطق لم تبد فى حاجة إلى إجابة: 
كنت أكبر إخوتى، طالبة متفوقة أحلم بالالتحاق بكلية الهندسة وقد كان نجحت فى الثانوية العامة لكن مجموعى لم يؤهلنى للالتحاق بجامعة القاهرة أو عين شمس التحقت بجامعة المنصورة وكانت الخطة أن أنهى السنة الدراسية الأولى وأطلب نقلى فى السنة الدراسية.

وقد كان، أنهيت الفصل الدراسى الأول بتفوق وقارب الثانى على الانتهاء بنفس النتيجة وأنا أحصى الأيام حتى عودتى لأهلى ومدينتى دون رجعة وإذا بى أتلقى اتصالاً من أمى فى إحدى الليالى صارخة.

وبصعوبة شديدة فهمت منها المصيبة التى حلت بنا أبى الموظف المرموق الذى يشهد له بالالتزام ورجاحة العقل وقع فى غرام إحدى الموظفات فى قسمه والتى بالطبع تقارب عمرى وتزوجها بالفعل.


تساءلت فى حذر: وماذا حدث بعد ذلك؟
غضبت أمى أشد غضب وخيرته إما نحن وإما هذه الملعونة. صمتت قليلا ثم نظرت إلى بابتسامة مرة: 
اختار الملعونة! وضحكت. 
ترددت فى سؤالها عما حدث بعد ذلك. استكملت أمانى سرد قصتها ولا تزال هذه الابتسامة الساخرة ملتصقة بشفتيها.


اختار أبى الملعونة وخرج من حياتنا وانهارت أمى، وغابت عن عالمنا وأنا نقلت أوراقى بعد نجاحى بتفوق إلى كلية السياحة والفنادق وبدأت بالعمل بجانب دراستى كى أنفق على أسرتى بعد أن هجرنا أبى وانقطعت صلته بنا. 


تحدثيننى عن الظلال أية ظلال أنا لم أر أبى بعد هذا اليوم خرج من حياتنا كأن لم نكن. شردت قليلا ثم عادت فجأة عدلت جلستها وأقامت ظهرها وناولتنى الأرجيلة قائلة بتأفف:
مذاقها سيئ يجب أن تقلعى عنها ستؤذى بشرتك.


تباعدت لقاءاتنا الفردية بعد هذا اليوم. شعرت بشكل ما أنها تتحاشى لقائى منفردة. ثم وبعد عدة أشهر أعلنت أنها ستنتقل للعيش فى إنجلترا لانتقال عمل زوجها هناك. بقيت على اتصال مع مجموعة الأصدقاء. أرسلت إلينا بعد سنتين من الإقامة فى الخارج أنها وعائلتها يخططن لقضاء إجازتهم القادمة فى مصر وأنها تتمنى أن تلتقينا فى يوم واحد كى ترانا جميعاً لضيق وقتها. 


اتفقنا على اليوم والمكان انضممت إلى المجموعة كلنا فى انتظار وصولها وأخيراً ظهرت أمانى مثالية المظهر أنيقة كعادتها، شعرها ينسدل غزيراً طويلاً على كتفيها ضحكت لدهشتنا وقالت لماذا تفاجأتم؟   نعم خلعته.

اقرأ ايضا | رحيق السطور | أسرار «الميليشيات» الوظيفية