علاء خالد يكتب: قصائد

الشاعر علاء خالد
الشاعر علاء خالد

النوم في الفنادق
 

أحب الفنادق لأني أفقد فيها هويتي.. أنسى اتجاه بوصلة النوم المعتادة في الليل، والاسم الذي تتقلده روحي عند النوم، وأنادى فيها على الأغراب. أنام على سرير نام عليه المئات، أطفو فوق أرشيف كامل من صور النوم المختلفة. تتغير وظيفتى من نائم إلى متتبع لأرشيف النوم. ربما مات عليه أحدهم، أو عاشر صديقته على عجل لأنه مسافر.

وربما سحب منه رغبة، أو أنشأ فيه حزنا، وربما هجرته، أو اتخذ شكل الجنين ورغب فى أن يبتلعه للأبد، أو ربما خاصم أحدهم فيه النوم، أو النجاة، فظل مستيقظا ينتظر طلوع الصباح ليفر من مقبرة الذكرى هذه. أكشف هذه التواريخ التى تتبع هويتى الأخرى، فى نوم سابق على ميلادى.

وربما جئت الحياة لاحترف النوم فى الفنادق، للدخول فى هذه الهوية الأخرى نائما، لأضع غشاء رقيقا على هذه الذكريات.  تلك الذاكرة المؤقتة التى تمتد ليوم أو ليومين، أو لأسبوع، الذاكرة المقطوعة، كثمرة، عن شجرة النوم الأصلي، الناتئة عن ساق سرير الطفولة، التراب المخبأ تحت هذا النعش الخشبى الأبيض، الذى احترفتُ الحياة بداخله، وجبة الموت المرتجلة المخلوطة بالتراب والنوم ولعبة المكعبات. أنثر الرمال فى فضاء الموت الأبيض،  دوامة من الرمل فى صحراء بها بندول لإحصاء الوقت، أو اتجاه الرغبة فى الحياة. من هناك، من نوم الطفولة، كان جسدى يبحث عن حماية لايوفرها له السرير، عن ذاكرة جوفية. ربما من هناك بدأت سيرة الهوية المفقودة.


المكتبة
فجأة انهارت المكتبة الجديدة التى صنعت لها رفوفا من الزجاج الثخين كى تتحمل ثقل هذه السنوات التى قضيتها فى حب الروايات واستعبادها لى. لم تضم فقط تاريخ محبتى الشخصية للكتب، بل محبة أبى أيضا، بعد أن أدمجت، بعد وفاته، مكتبته الخشبية السوداء، التى تحوى تاريخا آخر من الدراما الإغريقية؛ داخل مكتبتى.  ورثت حب المأساة عن أبى، وبطله الذى لا يبحث أصلا عن الانتصار، وخلطتها بحبى للبطل الذى يبحث عن الانتصار. ربما لم تتحمل المكتبة الجديدة ثقل تاريخين مهزومين، أو صراعا بين بطلين مزيفين، فانفرط عقدها، وساحت خيوط الدماء فوق قطع الزجاج الصغيرة.


كانت صورة المكتبة، وهى تتحطم، قريبة من لحظة انهيار عدة أجيال اتخذت شكل جبل الجليد: مكتبتى ورواياتى كانت تشكل قمة هذا الجبل، أما مكتبة أبى فقد كانت قاعدته اللامرئية، التى لم ترها السفينة المبحرة، نقطة الضعف التى تنكسر عندها أى إرادة، والتى لم يضعها عامل الزجاج فى حسبانه وهو يركب الرفوف.


كان مشهد الكتب المرشوقة فى جنباتها بقطع الزجاج المدببة يأخذ مجازات عديدة: كأثر لمعركة عبرت بين المادة والفكر، أو كتاريخ مقلوب على ظهره، أو كحبل مشنقة فارغ يهتز فى الهواء، أو كجثة شاخصة تطفو داخل بحيرة من الكلمات واللغات، والديانات المنسية.


ذكريات فى شارع  سينما لاجيتيه
فى شارع سينما لاجيتيه، حيث استودعت قلبى إحدى خزانات السينما المظلمة، والتى تحولت إلى مول تجارى وجراج للعربات. حيث الزحام له معنى، والتلامس جزء من شريعة الحركة. حيث محل المصوراتى اليوناني، والذى كان لعقد قريب يعلق فى فاترينة صغيرة، تطل على الشارع، استمرت لسنوات بعد وفاته.

ولها إطار من خشب الحداد؛ أيقونات منسية لوجوه من زمن الستينيات. حيث الفتاة اليونانية عارمة الجمال التى كانت تعمل فى محل الملابس ومن أجلها كانت تقف صفوف من الرجال الأشداء يقشرون أناملهم ندما، وتكتسى المرارة حلوقهم. حيث بيت جدة صديقى، وزميلى فى الدراسة الجامعية، ذى الأصول الأرمينية.

 حيث كنا نذاكر ونحلم ونهرب فى هذا البيت الهادىء ذى اللون البنى، حيث يوجد شق  فى جداره تظهر من خلفه جبال أرمينيا وموسيقاها وتراتيلها وقديسوها. كانت جدته تصنع لنا شطائر ساخنة من الجبن الرومى، مع أكواب الشاى. وربما يفتح صديقى الدولاب الكبير لنشرب بعضا من دم المسيح، بعد أن تعتق وأصبح مستساغا، بعد أن زالت منه مرارة الذنب، بينما جدته فى الغرفة الأخرى توجه بصرها لنور المسلسلات العربية فى أحد تليفزيونات الأبيض والأسود.

فى شارع سينما لاجيتيه، حيث مررت قريبا معها، وانفجرت كل هذه الذكريات مرة واحدة كأنها تجتاز، بإصرار، كل الموانع الطبيعية، وتتخطى زمنها بسرعة تفوق بمراحل قدرتى على العودة إليها أو مقابلتها فى منتصف الطريق. حيث غطت المياه كل كلماتى ولم تنجُ واحدة، ولم يتبق إلا العناق.


الضلع الناقص
هذا المنحنى الذى أعبره/ بذرة المدينة الحديثة/ انفراج يد رسام محترف على صفحة بيضاء/ مقطع من دائرة لن تكتمل إلا إذا سافرت لبلاد أخرى/ أو سافرت فى مكانك بهمة المكتشفين الأوائل وحرارة قلوبهم/ هذا المنحنى المطمئن/ رمز لطرق الحقيقة الملتفة والمتقطعة واللانهائية/ من السلسلة حتى قلعة قايتباى/ مئات الصيادين/ مئات الصنانير الزاحفة بين الصخور/ مئات القطط التى تتغذى على حاسة الكبرياء/ على تلك الأسماك الصغيرة المهجورة، والتى لاتليق بعودة مظفَّرة لصياد محترف/ مئات الأقدام المدلاة فى هواء حرم البحر/ تُبطِّن هذا المنحنى.

مع طحالب الصخور الخصراء، بهزات عصبية متتالية/ لانتظارات ومتع معلقة/ هذا المنحنى الذى تضع فيه الشمس بيضتها البحرية كل صباح/ فى مجرى المياه، أو على الرمال المنداة/ البيضة التى يقتسم نورها الآلاف/ هؤلاء الزاحفون من متاهة الحوارى الخلفية، من بيوتهم الخشبية، التى تشبه بيوت الأطفال؛ باتجاه هذا الشريان الأمومى المفتوح/ تلك الوسادة التى يرتاح عليها القمر/ ويرتاح عليها قلب الإسكندرية الساهر/ هذا المنحنى/ الضلع الناقص من آدم/ الذى خرجت منه الإسكندرية.


الحجر الأسود للعائلة
تلك الأخوة النائمة
كمومياء تنتظر البعث
كصفحة مطوية من أحد أطرافها
لنعود إليها عند كل ارتطام بالوحدة
كحديقة لاتزهر إلا فى مواسم الموت
كجليد البحيرات العذبة
تحتفظ بأسماك ومشاعر حية تحت هذه الطبقة الخادعة من الثلج 
كبرعم طرفى تصل إليه الحياة عبر شبكة من الأنفاق المغمورة بالمياه
عبر مدينة غير مضاءة  من الأحاسيس
كشفرة رموز لن تفك إلا إذا رجعنا نطفتين فى رحم الأم
أقف أمام سريركَ وأنت غائب عنه
تؤنسنى تلك الأنفاق والمدن المظلمة والمشاعر غير المفسرة
وأبى وأمى ورغبتهما فى إلقاء بذور فى حقول المستقبل
وقبل أن يختارا المكان الذى سيضعان به الحجر الأسود للعائلة 
كل هذا كان يقف معى أمام سرير موتك
شفرة حياتنا العائلية التى لن يفك رموزها أحد
حجرنا الأسود الغالي 
أحافظ على راية العائلة مرفوعة 
حتى ولو لم يعد أحد منها حيا
بينما كان  جسدك ينطفيء فوق السرير
كانت هناك مدينة أخرى مضاءة
نتعانق فيها كأصدقاء
قصائد مختارة 
من ديوان علاء خالد
«العدم أيضا مكان حنين» 
الذى يصدر قريباً
 

اقرأ ايضا | محمد هلال يكتب : أن تكتب عن مدينة كالإسكندرية