عبد الهادي عباس يكتب: روايات مصرية للجيب

عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس

تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي أفكوهة، بقدر ما تبدو مُضحكة فإنها برأيي تُمثل قمة المأساة التي نعيش فيها، تقول: "إنه في معرض الكتاب بإحدى الدول العربية تم بيع 3500 هامبرجر و2000 ساندوتش شاورما و1500 كيس شيبسي و6000 زجاجة كولا و2000 فنجان قهوة، و16 كتاب!".

لا شك في أن هذه الأرقام تبدو وهمية بغرض الإضحاك؛ ولكنها أيضًا في إضحاكها تبدو صادقة، فإن أصدق التقارير هو ما أعلن عن نفسه ولم يحتج إلى البحث والاستقصاء عن حقيقته؛ تأخذ هذه الأفكوهة شكل الكارثة الماحقة، تأخذ طبيعة الأوحال التي غُرست فيها المجتمعات العربية حتى أذنيْها دونما وسيلة للخروج الآمن، تكشف عن ذلك العته الشائن الذي نعيش فيه دونما خجل أو حياء، بل إننا نسخر في أحيانٍ كثيرة ممن يقرأون وكأنهم مصاصو دماء أو كائنات فضائية أتت من خارج الزمان والمكان، هبطت على حين غفلةٍ على هذا الكوكب المأزوم!

صحيح أنني أربعيني العمر، لكنني لا أنسى كيف كنتُ أقتات في صباي على روايات التشويق والجاسوسية للدكتور نبيل فاروق، وأحمد خالد توفيق، وغيرهما من مبدعي "روايات مصرية للجيب"؛ كنتُ أشارك "أدهم صبري" رجل المخابرات المصري مغامراته لإنقاذ الوطن، أتألم معه عند كل رصاصة تسكن جسده، يخفق قلبي مع كل علاقة غرامية نبيلة للبطلة التي دومًا ما يُنقذها من براثن الأعداء، أجاهد معه في حل الألغاز التي يضعها الأنذال أشواكًا للتغلب عليه؛ لكنني لم أوافقه أبدًا على هذا التسامح الكبير الذي يُعاملهم به، ففي الوقت الذي كانوا يُطلقون عليه القنابل والرصاص لإردائه قتيلًا، كان هو يكتفي بإفقادهم الوعي أو تكبيل أيديهم؛ لم تُعجبني هذه المثالية في الحرب، لم يُعجبني الفوز عليهم دون قتلهم وإبادتهم، وكان البطل (المؤلف) يأبى إلا أن يكون (نبيلا) ومتسامحًا في كتابته.. هكذا نحن المصريين نبلاء دومًا حتى مع أعدائنا، وهو سلاح أعتى من كل سلاح وإن رفضته حماسة الشباب، لأن حفظ القيمة الثابتة والمُثل العليا انتصارٌ دائمٌ للروح المعنوية حتى في أوقات الهزيمة على الأرض، ومن ثم فإن غيابها في وقت الانتصار يعني الهزيمة القريبة ولو بعد حين.

أقول هذا لأنني لم أفقد الأمل أبدًا في عودة الكِتاب إلى الشباب، أو عودة الشباب إلى الكِتاب، فقط نحتاج إلى تقريب الشُّقة بينهما وتذليل الأمور لرتق هذا الفتق المتسع بصورةٍ علميةٍ وعمليةٍ تتفق مع العصر الذي نعيش فيه؛ نحتاج إلى إحياء الروح المتوثبة إلى المعرفة والاطلاع في نفوس الشباب، بدءًا من المدرسة التي يجب أن تُعيد حصص المطالعة أو المكتبة ولو مرتين أسبوعيا، وليس انتهاء بوزارة الشباب التي عليها واجب تأسيس مكتبات صغيرة، ورقية وإلكترونية، في مراكز الشباب؛ وبالطبع إعادة برامج قصور الثقافة في المحافظات إلى العمل مرة أخرى وبكامل طاقتها التنويرية: ورشًا للكتابة، وحفلات للسينما الثقافية والأفلام الوثائقية، والتدريب على المسرح؛ وهو جهد كبير ومُكلف ولكننا نحتاجه بقوةٍ ليكون عنصرًا فاعلًا في الجمهورية الجديدة.

مؤخرًا تجاهد سلسلة "روايات مصرية للجيب" بالشركة العربية الحديثة، بقيادة الروائية الكبيرة نوال مصطفى، مدير تحرير "الأخبار"، للعودة بهذه السلسلة التاريخية إلى عصرها الذهبي، بمسابقات لشباب المبدعين في مجال الكتابة الروائية، وهو توجه يُسهم في إنتاج مؤلفين مصريين على مستوى عالٍ؛ وبقدر ما نرجو لهذا التوجه النجاح والتوفيق فإننا نعترف أنه يبقى في النهاية توجهًا وطنيا فريدًا ووحيدًا وسط عقبات النشر الملتفة كأفعوان ضخم يهز أعتى المؤسسات، ولهذا فإن هذه الخطوة تحتاج إلى دعمٍ كبيرٍ من رجال الأعمال الوطنيين ومن الدولة على السواء، لإبقاء سحابة النور يقظى في تلافيف الوعي المصري قبل أن تُسيطر عليها غربان الظلام.