في الذكرى الخامسة لوفاته .. 

محسن عبد الفتاح يحكي أسرارًا جديدة عن شيخ الخطاطين محمود إبراهيم | حوار

محرر بوابة أخبار اليوم أثناء الحوار - تصوير: ياسر مسلم
محرر بوابة أخبار اليوم أثناء الحوار - تصوير: ياسر مسلم

◄ القاهرة تتزين بمئة عام من الخط العربي
◄ وصيته الأخيرة كانت: "أوصيكم بالخط خيرًا".. كتب المصحف الأول بليبيا.. وأهدى "الكبير" إلى الشيخ القاسمي 
◄ مصطفى العقاد قابله بلندن مرتين فكتب أفيش "الرسالة" و"عمر المختار"
◄ دخل الصحافة من باب الحمامصي.. والزعيم قال له: "هذا الخط الذي أريده"

جمالُ الخط قوةٌ وانتصارٌ، واعوجاجُه هزيمةٌ وانكسار.. منذ فترةٍ طالعتُ عددًا من المخطوطات المصرية في عهد المماليك، وكنتُ أتعجَّب من انسيابِ الخط وتناسقه وكأنَّ آلة ماهرة هي التي كتبته وليس بشرًا سويًّا مثلنا، فضلًا عن الزخارف المُبهجة التي تُحيط بالصفحة من أقطارها.. فعلمتُ أن أناملنا مُدربة ومُجيدة منذ الجِبلة الأوّلين، وأن الإبداع "الخطيّ" المصري لا يزال موصولَ النسبِ مُتجذر النشب بفنون العربية القولية؛ فنرى القرآن مكتوبًا ومقروءًا، ونرى الشعر ممهورًا ومسجوعًا، ونرى الرسائل والخطب والحِكم في كل بيت تُزين الجدران كما تملك اللسان.. فلا حائط خاليًا من: (الصبر مفتاح الفرج) و: (رأس الحكمة مخافة الله) وغيرها من تشابكات النسخ والرقعة والثلث والديواني والفارسي في أتون الواقع المصري.
خلال الشهور الماضية عاشت الأوساط الثقافية بمصر أجواء احتفالية تتمثل في مرور قرن من الزمان على إنشاء مدرسة تحسين الخطوط الملكية والتي عمل على إقامتها فؤاد الأول ملك مصر والسودان آنذاك.. تعددت مظاهر الاحتفال وجاء على رأسها ملتقى القاهرة الدولي للخط العربي للدورة السابعة والذي أقيم تحت عنوان: (رواد مجددون)، وشارك فيه أكثر من مئة خطاط من مصر والعالم العربي والإسلامي؛ وقد ضم المعرض لوحات خطية لرواد هذا الفن الجميل إلى جانب مساهمات من مكتبة الإسكندرية ومشيخة الأزهر ودار الكتب بروائع من المخطوطات لمصاحف نفيسة ومقتنيات نادرة تُعرض لأول مرة.
عن هذه الأجواء الاحتفالية كان هذا الحوار مع الكاتب محسن عبد الفتاح، الذي يُحب أن نطلق عليه "مؤرخًا" للحرف العربي، بعدما انغمس في أسراره بصحبة والد زوجته شيخ الخطاطين محمود إيراهيم سلامة (رحمه الله)، والذي نشر كتابًا كبيرًا عن حياته بدار الشروق تحت عنوان: (شيخ الخطاطين.. محمود إبراهيم)، وهو أحد رواد هذا الفن الجميل، حيث قدَّم الكثير والجديد طوال عمره المديد: (الأول من مايو ١٩١٩م/ ٦ أكتوبر ٢٠١٧م).. وكان هذا الحوار في الذكرى الخامسة لوفاة شيخ الخطاطين:

◄ ما هي أهم الأسباب التي أدت إلي إنشاء مدرسة تحسين الخطوط الملكية بمصر عام ١٩٢٢م التي تحتفل مصر بمئويتها هذه الأيام؟
- يذكر التاريخ المعاصر أن زوال الإمبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة الإسلامية في العشرينيات من القرن الماضي كان لهما تداعيات جمة ومهمة بالمجتمع التركي، ومن أهمها هجران الحروف العربية إلى اللاتينية، ومن ثم إغلاق المدارس والزوايا الدينية التي كانت تعمل على تحفيظ النشء الآيات القرآنية وتعليم فنون الخط الإسلامية؛ الأمر الذي أدى بملك مصر "فؤاد الأول" حينئذ إلى العمل على إنشاء مدرسة "تحسين الخطوط الملكية" في عام 1922م حتى لا يصبح فن الخط الإسلامي، وهو حروف القرآن المجيد وكلمات السنة النبوية وثقافة العلوم العربية، أثرًا بعد عين، فتولت بذلك الحكومة المصرية ومليكها فؤاد الأول رعاية هذا الفن الإسلامي ودعمت هذا الكيان الوليد بخير رواد الخط العربي من مصريين وشوام وأتراك، الذين التحقوا بمصر بعد أن أغلقت الحكومة المدنية التركية أبواب معاهدهم الخطية في وجوههم!


‫وقد تميزت البداية في مدرسة تحسين الخطوط الملكية بمصر بالتواضع والحنو؛ وشيئًا فشيئًا أصبحت قِبلة لكل موهبة وليدة في فنون الخط، وخرجت على مدى قرن من الزمان (١٩٢٢/ ٢٠٢٢م) أجيال وراء أجيال من المبدعين من خطاطي هذا الفن الجميل.
‫شيخ الخطاطين
◄‬ ماذا عن كتابكم الذي صدر مؤخرا تحت عنوان: (شيخ الخطاطين محمود إبراهيم) وشاركت به في الندوة العلمية المصاحبة للاحتفالات بمئوية الخط؟
ـ هذا الكتاب يتناول بعض الأحداث المهمة في حياة شيخ الخطاطين محمود إبراهيم، الذي أمد الله في عمره قرنًا من الزمان ويزيد بداية من مولده في الأول من مايو ١٩١٩م إلى رحيله في السادس من أكتوبر ٢٠١٧م.. وتبدأ مسيرة هذا الخطاط الكبير من كُتاب قرية "المسلمية" القريبة من مدينة الزقازيق إحدى قرى محافظة الشرقية، حيث لاحظ شيخ الكُتاب حُسن خط الطفل محمود دون رفاقه الأطفال فطالبه برفع لوحه ليحاكي الأطفال هذا الخط المتميز.. ثم يحصل الصبي محمود على الابتدائية ويتجه إلى مدرسة المعلمين بالقاهرة، حيث يرى معلم اللغة العربية جودة خطه بعد أن تبلورت موهبته، فيشير إليه بالالتحاق بمدرسة تحسين الخطوط حيث تكون دراستها ليلية.. وينجح الشاب محمود في "المعلمين" ومدرسة تحسين الخطوط معًا، بل ويكون أول دفعة المدرسة عام ١٩٣٩م، ويتبع ذلك دبلوم تخصص في الزخرفة الإسلامية والتذهيب.
◄ وكيف التحق هذا الشاب محمود حديث التخرج بعالم الصحافة؟
في الحقيقة فإن تفوقه وكونه الأول على دفعته لم يشفع له لدخول عالم الصحافة، فلقد عمل بداية بمدارس أهلية إلى جانب التعامل مع المكاتب الخاصة، ثم نجح باجتهاده ليتم تعيينه في وزارة العدل.. وقد أراد الله سبحانه أن يكافئ هذا الشاب المجتهد فالتقى الأستاذ جلال الدين الحمامصي مهندس الصحافة المصرية كما كان يُطلق عليه ومكتشف المواهب، حيث آمن منذ الوهلة الأولى بموهبته في عالم الخط، خاصة "مانشيت" الصفحة الأولى، وطلب إليه تقديم استقالته، ثم عيّنه بضعف الراتب الذي كان يتقاضاه!.. كما عملا معًا: الحمامصي ومحمود إبراهيم في العديد من الصحف زمن الملكية، مثل: "الكتلة" و"الزمان" و"الأساس".. ثم في جريدتي "الجمهورية" وأختها الصغرى جريدة "الشعب" بعد قيام ثورة يوليو 1952م.


◄ إذن.. هل كان محمود إبراهيم أحد الأوائل الذين أسهموا في تأسيس جريدة "الجمهورية"؟
بالطبع، فقد شارك محمود إبراهيم "شيخ الخطاطين" في تأسيس جريدة الجمهورية لسان حال ثورة يوليو، وكان يرأس مجلس إدارتها أنور السادات، ورخصة إصدارها باسم الزعيم جمال عبدالناصر نفسه، كما كان يرأس مجلس تحريرها الأستاذ حسين فهمي نقيب الصحفيين فيما بعد، والذي آمن بموهبة شيخ الخطاطين وأوكل إليه القسم الفني والإشراف على مجموعة الخطاطين بالجريدة؛ وعند اقتراب ساعة الصفر دخل شيخ الخطاطين بفرخ الورق ليعرضه على رئيس التحرير للموافقة النهائية فإذا به وجهًا لوجه مع الزعيم عبد الناصر الذي نظر إلى البروفة وقال لرئيس التحرير: "هذا الخط الذي أريده"!‫..‬ وقد ذكر لي شيخ الخطاطين أن هذه اللحظة لا تغيب عن ذاكرته، وإحساسه بيد الزعيم وهو يصافحه ظل يشعر به إلى آخر العمر!..‬ ثم انطلقت "الجمهورية" كجريدة يومية في ٧ ديسمبر ١٩٥٣م معبرة عن آمال الشعب حاشدة ورافعة من معنوياته في مواجهة الاستعمار الذي كان يعد العدة لمعركة كبرى ضد رجال ثورة يوليو.

المصــحــف الأول
◄ كيف بدأت رحلة الفنان محمود إبراهيم مع كتابة المصاحف.. وماذا عن أول مصحف كتبه؟!‬
ـ قيد الله للفنان محمود إبراهيم أن يذهب إلى الشقيقة ليبيا ويمكث بها أكثر من عشر سنوات ليشارك في تأسيس معهد الخط الذي سُمي بمعهد "براين مقلة" ويكتب أول مصحف في حياته وقد تخطى السبعين من عمره بتكليف من مجلس قيادة الثورة آنذاك؛ كذلك التقى بالمخرج العالمي مصطفى العقاد الذي استضافه في لندن مرتين كتب خلالهما أسماء الممثلين والفنيين بفيلمي "الرسالة" و"عمر المختار"؛ بعدها عاد شيخ الخطاطين إلى وطنه وجدد علاقاته بأصدقائه ومحبيه في عالم الصحافة والنشر، وسرعان ما استعانت به جرائد حزبية كالوفد والأهالي، وأخرى مستقلة، مثل: صوت العرب والموقف العربي؛ كما بدأ كتابة أغلفة إصدارات بعض دور النشر، وفي مقدمتها دار الشروق، التي طلب مؤسسها الراحل محمد المعلم من شيخ الخطاطين كتابة مصحف، وقال له: "إن مصر أولى بخطاطيها".

أغلفة "بالثلث"!
◄ وما أبرز الخطوط التي استخدمها شيخ الخطاطين محمود إبراهيم في كتابة تلك الأغلفة؟
كان شيخ الخطاطين الخطاط المعتمد عند دار الشروق؛ فكتب أغلفة أبرز الكتب، مثل كتب: الأستاذ هيكل، وعبد الرحمن الشرقاوي، وأكمل الدين أوغلو، والمستشار طارق البشري؛ وفي لحظة فارقة رحل أديب نوبل نجيب محفوظ في عام ٢٠٠٦م فخصصت مجلة "وجهات نظر" عددًا خاصًّا عن مسيرة حياته تزين غلافه بكلمة نجيب محفوظ بـ"خط الثلث" تاج الخطوط وأصعبها فكان عددا تذكاريا عن حق.
وعند إعادة طباعة مؤلفات أديب نوبل رأت دار الشروق أن تثبت اسم أديب نوبل بالشكل الفني الجديد، وأصبح هو المعتمد على أي مطبوعة تتناول شخصه، سواء في يوم مولده، أو ذكرى الاعتداء عليه، أو يوم نيله جائزة نوبل، أو يوم رحيله!‬.. الغريب أن هذا الشكل الفني لاسم أديب نوبل انتشر في الجرائد والمجلات المصرية وأيضًا العربية دون وضع توقيع شيخ الخطاطين؛ وعندما كنتُ أذهب إليه غاضبًا وأطالبه بحفظ حقه وأن يُقاضي مَن يسرق عمله يقول لي: "إن بصمة خطي لا يُمكن تقليدها حتي من أمهر الخطاطين؛ والأسهل على دور النشر أن تأخذ عملي كما كتبته دون توقيعي!".‬

عام الخط العربي
◄ دعنا نرجع إلى أجواء الاحتفالات.. ما هي المناسبات الأخري المرتبطة بفنون الخط هذا العام؟!‬
ـ يُعد ٢٠٢٢م عام فنون الخط العربي بامتياز؛ فإلي جانب مئوية مدرسة تحسين الخطوط الملكية، تحتفل الأوساط الثقافية باختيار القاهرة عاصمة للثقافة الإسلامية من جانب المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم؛ وأيضًا هناك أجواء فرح بعد أن اعتمدت منظمة "اليونسكو" فنون الخط العربي تراثا إنسانيا، وتم تقديم ملف باسم مصر إلى جانب مشاركة ١١ دولة عربية في مقدمتهم الشقيقة السعودية؛ وقد عكف فريق عمل ملف مصر شهورًا مواصلا الليل بالنهار بقيادة د.نهلة عبد الله الأستاذة بأكاديمية الفنون، وتحت إشراف ومشاركة الكاتب محمد بغدادي بخبرته واتصالاته بمؤسسات الخط وجموع الخطاطين؛ وهو جهد جماعي شرّف مصر لدى مؤسسة اليونسكو الدولية فاعتمدت فنون الخط العربي تراثا إنسانيا.
 ◄ كنت على تواصل دائم مع شيخ الخطاطين باعتبارك زوج ابنته من ناحية ولأنك جاره بالسكن من ناحية أخرى، ثم لأنك خبير بفنون الخط من ناحية ثالثة.. ما الذي يُمكن أن تحكيه عن أسراره؟‬
لقد عشت معه كظله أكثر من أربعين عامًا؛ أي أكثر من نصف عمري! بدأت العلاقة بعمل مشترك حيث كنا معًا في المؤسسة العامة للصحافة بليبيا الشقيقة هو مسئول عن إحدى المجلات الأسبوعية وأنا باحث بإدارة الدراسة والبحوث.. ثم تطورت العلاقة إلى مصاهرة ونسب، فبدأت أهتم بفنون الخط، ومن خلاله تعلمت الكثير وتعرفت إلى رواد الخط من زملائه وتلامذته، حيث كان بيته دائمًا قِبلة للجميع على مدار عمره المديد في ليبيا أو مصر وإلى أن رحل.. وما زلت أتواصل مع تلامذته ومحبي فنه، وتوطدت العلاقة معهم وبت أتنفس فنون الخط وجمالياته.‬

المصحــف الكبيــر

◄ ماذا عن المصحف الكبير.. هل لنا أن نتعرف على خبايا الإقدام على هذا العمل الفريد؟‬
بعد خوض شيخ الخطاطين تجربة كتابة المصحف فكان الأول بليبيا برواية ورش، كتب لمصر مصحفًا بخط النسخ برواية حفص، ثم كتب إلى الجزائر أكثر من مصحف بعد أن ذاع صيته في البلدان العربية.. ثم بعد أن اقترب شيخنا من التسعين من عمره غامر وأقدم على كتابة مصحفه الخامس بخط الثلث تاج الخطوط وأصعبها مقاس ٧٠x٥٠ سم بالألوان، وبعد نجاح التجربة أغراه الأمر فكتب درة أعماله ومشروع عمره المصحف الكبير أيضًا بخط الثلث، ولكن بمقاس فريد ٧٠x١٠٠ سم وهو أمر لم يحدث منذ أيام المماليك، وأهداه إلى صديق عمره سمو الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة، الذي كان يدعمه ويشجعه إيمانًا منه بتميز موهبته، فكان دائمًا في احتفالات الإمارة بالخط العربي إما مشاركًا أو محكمًا أو ضيف شرف، وكان آخرها في عام ٢٠١٢م عقب أحداث حرق بعض مقتنيات المجمع العلمي، حينها تبرع سمو الشيخ بنسخ بديلةٍ من مقتنياته الخاصة؛ وعند الاستعداد للسفر رأى شيخ الخطاطين فكرة التعبير عن شكره وشعب مصر للمبادرة الكريمة لسمو الشيخ القاسمي فأهداه لوحة خطية، جاء بها: "مصر التي في خاطري وفي فمي.. أحبها من كل روحي ودمي".. وجدت صدى طيبًا في قلب سموه، وهو ما جعل شيخ الخطاطين يُهدي درة أعماله "المصحف الكبير" إلى الشيخ القاسمي.
◄  وماذا عن لقب "شيخ الخطاطين" الذي لازم الفنان محمود إبراهيم فصار الأشهر بين أوساط عالم الخط والخطاطين؟
ـ تحت دعوة شيخ الخطاطين إلى المؤتمر الأول الدولي لكتبة المصحف الشريف بالمدينة المنورة فكان أكثر من ٦٠٠ خطاط من جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي والدولي وجاء في مجلة مجمع الملك فهد لكتابة المصحف الشريف بالعدد الخاص الصادر بهذه المناسبة أن أكبر خطاط عمرًا شيخ الخطاطين ويبلغ من العمر آنذاك ٩٢ عامًا وأصغر خطاط كان يبلغ من العمر ١٢ عامًا جاء مع والده من الشقيقة الجزائر.. وفي الحفل الختامي تم تكريم عدد من خطاطي المصحف الشريف في مقدمتهم شيخ الخطاطين؛ وقد داعبه سمو أمير المدينة الأمير ماجد فقال له: لقد استبقيناك هنا وخلعنا عليك لقب "شيخ الخطاطين" فأنت الأكبر سنًّا والأكثر أعمالًا، وما زلت تقدم ما لم يُقدمه الشباب!!.. فردّ محمود إبراهيم عليه ووجهه يضيء بابتسامةٍ عفويةٍ، قائلا: لا مانع سموك من اللقب، وأشكر سموك عليه؛ أما موضوع البقاء في مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلا بد من صحبة قرينتي رفيقة مشوار عمري.