أسامة فـاروق يكتب: طــلال فيصــل: «الغابة والقفص» سيرة ذاتية متنكرة!

طــلال فيصــل
طــلال فيصــل

تبدأ «الغابة والقفص» أحدث روايات طلال فيصل بحكاية عن رحلة طفل فى درب قصير بتكليف أبوى صارم. لكن الدرب يتسع والرحلة تكبر، والأخطار تتعدد، ولا تتشابه مع ما قيل له فى البداية ولا مع ما توقعه هو نفسه. مع تزايد الأخطار وتلاحقها يتعمق الخوف ويترسخ فيخلط الطفل ما حدث فعلا مع ما تخيل أنه يحدث أو مع ما تمنى حدوثه، ثم تتبدل رؤيته للأمور كافة بتبدل موقعه من الحكاية، وما كنا نظنه فى البداية غضب من حضور الأب نشك فى النهاية أنه ربما لم يكن إلا حسرة لغيابه.
فى حكاية أخرى يكبر الطفل، أم أنه طفل آخر؟ لا يهم، فالأدوار تتداخل والمقدمات تتشابه والغرض الأمثولة لا التوثيق. المهم أنه أصبح طالباً خجولاً وانطوائياً يهجر حضن والدته الدافئ وظل والده المهيمن ويخرج للعالم الواسع. مشوار طويل عرف فيه السعادة والتعاسة والنصر والهزيمة «غير أن شعورا واحدا يمكننا أن نؤكد أنه صحبه من أول الطريق لآخره، فى كل وقت وفى كل مكان، بسبب وبلا سبب، شعور وفى لم يتخل أحدهما عن الآخر لحظة واحدة، ذاك هو شعور الخوف».

◄توقعت لـ«الغابة والقفص» كل شىء إلا هذا الغضب تجاه مسألة التصنيف

◄الأدب الذى نكتبه بكامله سلعة غير رائجة والرواج مرتبط باسم الكاتب لا النوع الذى يقدمه

◄أسجل ما أكتبه صوتياً وأحكيه لأصدقائى المُتخيلين

◄مواقع التواصل بصيغتها الحالية تسبب لى حرجا لا يحتمل 

◄لديّ فضول لمعرفة ما إذا كان لدى كتابتى جمال حقيقى أم أن المسألة بكاملها وهم فى رأسى 

◄البعض يعتبر مرايا محفوظ ورواية المثقفين لـ«سيمون دو بوفوار» ونصف أعمال سارتر وكامو روايات نميمة

 ◄ذاتى الحقيقية وسيرتى الشخصية موجودة فى الشخصيات التى لا تحمل اسمى أكثر بكثير من تلك التى تحمله

يصبح الطفل مهندسا أم أنه مصمم إعلانات؟ لا يهم، فالأدوار تتداخل والمقدمات تتشابه كما قلنا. المهم هو ما صحبه من الطفولة: الذكاء والوحدة والضجر.. والخوف بطبيعة الحال، وهو ما كان على الطبيب النفسى البحث خلفه لتفسير ردود أفعاله اللاحقة؛ كان عليه الحفر فى البدايات لمعرفة أسباب الاكتئاب ومبررات الغضب ودوافع القتل!


لم تكن هذه هى الحالة الوحيدة، كان على الطبيب نفسه أن يبحث حالات أخرى أيضا.. ناقد أدبى يعجز عن معرفة رأيه الحقيقى بعد أن فقد «كراسة الحقيقة» التى كان يدون بها رأيه الفعلى بعيدا عن زيف ما يكتبه أو يتفوه به طلبا للرزق أو مداهنة لصديق أو طمعا فى جائزة. وقارئ مهووس تعطلت حياته بحثا عن إجابة لسؤال واحد: هل خيرى شلبى أديب عظيم أم لا؟!. ودفعة جامعية كاملة تعانى من تدهور الذاكرة وقلة التركيز والعجز عن معرفة الطريق بعد أن وقعت ضحية لأستاذ غريب الأطوار. وداعية شهير يشهد تحولا مذهلا فى نهاية حياته.

الطبيب الذى درس فى الداخل والخارج وشاهد الجنون هنا وهناك، وحيرة الإنسان وضعفه أمام ما لا يفهمه وقف حائرا أمام سيل الحكايات، ومرهقا من كثرة البحث فى مواطن الألم، ويائسا من عجزه وقلة حيلته، لكن أكثر ما أربكه كان سماع طرف من حكايته على لسان آخرين وكان فى حاجة لدرس من قرد طموح ذاق لذة الحرية وعجز عن ضمان استمرارها حتى يدرك عمق الحيرة وتأصلها وعبثية البحث عن مخرج، وحين تحدث أخيرا قال: «ما أسهل أن تدعى الضجر وأن تتعالى على شكاوى المرضى المكررة، لكنك تعلم فى أعمق أعماقك أنك مثلهم، عاجز أن يكون لك أصحاب، عاجز عن خلق علاقة وحوار، ولكن لأنك ذكى ومحظوظ قررت العمل طبيباً نفسياً».


نماذج فريدة، وأبطال من النادر أن تراها بهذا الوضوح خارج كتابات دارس متخصص وكاتب موهوب قبل كل شيء.


طلال فيصل؛ روائى وطبيب. بعد انتهائه من دراسة الطب التحق بكلية الآداب قسم الفلسفة، ثم سافر فى بعثة لاستكمال دراسة الطب النفسى فى ألمانيا. صدرت له ثلاث روايات: «سيرة مولع بالهوانم»، و«سرور»، و«بليغ». بالإضافة لعدة كتب مترجمة منها: «كرامة: رحلات فى الربيع العربى»، و«جنون المتاهة»، و«الإحساس بالنهاية».
«الغابة والقفص» الرواية الرابعة فى مسيرة طلال وحولها دار هذا الحوار..


أربع سنوات تفصل بين «الغابة والقفص» و«بليغ» وهى الفترة نفسها تقريبا التى تفصل بين «بليغ» و«سرور». هل كان هذا مخططا؟ كيف تخطط لنشر أعمالك على أى حال؟
لا، لم يكن مخططا، بل ويمكن اعتبار هذه المسافة الزمنية الطويلة بين كل كتاب والآخر عرضا جانبيا للفترة التى قضيتها فى ألمانيا – بما فيها من دراسة وعمل والتزامات أسرية – وهو ما تسبب فى تأخير مشوارى الأدبى أربع سنوات تقريبا عما كان مُخططا له. كانت خطتى بالأصل الانتهاء من رواية «قطب» عن الكاتب والمفكر الإسلامى سيد قطب.

وبها تنتهى علاقتى بروايات السيرة، ثم الكتاب الذى صدر باسم «الغابة والقفص» وأنا فى الخامسة والثلاثين، وهو ما لم يحدث بالطبع بسبب الالتزامات التى أشرت إليها. لست سعيدا بالطبع بهذا التأخير ولكنى لستُ نادما؛ فقد كان قرارى واضحا منذ البداية، الكتابة – بكافة صورها وأشكالها حتى المربح منها – لن تكون مصدر دخلى، والتخلى عن أى التزامات - مهنية أو دراسية أو أسرية لن يجعل منى فنانا أو كاتبا أفضل، بالعكس.

الإهمال أو التخلى عن مسئولياتى ربما كان سيجعلنى أنهى خطتى الأدبية فى الوقت المحدد كما أردت ولكنه كان كذلك سيخصم من رصيدى الإنسانى وتقديرى لنفسى كشخص مسئول وملتزم، وهو ما كان سينعكس بالضرورة سلبا على الكتابة. فى آخر الأمر، نحاول جميعنا العثور على التوازن بين ما نريد وما نستطيع وما تسمح به الحياة، وهى عملية مرهقة أشبه بالصراع، وأحيانا تُصيب القرارات التى نتخذها وأحيانا تخيب، ولكن لا مفر! 

في "الغابة والقفص" تقترب من فكرة الرواية الأولى "سيرة مولع بالهوانم". أقصد القصص المنفصلة. لكن الأولى كان لها خط واحد واضح وبطل وحيد يجمع قصصها ببعضها. في الثانية ورغم خط الطبيب النفسي الممتد بطول القصص إلا أن هناك الكثير من الآراء التي ترى أنها ربما كانت في الأصل متوالية قصصية وأن القصة الأخيرة التي تربط الخيوط ببعضها كانت مجرد حيلة فنية لتطويعها لفكرة الرواية ربما استجابة لضغوط الناشر، على اعتبار أن الرواية السلعة الرائجة الآن.. كيف رأيت هذه التعليقات وما هي رؤيتك لمسألة التصنيف؟

عادة ما يكون لديك أثناء كتابة الكتاب أو قبل نشره توقع ما- حتى وإن كان غامضاً ومبهماً- لنوعية الأسئلة أو الجدل الذى سيثيره هذا الكتاب، وقد توقعت لـ«الغابة والقفص» كل شيء، إلا هذا الغضب تجاه مسألة التصنيف وأن الكتاب مجموعة أو متتالية قصصية وأن تصنيفه كرواية أمر لا يليق! كان تصورى - ولعلى مخطئ - أن مسألة التصنيف هذه عموما تجاوزها الزمن وتجاوزها القراء؛ أقرأ الآن رواية جميلة اسمها No one is talking about this لكاتبة تُدعى باتريشيا لوكوود.

 

والكتاب بالكامل أقرب لقصيدة نثر طويلة وتعليقات ذكية طريفة متناثرة فى هجاء تويتر والسوشيال ميديا، والكتاب مُصنف كرواية بل ودخل فى القائمة القصيرة لجائزة البوكر. أول كتاب ترجمته كان الكلمة المكسورة لآدم فولدز وكان كذلك أقرب لقصيدة نثر طويلة وتم تصنيفه كرواية، بل وأحيانا يقرر نفس الكتّاب تصنيف نفس الكتِاب مرة كرواية ومرة كمجموعة قصصية كما فعلت مارجريت أتوود فى كتابها Moral disorder اضطراب أخلاقى، (وهو كتاب فى شكله وبنيته أقرب لكتاب الغابة والقفص).

وصدر فى ترجمته الفرنسية والألمانية بتصنيف «رواية»، كذلك المرايا وحكايات حارتنا وحديث الصباح والمساء لنجيب محفوظ كتب صدرت جميعها تحت تصنيف «رواية» رغم أن بنية كل منهم بعيدة عن الشكل الكلاسيكى المتعارف عليه للرواية، مجلة باريس ريفيو فى عددها الماضى (سبتمبر) قررت أن تطلق على كل النصوص (مقاطع من روايات وقصص قصيرة وقصائد نثر) اسم Prose، نثر، وهو كما تذكُر التصنيف القديم لدينا فى الأدب العربى، الشعر والنثر ولا شيء آخر. الأمثلة لا آخر لها، ولكن فى آخر الأمر وحتى.

وإن كان أنا لى رأى مختلف لا بد أن يحترم المرء قرار جمهور القراء، الذين رأوا أولا أن مسألة التصنيف هذه مهمة، وثانيا أن كتاب «الغابة والقفص» متتالية قصصية. أما الكلام عن مسألة الرواج هذه فهو مبالغ فيه قليلا، الأدب الذى نكتبه بكامله – رواياته بقصصه بشعره بنثره – سلعة غير رائجة، والفارق بين هذا النوع وغيره ليس كبيرا كما يتخيل البعض، والرواج عادة مرتبط باسم الكاتب لا النوع الأدبى الذى يقدمه، ولكن لو كان لى أنا أن أصنف هذا الكتاب كما أراه فهو لا رواية ولا قصة، ولكنه سيرة ذاتية! 

على أى حال وبعيداً عن مسألة التصنيف، ما حكاية «الغابة والقفص» من أين أتت فكرتها ومتى بدأت كتابتها ومتى انتهيت منها؟

بعد الانتهاء من رواية «بليغ» مباشرة بدأت فى كتابة رواية «قطب» وأكاد أكون قد انتهيت منها بالفعل، ثم قررت فى المرحلة الأخيرة ضرورة إعادة كتابتها كاملة من البداية، برؤية مختلفة ومنطق آخر غير الذى كتبتها به. فى هذا الوقت قررت العمل على مشروع قديم، هو بالأساس عدة أسئلة ذاتية وشخصية كانت تشغلنى قبل السفر وأسئلة أخرى مرتبطة بتجربة دراستى.

وعملى فى ألمانيا، كنت أخطط لإصدارها فى كتاب منفصل هو «التجربة الألمانية» وكنت أبحث دون جدوى عن طريقة فنية لجمع هذه المواضيع فى كتاب واحد، ثم حدثت الحادثة المعروفة، هرب خمسون قرداً من قرود البابون من حديقة حيوانات باريس عام ٢٠١٨، هنا أضاء فى عقلى كل شيء، رأيت الغابة والقفص والطبيب المعالج، رأيت الكتاب بكامله أمام عينى.

وبدأت كتابته وأنا أعرف مسبقاً ما سأكتب. الكتاب تقريباً سيرة ذاتية لكنها متنكرة فى صورة قصص وشخصيات، مضطربة وغرائبية وخفيفة الظل ومثيرة للتعاطف. كتبته بحماس وعلى دفعة واحدة وانتهيت منه فى ٢٠٢٠ ولكن تحريره وإعادة صياغته استغرق وقتا أطول بكثير مما تخيلت لدرجة أنى شعرت وكأنى أكتب لأول مرة فى حياتى.

وذهب الكتاب للناشر بالصورة التى صدر عليها بالضبط – بخلاف قصة واحدة اضطررنا لحذفها- كان رأى الناشر أن القصص مرتبطة، لها تيمة واحدة وبطل واحد هو الطبيب المعالج، وأنها بهذا المنطق رواية، وبما أننى – كما أسلفت - أؤمن أن مسألة التصنيف هذه الآن تحصيل حاصل فلم أمانع فى نشرها بهذا المسمى، ولكن كان لكثير من القراء رأى آخر. 


من أول من يقرأ مسودات أعمالك؟ وكيف تتقبل التعديلات أو وجهات النظر؟
لا أحد، إطلاقا، وأظننى أعرف السبب؛ الفكرة أننى أعمل بطريقة بطيئة ومنهكة جدا، أكتب النص بكامله ثم أكتبه عدة مرات من وجهة نظر مختلفة، بصوت سرد مختلف أو بلغة مختلفة، وبعد الوصول للصوت النهائى الذى أريد أن أحكى به الحكاية، أجرب مع كل كلمة تقريبا كل الكلمات الأخرى البديلة الممكنة، كلمة أجمل ولكنها ليست أدق أو العكس، كلمة أنسب للحدث.

ولكنها ليست أنسب للشخصية أو العكس. بعد كل ذلك أقرأ ما كتبت وأسجله صوتيا للتأكد من التناغم الموسيقى وعدم وجود كلمة أو تعبير نشاز، ثم أختتم بما أسميه قراءة الحذف، أحذف كل ما يمكن حذفه لرؤية إن كان زائدا عن الحاجة أو ضروريا بالفعل. حين أنتهى من كل ذلك أكون منهكا تماما.

 

وغير قادر على مناقشة المكتوب ولا حتى مع نفسى، فأسلمه للناشر مقتنعا بضمير مستريح أن هذا بالفعل هو أقصى ما أستطيع، وأنى فعلتُ ما عليّ وزيادة، وكان الله بالمؤمنين رحيما.


فى أعمالك السابقة وفى الرواية الأخيرة تحديدا -التى تتناول فيها بعض الظواهر والشخصيات التى يمكن تعيينها من داخل الوسط الثقافي- تسير على درب زلق. فإن لم تنتبه سقطت فى فخ روايات النميمة، الروايات الوقتية التى لا تعيش طويلا. كيف تفكر فى هذه المسألة. كيف تزن الأمور لتخرج بالمعادلة الصحيحة التى تصل بك لما تريده فعلا من الرواية؟
أظن العامل المهم هنا ليس هو الموضوع ولكن كيفية تناوله، الرؤية الخاصة بالكاتب واشتغاله على الأفكار الفلسفية وراء الحكاية التى يحكيها. يمكنك اختيار أثقل المواضيع وأعمقها وتكتبه رغم ذلك بشكل ردئ وسطحى ورؤية فقيرة، ويمكنك الكتابة عن عالم محدود فى الظاهر – مثل حارة محفوظ الضيقة أو مكتب كافكا الحكومى أو عزبة توماس هاردى المعزولة – ثم تجعل منه الرؤية عالما كبيرا وحقيقيا. البعض يعتبر مرايا محفوظ  ورواية المثقفين لـ سيمون دو بوفوار بل ونصف أعمال سارتر وكامو روايات نميمة.

ولكن ماذا صنع هؤلاء بحكايات النميمة الصغيرة؟ صنعوا منها عالما روائيا هائلا أكبر وأعمق وأجمل من أصله الحقيقى الذى لن يتذكره أحد. كل ما يمكننى فعله قبل وأثناء الكتابة هو أن أسأل نفسى، ما معنى هذا الذى أحكيه، فى أى فصل من فصول كتب الفلسفة تمت مناقشة هذه الحكاية الصغيرة، هذا الشخص الزائل موضوع حكايات النميمة، من هو.

وما منبع ألمه؟ لماذا يتصرف بهذه الطريقة؟ وما هو موضعه بالضبط فى حركة التاريخ؟ ثم ألجأ أخيرا وأنا أكتب أو بعد الانتهاء لحيلة لطيفة لكنى أظنها نافعة: أحكى ما كتبت لأصدقائى المُتخيلين الذين صحبونى زمنا: بائع متجول فيتنامى مسكين يدعى نجويين وممرضة ألمانية متعجرفة تدعى زابينا، لأرى إن كان يمكن لهذين الصديقين الوهميين من الشرق والغرب التواصل مع ما كتبت، أو حتى فهمه، هكذا أكون قد فعلت كل ما عليّ فعله، أما التوفيق فى آخر الأمر فهو مسألة إلهية لا يمكنك التحكم فيها تماما. 


كل من تكتب عنهم من المشاهير سواء فى روايات السيرة أو فى القصص الأخيرة تقدمهم بشكل مختلف. بشكل إنسانى إن شئنا الدقة، لا تلتفت كثيرا لمسألة الحسنات أو الأساطير الرائجة عنهم، ورغم ذلك أو ربما لذلك تقربهم منا أكثر. لكن هل واجهتك أى ردود أفعال غاضبة على هذا الصدق وهذه الرؤية المختلفة فى عرض التفاصيل؟
لا حكاية بدون شخصية، ولا يوجد شخصية بدون حوار طويل وحميم معها، حوار يجريه الكاتب فى محاولة صادقة ومرهقة للفهم، هنريك إبسن – أحد أفضل من رسم الشخصية فى تاريخ الأدب كان يذهب لمكان بعينه فى إجازة تمتد أسابيعا لقضاء وقت مع شخصيات مسرحياته لمحاولة فهمها ومعرفة دوافعها وآلامها.

يمكنك اختيار س أو ص من الشخصيات الجدلية أو المشهورة والكتابة عنها لأن الناس تريد القراءة عنها، ولكن دون سؤال شخصى وشاغل مُلحّ يجمع بينك وبينها فلن يكون هناك شيء، أى شيء. كتابة أناشيد المديح الغنائية فى بطولة إحدى الشخصيات أو كتابة حكايات نميمة أو فضائح عنها، كلاهما وجهان لعملة واحدة، التعجل والكتابة عن شخصيات لم تمنح نفسك الوقت الكافى لمعرفتها ولا فهمها. 


بشكل ما أنت بطل جميع رواياتك. لماذا تصر على هذه الفكرة وهل هى صحيحه أصلا؟ ما مساحة الخيال حين يتعلق الأمر بشخصك؟
بالطبع، وهذا سبب لى بعض المشاكل وربما يكون سبب الكثير من الخلط عند القراء، كانت الفكرة من البداية فكرة طموحة قليلا، سيكون هناك شخصية باسم طلال فيصل فى كل رواية – مختلفة عن الأخرى فى العمر والطباع والدوافع – ليتضح بقراءة المشروع كاملا معنى الشخصية الروائية المتخيلة؛ هناك كل تلك الشخصيات باسم واحد.

وبعض السمات المتشابهة ولكنها مختلفة عن بعضها البعض لأن الأمر من أوله لآخره خيال فى خيال، حتى وإن كان له أصل واقعى، المفارقة هنا أن ذاتى الحقيقية وسيرتى الشخصية موجودة فى الشخصيات التى لا تحمل اسمى أكثر بكثير من تلك التى منحتها اسمى، لا أعرف إن كانت هذه الفكرة صحيحة ولا إن كنت نفذتها بشكل متقن فى النهاية كما كنت أريد، ولكنى أؤكد لك أنها كانت لعبة ممتعة.


هذا ما كنتُ أريد السؤال عنه بشكل أعمق، «الكتابة لعبة» ليس كليشيهاً عندما يتعلق الأمر بك تحديدا. لدى وربما لدى كثيرين من القراء انطباع قوى بأنك تلعب فعلا، ليس بالمعنى السلبى طبعا.. عندما قلت عن بليغ إنه «كان مستخفا بكل شيء» فهل كنت تتحدث عن نفسك أو ما تحب أن تصل إليه يوما ما؟
صاحب وصف بليغ بأنه كان «مستخفا بكل شيء» كان طلال فيصل، الشخصية المتخيلة فى الرواية، والذى كان عاشقا خائبا يرى فى بليغ ما يريد هو الوصول إليه بلا جدوى، عدم التورط شعوريا والاستخفاف بكل شيء، بينما رأينا فى النصف الثانى من الرواية أن بليغ كان تعيسا تماما لأنه كان جادا تماما، تعامل مع الحب والعلاقات العاطفية والموسيقا والزمن بكل جدية.

كان يلعب «بجدية» إن صح هذا التعبير. أظن هناك فارقا بين الاستخفاف وبين اللعب – الاستخفاف وضع مساحة بينك وبين الناس والأشياء، التعالى والسخرية لخلق مساحة آمنة ربما بغرض الحماية من الصد أو الهجران أو خيبة الأمل، اللعب عكس ذلك تماما، اللعب هو التورط كاملا فيما تفعل دون التفكير فى النتائج، الاستغراق فى الفعل ذاته والاستسلام لفيض المتعة بلا خوف أو توقعات. الاستخفاف ابن الخوف أما اللعب فنقيضه، هذا هو ما أحب الوصول إليه، اللعب - ولكن بكل جدية وانضباط ممكن.


أصدرت الرواية الجديدة وواصلت الاختفاء من على مواقع التواصل وهو أسلوب لم يعد متبعا الآن على الأقل بعد أن سيطرت تلك المواقع على عملية القراءة والترويج للكتب. هل تختبر المسألة؟ 
وسائل التواصل الاجتماعى ليست شرا كلها كما قد يفهم من اعتزالى لها، فقد منحت القراء والنقاد حرية عظيمة فى النقاش والتعليق والتعبير، ولكنها سبب فى مشكلتين كبيرتين عجزت عن التعامل معهما، الأولى هى الوقت الضيق بين كل «ترند» والآخر، فيصير لديك مجموعة هائلة من الملاحظات أو الآراء السريعة ولكن بلا وقت كاف لتتحول لأفكار يمكن مناقشتها أو تأملها أو حتى الرد عليها. هناك فارق كبير بين ملاحظة ذكية أو بليغة وبين الفكرة المكتملة التى تحتاج وقتا لاختمارها وصياغتها، كثيرا ما كنت أجد تأملات شديدة الروعة وأشعر بالحسرة.

لو أتيح الوقت والانتباه الكافى لها لصارت شيئا آخر، لكنها بحاجة لوقت، والوقت - كما تعلم هو العدو اللدود للرأسمالية ولاقتصاد الانتباه، والله غالب! هذه المشكلة الأولى، المشكلة الثانية هى الأكثر خطورة، خلق هذا الوهم الجماعى بأننا جميعا نقف على مسرح نستعرض أمام جمهور خيالى تفاصيل حياتنا وسفرنا ومشترياتنا. كنت أشعر بالحرج.

وأنا أجد رجلا فاضلا محترما ينشر بكل حماس لجمهور عريض ممن لا يعرفهم ولا يعرفونه طبق البسلة الذى طبخته زوجته، أنا مالي! بالهناء والشفاء، لكن لماذا تشاركنى صورة طبق البسلة هذا، وأشعر بحرج أكبر من زميل كاتب يصيح بدون مبرر مفهوم: روايتى كذا هى الأكثر مبيعا فى مكتبة كذا، يا سيدى ألف مبروك، لكن دع القراء يتحدثون عن كتابك الأكثر مبيعا.

ولا تقم أنت بهذا الدور الجليل! هذا الوهم أننا نقف جميعا على المسرح كان يشعرنى بالحرج، وسرعان ما تطور لزُهد فى السوشيال ميديا بكاملها. لعلّ المشكلة عندى أنا، لعل هذا هو طابع هذا الزمن والذى لا يستطيع أحد الوقوف فى وجهه، لا أعرف، لكن ما أعرفه يقينا هو أن الفيسبوك ومواقع التواصل بصيغتها الحالية تسبب لى حرجا لا يحتمل ولا أستطيع التعامل معه.


أفهم من ذلك أنه رأى واضح برفض هذا الأسلوب الذى أصبح مفروضا على الجميع لضمان الحد الأدنى من النجاح؟ يهمنى فى السياق نفسه أن أعرف كيف تنظر للقارئ ومتى تفكر فيه؟
هذا الأسلوب لا أراه مجديا بأى حال من الأحوال، لم يحدث فى التاريخ أن صنعت الدعاية أو الترويج كاتبا أو فنانا، يمكنها أن تساعد فى ذيوع أعماله أو اسمه لفترة من الزمن، لكن لا بد أن يكون هناك محتوى ما حقيقى وجذاب يجعل الناس تقبل عليه وتشتريه. يعرف كل من درس الدعاية والإعلان أن الدعاية الشخصية من واحد لآخر word to mouth هى أفضل طريقة للترويج لأى عمل وأكثرها صلابة وفاعلية .

وهو ما يعنى أن الطريقة الوحيدة للنجاح أن يكون لديك فعلا ما تقدمه، أو بعبارة الموسيقار محمد عبدالوهاب «لا شيء يقف فى وجه الجمال»  بعيدا عن ذلك يهمنى أن أعرف أين سيصل ما كتبت منفردا وبعيدا عن الدعم المباشر منى، يمكن أن يجاملك أحدهم بكتابة مقال ويمكنك أن تقيم علاقات وسط الكتاب أو النقاد أو حتى القراء لتضمن ما تسميه أنت بـ«الحد الأدنى للنجاح» لكنى بعد قليل أو كثير سأغادر الدنيا وسيبقى الكتاب بمفرده مواجها الزمن والحقيقة، لديّ فضول إذن لمعرفة ما يستطيع الكتاب إنجازه بعيدا عن صاحبه، لديّ فضول لمعرفة ما إذا كان لديّ ولدى كتابتى جمال حقيقى لا يقف فى وجهه شيء، أم أن المسألة بكاملها وهم فى رأسى أنا فحسب.    


أعمالك كلها تقريبا تدور فى فلك الطب النفسي. كيف ساهم هذا التخصص فى عملك ككاتب؟ وكيف ترى وجهة النظر التى لا تحبذ خلط الطب النفسى تحديدا بأشياء أخرى حتى لو كانت الكتابة، على اعتبار أنه إذا قرر الكاتب أن يتحدث عن علة أو اضطربًا محددًا فلا بد وأن يلتزم ببعض الضوابط العلمية التى ربما تحيطه بقيود خانقة.


ربما تكون الفائدة الوحيدة للطب النفسى التى حققها الأديب – بخلاف أنها مصدر دخل طبعا – هو التمرين على التمهل؛ التمهل فى السماع والتحليل والتشخيص، المواجهة المباشرة لتلك الحقيقة البديهية، أننا أعقد مما نتصور، وأن هناك طبقات بعضها فوق بعض تغطى منبع الألم الحقيقى.

وأن دوافع هذا الألم عادة ما تكون متشابكة ومتداخلة بين الماضى والحاضر وبين الشخص والآخرين، أننا بحاجة لوقت طويل جدا حتى نعرف الكلمة المناسبة لوصف الشعور والقبض على اللحظة الأولى التى بدأ فيها الخلل. تعلمت من الأدب ما تعلمت من الطب النفسى، ألا أصدر الأحكام، فإن كان ولا بد، فلنتمهل قبل فعل ذلك. أما بخصوص علاقة الاثنين ببعضهما البعض.

فالأدب سابق بخطوة: دوستويفسكى وصف فى عمله الفذ «مذكرات من قبوي» بحساسية وبصيرة، الخوف والضعف الكامن فى الشخصية النرجسية أدق وأفضل مما فعل الطبيب النفسى أوتو كورنبرج – والذى ندرس كتبه فى فهم الشخصية النرجسية – بعده بـ ١٠٠ عام! من ناحية أخرى، الطب النفسى يسبق الأدب بخطوة وهى انشغاله بالإصلاح وتقويم الخلل بخلاف الأدب الذى يتوقف عند الملاحظة والرصد، أظن أن العلاقة بينهما قديمة قدم الاثنين وأن الصعب هو كتابة أدب لا يتداخل مع الطب النفسى لا العكس، أما إن كانت الضوابط العلمية فى مصلحة النص أو قيودا تخنقه فهذه مسألة تحددها موهبة الأديب وتمكنه من صنعته وسيطرته على الموضوع الذى يكتب عنه.


بعد «الغابة والقفص» هل ستعود مجددا لروايات السيرة؟ تحدثت عن مشاريع روايات فى هذا الاتجاه منها رواية عن سيد قطب وأخرى عن محمد عبد الوهاب، وكان هناك «التجربة الألمانية» أيضا وإن كانت فى اتجاه آخر، إلى أين وصلت هذه المشاريع؟ وكيف تختار موضوعاتك بشكل عام؟
كما ذكرت، رواية قطب ينبغى أن أعيد كتابتها من جديد، بعد أن كنت قد انتهيت منها لأن رؤيتى للموضوع تغيرت بالكامل، وأظن أن بها ستنتهى علاقتى بهذا النوع الفنى، رواية السيرة، والذى قدمتُ له كل ما يمكننى تقديمه ولا أظن أن لديّ أكثر مما فعلت، ليتبقى موضوع رواية كنت قدد أعددت لها قديما، رواية عن الموسيقار محمد عبدالوهاب وعلاقته بالموت.

عن السنين الأخيرة فى حياته وإعداده لأغنية من غير ليه، انتهيتُ من الجانب البحثى من هذه الرواية قبل أعوام وحاورت كل ما كان ينبغى محاورتهم لكن بما أنى شخصيا وحتى الآن لم أواجه مسألة الموت بشكل حقيقى، فسيكون من الوقاحة أن أكتب عن موضوع لا أعرفه، أظن هذه الرواية سأؤجلها لما بعد سن الستين مثلا.

والتجربة الألمانية كما أسلفت تحول جزء منها للغابة والقفص أما الجزء الثانى فهو ما أعمل عليه الآن، فى رواية «هاجس مصرى طويل» والتى أخطط أن تصدر العام القادم، لتكون جزءا من ثلاثية بقيتها «حلم مصرى طويل» و«سؤال مصرى طويل». 


هل أنت راض عن التعامل النقدى مع أعمالك واستقبال القراء لها؟ وهل ترى أنك مقدر على مستوى الجوائز؟ وبشكل عام هل تنشغل بموقعك بين كتاب جيلك أو بين كتاب مصر عموما؟ أم تخليت عن هذا كنتيجة طبيعة للغياب. الغياب المادى أقصد نتيجة الغربة


أعتبر نفسى محظوظا، فقد نشرت عملى الأول بمقدمة للراحل الدكتور جلال أمين، وفى دار نشر ميريت التى قدمت ولا تزال تقدم أهم الأسماء فى حياتنا الأدبية، ثم فازت روايتى الثانية بجائزة مرموقة هى جائزة ساويرس، ووسط عدد من الأسماء – سواء من لجنة التحكيم أو من الفائزين - أتشرف بوجود اسمى بينهم، أما الرواية الثالثة «بليغ» فقد تم الاحتفاء بها بشكل كبير وستتحول لمسلسل تلفزيونى قريبا. يقول الألمان فى وصف مثل هذا الوضع المحظوظ «لا يحق لك الشكوى بأى حال»  أما عن الموقع بين كتاب الجيل فهو يتطلب أن تكتمل المشاريع الأدبية لكل منّا أولا حتى يتضح موقع وإنجاز كل كاتب وإضافته التى قدمها للأدب المحلى أو العالمى.

وعندها فقط تستطيع مقارنة هذه المشاريع المكتملة ببعضها البعض، وللأسف الشرط الأساسى لاكتمال هذه المشاريع هو موت أصحابها حتى يمكن الحكم عليها بموضوعية وتجرد، بما يعنى أن الطريقة الوحيدة لمعرفة إنجازى الأدبى وموقعى بين أبناء جيلى هى أن أموت، وهو ما لا أريده أن يحدث – الآن على الأقل.


هل تتابع حركة الكتابة والنشر فى مصر الآن. ماذا تقرأ وما الذى يعجبك؟
فى مصر الآن حركة نشر نشيطة وحيوية جدا، أرجو صادقا ألا تتأثر بالأزمة العالمية المتوقعة وخصوصا أسعار الورق، لدينا روايات من كافة الأنواع واتجاهات كتابة بالغة التنوع والثراء، ورش كتابة تجتذب قراء وكتابا من كافة الأعمار وأعمال أدبية تنتقل للسينما والدراما، هناك أسماء راسخة تواصل الإنتاج بدأب وأسماء جديدة تقتحم طريقها للجوائز والقراء.

أما جمهور القراء فهذا هو أجمل وأصدق شيء الآن، الذين يكتبون رأيهم بحرية واهتمام على الفيسبوك والجودريدز، يمكنك أن تختلف معهم كما شئت لكنك لا تملك إلا أن تعجب بالصدق والحماس، والحرية التى منحتها لهم وسائل التواصل، ليكون الجمهور – ربما لأول مرة فيما أزعم – متقدما بخطوة على النقد بنوعيه، الصحفى والأكاديمي. 


ما الموقف بالنسبة للترجمة هل هناك أى مشاريع جديدة؟
هناك قائمة طويلة من الأعمال والأسماء التى قرأتها وأرغب فى ترجمتها، ولكن نظرا لضيق الوقت والانشغال حاليا بما أريد كتابته صرتُ أكتفى باقتراح هذه الأسماء والعناوين على دور النشر ليترجموها بمعرفتهم، لعل وعسى! الترجمة كانت مرحلة مهمة ومفيدة وممتعة جدا، والفترة التى عملتها فى هيئة الكتاب.

وتحت إشراف السيدة العظيمة سهير المصادفة – أفادتنى بشكل مذهل، وحتى الآن أنصح كل مقبل على الكتابة بالترجمة أولا، ولا يعنى هذا بالضرورة أن ينشر ما يترجم، ولكنها تدريب ممتاز على الحساسية اللغوية والفروق بين الكلمات. أظننى لو ترجمتُ الآن سأعمل على كتب متخصصة فى المجال النفسى أو على أحد الكتب فى قائمة الكلاسيكيات المنسية، وهى قائمة أعددتها قديما لكلاسيكيات الأدب العالمى التى لم تدركها الترجمة للأسف بعدُ.


أخيرا لماذا تظهر أخبار الأدب فى أغلب أعمالك؟ لم أستطع تجاهل هذا السؤال فى الحقيقة
صدرت أخبار الأدب لأول مرة وأنا تقريبا فى الثامنة أو التاسعة من العمر، لا أزال أحتفظ بأعدادها الأولى التى كنت أشتريها بانتظام وأحلم باليوم الذى أرى فيه اسمى منشورا على صفحاتها، ثم تعرضت أمى وهى فى المطبخ ذات مرة لحريق، حريق بسيط لم يكن له أى أثر يذكر.

ولكنى انفعلت بالمسألة جدا وكتبت قصة بعنوان «احتراق أم» وأرسلتها بالبريد لتنشر فى أخبار الأدب، ولم يحدث ذلك للأسف، وظل لدى حلم مُعلق أن أعرف مصير هذه القصة، أو رأى من قرأها فيها، وحين مات الأستاذ جمال الغيطانى- رحمة الله عليه- أدركت أن الحلم مات بموته وأنى لن أعرف مصير قصتى هذه أبداً. ربما يكون هذا التاريخ الطويل والعاطفى هو السبب لظهور أخبار الأدب فى أعمالى بشكل متكرر.
 

اقرأ ايضا | يوسف القعيد: «الكنيسي والغيطاني» كانا يعتبران دورهما كمراسلين حربيين رسالة وليس