فى بداية اندلاع الأزمة الأوكرانية فبراير الماضى تم استدعاء نسخة سبيعينية مما يسمى بالمجاهدين ، فمع دوى طلقات المدافع خرجت الدعاية الإخوانية المدعومة من تيار العولمة الأمريكى تعيد من جديد الحالة الأفغانية بصيغة أوروبية ،بدأت وسائط التواصل الاجتماعى وهى الأداة الحديثة التى لم تكن متواجدة فى النسخة الأفغانية تنشر بكثافة قصص "بطولات المجاهدين الأوكرانيين" وكأن أوكرانيا تحولت إلى دولة ذات أغلبية مسلمة فجأة.
وصلت بلاهة الدعاية الإخوانية المعولمة فى الأسابيع الأولى من الأزمة إلى الترويج لقصص المجاهد أبوفلان والمجاهدة أم علان الذين سقطوا فى ساحة القتال والوغى ضد العدوان الروسى دفاعًا عن حرية كييف، لكن طبيعة الصراع الروسى / الأوكرانى من حيث تداعياته وأطرافه أظهرت سريعًا مدى سذاجة استدعاء هذه النسخة السبيعينية "الجهادية " من مخازن التاريخ.
هذه الهزيمة السريعة وعدم قناعة ملايين المستهدفين بهذه الدعاية ورداءة ألعاب السبيعينيات جعلت التيار الأمريكى المعولم فى أغلبه والقابض على السلطة حاليًا فى البيت الأبيض يتشكك فى جدوى استخدام مايسمى بالإسلام السياسى لخدمة مصالحه وإن كان الجناح المتشدد داخل هذا التيار يصرعلى رهاناته ويستمد من مخططات هيلارى/ أوباما الفاشلة قوة دافعة لأوهامه بل يرفع من معدلات الوهم بخلطات غريبة يروج لها منظروه ووسائل دعايتهم مثل الإخوانى اليسارى والإخوانى الليبرالى والإخوانى الذى يستطيع التحالف مع رموز نظام فاسد سقط ليعيد إحياءه.
يعمى التشدد بصر وبصيرة المتشدد وخدمه عن الحقائق التى قد يراها الجميع ولكنهم الوحيدين الذين يغفلون عنها عن عمد أو عن جهل ، تقول الحقائق إن الفاشية الدينية ونسخ مايسمى بالإسلام السياسى بكافة درجاته وأشكاله تنهار منذ يونيو 2013 فى كافة أرجاء الشرق الأوسط وأن ماصنعته أيادى الاستعمار الأنجلو /أمريكى من مخططات على مدار قرن ويزيد لتخليق مسخ ونسخ متعددة ممايسمى بالإسلام السياسى ووزعتها على بلاد الشرق الأوسط ،هذه المخططات والنسخ تتآكل الآن ثم تتلاشى على المستوى السياسى والأهم على المستوى الاجتماعى .
تشتعل فى طهران الآن النيران فى النسخة الشيعية من هذا المسمى بالإسلام السياسى، لهذا الاشتعال أصل يعود إلى 43 عامًا مضت يوم أن وصل الخومينى إلى مطار العاصمة الإيرانية محمولا على طائرة فرنسية برعاية أمريكية انضم الخومينى إلى الملالى المنتظرين فى تحفز للانقضاض على السلطة وسرقة الثورة من الشعب.
تم تزويد الخومينى والملالى "بكتالوج" أنجلو/أخوانى تم تصميمه فى العام 1928 تطابق التصميم مع اختلاف طفيف فى المصطلحات بدلا من المرشد العام للجماعة أصبح هناك المرشد الأعلى للثورة، النظام الخاص فى الجماعة الفاشية المسئول عن القتل والاغتيالات تحول فى نظام الملالى إلى الحرس الثورى ومن مجلس شورى الجماعة إلى مجلس تشخيص النظام فى الطبعة الإيرانية ،سقطت الدولة فى إيران وصعد التنظيم وشنق الثائرون الباحثون عن الحرية على أعمدة الإنارة فى شوارع طهران باسم الدين.
هل مصادفة أن جيمى كارتر الرئيس الأمريكى الذى انطلقت " ثورة " الملالى فى عهده يكون هو نفسه الزائر الأمريكى الأول لمكتب إرشاد الجماعة فى المقطم بالقاهرة عام 2012بعد ثورة أخرى ؟ أنه سؤال متسع على كثير من الإجابات لكن كارتر وآل كلينتون والتلميذ الذى تفوق على أساتذته باراك أوباما والآن بايدن جميعهم مؤمنون بالعولمة والرعاة الرسميين لما يسمى بالإسلام السياسى .
لاتصدق مشاغبات نظام الملالى مع سياسات الولايات المتحدة فى المنطقة ففى بعض الأحيان لا يشترط فى الحليف أن يكون مطيعًا بل المطلوب منه القيام بدور بلطجى الحى حتى يستطيع البلطجى الأكبر بأفعال البلطجى الأصغرابتزازالودعاء المسالمون من الدول مدعيًا أنه يقدم لهم الحماية.
قضى نظام الملالى 43 عامًا فى السلطة متحكمًا فى إيران باسم الدين فارضًا على واحدة من أقدم الحضارات النسخة الشيعية من ما يسمى بالإسلام السياسى حتى يحقق مصالحه وينشرخزعبلات "ثورته" عن طريق ميليشياته التى تعمل على تفتيت الدولة الوطنية فى العالم العربى العدو الأول للعولمة وهى نفس طريقة الجماعة الإخوانية فى النسخة السنية تحت راية وحماية العولمة الأمريكية.
أربع سنوات عارضة هى فترة حكم ترامب تخلت فيها العولمة عن السلطة فى البيت الأبيض فرفعت الولايات المتحدة يدها عن البلطجى الصغير بل خرجت تطارده وتقتنص قيادات نظام الملالى لكن مرت السنوات الأربع سريعًا فعادت العولمة بعد معركة شرسة فى واشنطن ويفرح الملالى بعودة حلفائهم بعد غياب.
لم يتصور الملالى وأرباب العولمة أن وفاة فتاة فى بداية العشرينات اسمها مهسا أمينى ستكون عود الثقاب الذى يحرق النسخة الشيعية من مايسمى بالإسلام السياسى خرجت نساء إيران يطاردن شرطة الأخلاق ويخلعن الحجاب الذى فرض عليهن لأربع عقود لأنهن يعلمن جيدًا مدى فساد حكم الملالى وأن هذا الحجاب الذى قتلوا مهسا أمينى بسببه وباسم الفضيلة ماهوإلا حيلة استخدمها نظام الملالى لفرض سيطرته السياسية والقمعية على إيران وإخفاء عورة فساده .لم تكن النساء فقط من خرجن فى شوارع المدن الإيرانية بل مئات الآلاف من الشباب الذى كفر بنظام حكم يريد أن يعيش فى القرون الوسطى تحت رعاية حداثة العولمة.
قد يسقط الآن أو بعد حين نظام الملالى لكن المؤكد أن فيديوهات الشابات الإيرانيات والشباب الثائرين التى يراها العالم تؤكد وتقول بوضوح إن مايسمى بالإسلام السياسى بنسخته الشيعية غير مرحب به فى الإراضى الإيرانية وأن على نظام الملالى أن يحمل أفكاره الصفراء البالية ويرحل ...ولاعزاء للرعاة المعولمين.
فى العام 2018 صرح ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان إلى صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية أثناء حوار معه أن الولايات المتحدة طلبت من السعودية نشر الفكر الوهابى فى العالم الإسلامى لمواجهة السوفيت أثناء الحرب الباردة وأن بلاده الآن تعود إلى الطريق الصحيح.
كان وقت صعود النسخة الوهابية فى المملكة بهذه الرعاية الأمريكية أو ما أطلق عليه الصحوة فى العام 1979 وهو نفسه العام الذى تم تدشين فيه النسخة الشيعية مما يسمى بالإسلام السياسى فى إيران والحقيقة أن حجم الدعاية الذى قدمته الولايات المتحدة للترويج للنسختين كان غير مسبوق وبتنفيذ إخوانى مما جعل التطرف فى الشرق الأوسط هو القاعدة والتسامح استثناء.
قبل التصريح الذى قاله ولى العهد السعودى الكاشف لحقيقة ماحدث أدركت القيادة الشابة فى المملكة أن الوقت قد حان للتخلص من هذه النسخة التى فرضت عليها لأنها أمام مجتمع نسبته الغالبة من الشباب الرافض لأجواء القرون الوسطى وأن الطفرة الاقتصادية البترولية التى حدثت داخل المملكة جعلت هذا الشباب إما يدرس فى الخارج أو على الأقل شاهد طبيعة التطور الذى لايتوقف فى العالم المحيط به ولايمكن فى مجتمع يحقق شبابه النسبة الأكبر فى استخدام وسائل التواصل الاجتماعى بالوطن العربى أن تمنع المرأة من قيادة السيارة بنفسها وخلال سنوات قليلة وبسرعة غير متوقعة تآكلت النسخة الوهابية فى المملكة أمام قرارات التحول المجتمعى التى اتخذتها القيادة الشابة.
يمكن أن ندرك غضب الفاشية الإخوانية من التطورالمجتمعى الحادث فى المملكة لأن هذا التطور أنهى الوصاية الإخوانية على عقول هذا الشعب الغنى بشبابه وموارده وأيضا ندرك حسرة ذيول الإخوان من المتسلفة بسبب انقطاع " السبوبة " الوهابية التى كانت تغدق على شيوخ المتسلفة بغير حساب وبنت لهم القصوراشترت لهم السيارات الفارهة لكن الأكثر غضبًا مما يحدث من تحول مجتمعى فى المملكة هم المعولمين الأمريكيين المسيطرين فى واشنطن ففى كل يوم يتم شن الحملات الدعائية وإطلاق التهديدات ضد كل ما تتخذه المملكة وكأن العولمة تشجع وجود النسخة الوهابية عن أجواء الحرية والحداثة .
لاغرابة فى ذلك لأن النسخة الوهابية تخدم مصالحها فهى تعنى انغلاق المجتمع وتنفيذ الأوامر دون نقاش فيكون المجتمع المطيع السائر بالفتوى وراء شيوخ التسلف فى خدمة سياسات بعيدة تمامًا عن مصالحه لكن هذه السياسات وأغراضها تتحول إلى مليارات الدولارات فى حسابات المعولمين بواشنطن.
يبدو أن الحليف الأكبر سابقًا للعولمة أو البرجماتى الأول فى منطقتنا المضطربة رجب طيب أردوغان يقفز هو الآخر من قطار العولمة ناسيًا حجم الدعاية التى استقبله بها المعولمون فى بداية الألفينات مع توليه السلطة حيث اعتبروا نسخته الإخوانية التى يقدمها هى النموذج الحقيقى للمزج بين الإسلام والعولمة.
قفز البرجماتى من القطار أمام بهاء زعامته لمنظمة الدول التركية التى تم تأسيسها مؤخرًا وتضم دولا من آسيا الوسطى تحمل فى أغلبها عداءً تاريخيًا للإخوانية ومايسمى بالإسلام السياسى ولايمكن لهذه الدول أن تقبل البرجماتى زعيمًا وهو يحمل فى يده هذه النسخة الفاشية الإخوانية ، على الفور أعاد البرجماتى النسخة الإخوانية إلى صانيعها الأوائل فى بريطانيا العظمى متخليًا عن مشاريع العولمة والمعولمين.
تتعرض العولمة ونسخها الإخوانية إلى انهيارات مستمرة على مستوى الشرق الأوسط حتى فى الداخل الأمريكى نفسه لكن تبقى القاعدة الأهم أن المجتمعات دائما ماتبحث عن مشروع جامع على المستوى الحضارى والسياسى ولاتقبل الفراغ وفى هذه اللحظات التاريخية والتحولات الفارقة فى المجتمع الدولى يطل مشروع ومفهوم الدولة الوطنية المستقلة كحل عادل ولكنه يحتاج إلى دفع وصياغة شاملة ليكون هو الإطار الجامع لطموحات شعوب منطقتنا التى عانت طويلا من العولمة ونسخها.