مهاب عبد الغفار يكتب عن تاريخ الرمز والسر في قصص أمل نصر

أمل نصر
أمل نصر

إن أول ملمح للعمل الذى قدمته أمل نصر (قصص الأرض) هو اشتباك صياغتها البصرية مع الموضوع الذى أشارت لمرجعيته وتلمست دلالاته فى كتاب (تعويذة الحسى) لديفيد إبرام

اشتغلت أمل نصر على التلقائية كمنطق لصياغة مادتها التشكيلية

ليست اللغة فى الحقيقة فقط مجموعة من الإشارات والعلامات ذات الاشكال المستقلة بذاتها، ولكنها تختلط وتتشابك جيداً بأشكال وعلامات العالم لتقيم معها شبكة من الدلالات، حيث تلعب تلك العلامات أدواراً مختلطة.. دور المحتوى والإشارة.. دور السر والدلالة، أنها تتعدى كونها فقط وعاء، ولكنها كما نستفهمها فى كيانها الخام والتاريخى موضوعة داخل العالم.

حيث نجد أن الأشياء تخفى لغزها وتظهره كلغة، لتقدم الكلمات نفسها للبشر كأشياء يتوجب فك رموزها، لأن أى استعارة أو قراءة لكتاب لمعرفة الطبيعة ليست سوى مظهر مرئى لتحول آخر أشد عمقاً بكثير، يرغم اللغة أن تندمج من جهة العالم بين النباتات والأعشاب والأحجار والحيوانات.


إننا هنا نتورط بشغف كجزء من ذلك المشروع البصرى الذى تقدمه أمل نصرصائغة لمفردات لغة تتحقق كطقس معرفى دلالى تختلط فيه تواريخ اللغة المكتوبة مع تواريخ المعارف الأولى للدلالات البصرية والصياغات الشكلية، تلك التى تناقلتها المجتمعات الإنسانية كخبرة تراكمية، حتى تفكك المدلول الرمزى لأشكال التواصل والتفاعل، بغية الوصول إلى منطوق يدمج معارفها وخبراتها مع العالم المعاش كمادة حية، وسوف نتعرض بالتفصيل لذلك النسق التفاعلى من خلال مناقشة مفهومية العمل.


إن أول ملمح للعمل الذى قدمته الفنانة أمل نصر (قصص الأرض) هو اشتباك صياغتها البصرية مع الموضوع الذى أشارت لمرجعيته وتلمست دلالاته فى كتاب (تعويذة الحسي) لديفيد إبرام، كجانب يخص المفهوم الذى انطلق منه مشروعها، ومن جهة أخرى نتماس مع العمل الذى تحقق فى ذلك المشروع من حيث، معالجة السطح والخامات المستخدمة - التكوين والمقاطع بين المنظور والتصميم - طبيعة اللون وكينونته، واستخدام الخط كصيغة تتماهى مع الموضوع.


تعويذة الحسى
يتعرض الكتاب باختصار للكثير من التفاصيل مثل، ايكولوجيا السحر وعلاقة الإنسان بالطبيعة – وتشمل التجربة الخاصة للكاتب، ويتعرض للظاهراتية لدى أدموند هوسرل واستيضاح علم الظواهر، ثم اللغة ونشأة الأبجدية، والزمن والفضاء الكونى، وكتعريف بالكتاب أو بشكل محدد أكثر، المنطق الذى تجسد فى عمل الفنانة،نقرأ فى المقدمة الخاصة التى صاغتها مترجمة الكتاب:
«إن الرؤى الصوفية عرّفت حال الإنسان على أنه الكون الأصغر.

والذى يطابق الكون الأكبر بكل ما فيه، ولعل هذه الحالة الصوفية – الحسية هى ما يقصد ديفيد إبرام فى التواصل الذى يطرق أبوابه ليحييه لدى الإنسان الحديث كى يستعيد علاقته العضوية والمنسية مع أصل الكون، وبالتالى مع ذاته التى صارت موضع تشىء، تماماً كما هو موضع الكون والطبيعة فى مواجهة الإيمان المطلق بعالم بشرى مغلق الحدود حتى فى وجه إخوانهم من البشر».


إن تلك المقدمة لا تتعدى أن تكون إحدى لمحات المترجمة فى سبر أغوار النص المدهش والمتعدد المستويات للكتاب، ونحن إذ نفتح مسارباً لقراءة نص الكتاب إنما نرتجى من هذا التفاعل مع تجربة الفنانة من داخل الموضوع المعرفى الذى قامت وتأسست عليه فكرتها ومثيراتها.

وليس فقط تفحص العلاقات الجمالية فى الشكل والعمل المطروح أمامنا، حيث إن أهم الأفكار التى ارتكز عليه الكاتب هى اعتبار أن التواصل عبر الاندماج مع العالم الذى نعيشه هى السر وراء كل تناغم خصب.


أبجدية
صاغت الفنانة أمل نصر مجموعة عملها ما بين التصوير والرسم حيث تحققت فكرة الكتاب المصور للفنان /بداية/ من خلال القصاصات والصفحات والمطويات التى حفظت فى صندوق الطاولة الزجاجى، لقد كانت تلك القصاصات والصفحات توحى وكأنها قطع شقفت من صخور قديمة فى كهف عتيق أبقت عليها الطبيعة كدلالة إنسانية على تلك الوحدة بين الإنسان والمخلوقات، حيث تتحول المخلوقات فى تلك الرسوم التى تتنوع بين الصغر والدقة لتأخذ أشكالاً تندمج فيها كائنات الطبيعة ما بين الإنسان وهوام الأرض.

بين الحشرات والحيوانات، بين الأعشاب والصخور، لتتخذ فى بعض الأحيان مظاهر مدمجة فى كيانات بعضها البعض، قامت الفنانة بنقلها إلينا من أصول رسوم بعض الحضارات القديمة ومنحوتاتها، لكن الفنانة فى جملتها هذه لم تحلنا بصرياً للجماليات الشكلية لتلك الأصول فقط، بقدر ما استطاعت أن تشكل من خلال تجاور تلك الوحدات أبجدية جديدة تخص قانون العمل، أبجدية ترتكز إلى قوام متفرد من المعرفة.إن تلك التلقائية التى اعتمدتها الفنانة كخيط ممتد يتخلل رؤيتها واستقصائها لتلك الأشكال تدعونا إلى قراءة خاصة بمحاور المفهوم التى انطلقت منه رؤية الفنانة، وهذا المفهوم هو الدعوة إلى إعادة رؤيتنا للعالم، بمعنى إعادة تأملنا للأشياء والكائنات حولنا، تلك الأشياء التى تمر علينا ونمر عليها دون أن ندعها تتخلل طاقة معرفتنا وإدراكنا.

وذلك لأننا نتحرك داخل ثقافة نفعية مستهلكة طوال الوقت مما جعل علاقتنا بالأشياء تتلخص فى المنتفع بها منها وليس الاندماج فيها باعتبارها تشكل مفردات العالم الذى نعيشه ونتشكل فيه معرفياً وفيزيائياً ومن جهة أخرى تبعث الفنانة بذلك الصوت القصى من بين جنبات الطبيعة بأشكالها المتعددة لتؤكد وحدة المخلوقات بمعنى الاندماج الكلى فى الوجود الذى يستوجبه حضورنا البشرى بين كائناته حيث عاش البشر أحقاباً تاريخية أوصلتهم فيما نعيشه الآن إلى ما يسمى بالحقائق العلمية.

مما يعنى أن الظواهر لا ترقى إلى الحقيقة إلا عبر إثباتها رياضيا وقياسياً وهو ما يسمى مجازاً بالعلم الوضعى، الأمر الذى عزلنا إنسانياً من التفاعل مع الوجود الذى نستمد منه المفاجأة والدهشة، إن العالم الذى نجوع فيه، ونمارس الحب ليس فقط مادة علمية لها محددات موضوعية، بالرغم من كل الحقائق الميكانيكية التى تحيط بنا الآن فإن العالم الذى نجد فيه أنفسنا قبل أن نبدأ بإحصاء وقياس دنياه ليس مادة ميكانيكية ولكنه حقل حى مفتوح، وديناميكى حيوى فى أرضيته ومتغيراته وروحانياته الخاصة.


وطبقا لنفس الرؤية التى استوضح بها ديفيد إبرام الرؤى لظاهراتية هوسرل.. فإن الظواهر تنبئ عن نفسها، بحيث يتم تناولها فلسفياً ليس من خلال إيجاد تفسيرات لها أو مبررات حضور، ولكن من خلال استفهامها فى مادتها الخام، بمعنى الوقوف على صفاتها وتوصيفها وكينونتها الحاضرة فى حال تفاعلها.

وهو فى الحقيقة الكور الداخلى لمحاولة أمل نصر فى صياغة لغة بصرية خاصة ومغايرة ومدهشة، طبقاً لاندماج أدائها التشكيلى مع عناصر الحياة والطبيعة والإرث البصرى للحضارات والثقافات القديمة، وحتى ما قبل ظهور الكتابة حيث أوجدت تلك الحضارات أنماطاً بصرية كانت بمثابة لغة وطقوس للتواصل مع الطبيعة والآخرين والذى تأسست من تراكمه كيانات اجتماعية بشرية استطاعت أن يكون لها امتداد معرفى تحركت عبره جملة الوعى المدهشة، تلك التى تلقتها الفنانة وفرعت منها شعاعاً لرؤيتها التشكيلية (لا نحتاج هنا للإشارة للدراسات التى تناولت مراراً رسوم مجتمعات ما قبل التاريخ، لأنها مبحث مستقل فى ذاته).


تفاعلات البناء 
اشتغلت الفنانة /بناء على ما أسبقناه/ على التلقائية كمنطق لصياغة مادتها التشكيلية، فنجد التكوين يبدو كحالة انفعال بصرى، وينضبط بقانون ذلك الانفعال، فالأشكال والعناصر ليست ثابتة كما تعرفها العين فى الطبيعة، وإن كان هناك الكثير من الفنانين التشكيليين (دون تحديد) قد ساروا على نهج مشابه فى صياغتهم لمسطح العمل، إلا أننا فى حالة أمل نصر نجد التصرف فى العناصر وحضورها الخام الأولى إن جاز التعبير هو المحرك لاتجاهات الابصار والحركة فى العمل، فالمسطح يبدو فى حالة من التفاعل التى لا تهدأ.

بين العناصر المندمجة ما بين الإنسان والحيوان وحشرات الأرض، وبين مسار مسطحات الطبيعة المتصورة فى صيغة العمل، لنجد المنظور يحاور قانون الإبصار كرسم خريطة بدائية لعالم الأرض، فهو تارة يدور ويلتف حول الموجودات، وتارة أخرى نجد إشارة لمساحات غير مكتملة للنهر أو الماء حول اليابسة ومتخللها، أو جزيرة عائمة، لتطرح كل تلك الانفعالات البصرية للتصميم سؤالاً حيوياً عن كيفية اندماج مفهوم العمل فى طاقة أدائه. إن ذلك فى الحقيقة يتضافر مع الصيغة الفكرية التى تجسدها الفنانة فى غنائيتها.

بل نقول فى ترنيماتها الصوفية بصرياً، حيث تتصاعد حالة الوجد والتماهى فيما بين المسطح وحالة الأداء الصافية، والتى تستمد صفاءها من الإخلاص.إن ذلك الاندماج هو طريقة الرؤية وهو الذى حفظ قانون الحركة والثبات فى تكوين العمل على المسطح، بالإضافة إلى تنوعات العناصر وتموضعها داخل العمل.فنجد الأفق يظهر بعدة صيغ تلقائية تماماً، إما بصورة متعرجة أو كفاصل لونى، ليحكم ثبات العناصر وحركتها إلى حد ما غير أن القيمة لا تلفتنا فقط إلى ثبات البناء من عدمه، لأن التلقائية هى قانون يلف العمل بشمولية و يبلور صيغة الأبصار فيه.


أبعاد الطوطمية والإلهة الأم
قامت الكثير من دراسات علم الأنثروبولوجى للمجتمعات القديمة وما خلفته من نصوص وآثار يوضح الشكل العقائدى لتلك المجتمعات، ولا نستطيع من خلال هذا النص المتواضع أن نخوض فى أبعاد تلك الدراسات، لكننا نشير إلى أن الكثير من المراجع مدرجة فى كتاب «موسوعة تاريخ الأديان» لفراس السواح – الكتاب الأول – الشعوب البدائية والعصر الحجرى – الفصل الثالث، بينما هناك الكثير من الكتب المرجعية الشهيرة مثل «الطوطم والتابوه» لسيجموند فرويد، وبالطبع كتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر، وأيضاً كتابه «الطوطمية والزواج بغير ذوى القربى» بالرغم من اختلاف علم الأنثروبولوجى الحديث مع منهجه، وبالتالى فنحن نتوجه فقط إلى البعد التصويرى الذى طالعتنا الفنانة به.

ومحاولتها فى عزل الشكل الطوطمى الذى يجمع فى تكوينه الاتحاد بين الإنسان والحيوان والطائر فى بعض الأحيان، ويكون هذا العزل لتأكيد كيان تلك العناصر فى بعدها الروحى عندما كانت تحل فيها الروح الإلهية المقدسة، أو عندما كانت هى فى ذاتها تحمل قدسية أو طاقة أثرها فى الإنسان والجماعة، والفنانة هنا تدعو الجملة البصرية ربما لتكثيف ذلك الحضور العقائدى دون تعقيد وتركيب.

وإنما فى سياقها البسيط للرؤيا والطاقة البصرية. حيث نجد أيضاً صيغة الإلهة الأم التى تكشف البعد الأنثوى لدى الفنانة من حيث حضورها فى الأشكال المتنوعة من رسوم الحضارات القديمة سواء فى الشرق أو فى أقصى الغرب عاكسة حضورها كرمز للخصوبة والخير والعطاء كثالوث أنثوى فى تكوين العمل، فى كيان كأنه يشمل الحياة بكاملها فى كيان المسطح المرسوم.


طاقة اللون
يحضر اللون بحالة أشبه بالخشونة، ليس فقط من خلال الاختزال والتلخيص، بمعنى أنه يبتعد عن البزخ، إنه لون عصامى، أوجد لذاته حضوراً فى تلك الأجساد البسيطة، لا نسمى هنا اللون أو نصفه كلون ترابى مثلاً، فقد تعدى اللون هنا صفة ذاته، فكما لو أن اللون فى مجموعة الأعمال قد حضر بقوة دافعة من داخل عناصر العمل ذاتها.

وليس لوناً مضافاً للعمل، إننا دائما ما نواجه فى الكثير من الأعمال اللون باعتباره خاطفاً للارتكاز البصرى للعمل.. اللون دائما عنصر إبهار وقهر فى بعض الأحيان لأنه يوجه العين ويمكنه أن يغلق العمل على غاية صائغه، أكثر مما يفتح أفقاً للتأمل فيه.. ونحن هنا فى مجموعة أمل نصر نجد ذلك اللون الذى يدعونا أن نكمل مقطوعاتها ببساطة شديدة.

ودون تكلف، لقد تركت أمل نصر لنفسها كل ذلك الفضاء الذى لا يحد لتتلقف هى الألوان داخل تفاعلات العمل.. اللون يأتى من الداخل وليس من الخارج.. ولم تعمد الفنانة لونياً صياغة تقاطعات النور والظل بقدر ما تركتها فى فضائها تنمو، وبالتالى فيكون المنظور البصرى لقانون العمل قد انتقل لمستوى آخر غير ما تعرفه الرياضيات وحسابها.. انتقل إلى تلك الدعوة الإنسانية النقية لإعادة رؤية الموجودات ورؤية أنفسنا فيها مرة بعد أخرى.


أخيراً، إعادة حالتنا البدائية المستقلة إلينا
يقول توماس مان فى مدخل رائعته (الجبل السحري) واصفا بداية رحلة بطل روايته: «المدى كالزمن يولد النسيان لكنه يفعل ذلك من خلال تحريرنا ... من بيئتنا، وإعادة حالتنا البدائية المستقلة إلينا. أجل بوسعه أيضاً فى إغماضة عين أن يصنع شيئاً خارقاً».


فهل يمكننا أن نقول إن الفن أيضاً يمكنه أن يفعل ذلك، ليس من خلال النسيان، ولكن من خلال أنه يأخذنا فى مثل تلك الرحلة التى تعيدنا إلى مكاننا الساحر المستقل، حيث يكون ذلك السحر كامنا ليس فقط فى مكان الوصول ولكن فى الرحلة ذاتها أيضاً، تلك التى نعبر من خلالها إلى ذاكرة الحياة والوجود والإنسانية والمخلوقات.

وهل يمكن أن نتوقف قليلاً لنشهد ذلك الدمار الذى يخلفه البشر وراءهم ونطلب منهم أن يصعدوا معنا ذلك الجبل السحرى (نستعير المصطلح لصالح موضوعنا) .. ذلك المصير المليء بالاحتمالات للإنسان، والذى يدعو أن نترك الحياة تفعل فعلها حيث لا إرادة كاملة يمكنها أن تشكل حياة كاملة، كل تلك الحروب والنزاعات والأطماع والسلطة ربما تقف أمام لفتة فى الكون أو خطأ بسيط بشكل قزمى أو بالأحرى أقل ملايين المرات من ذلك.


يبقى أن نشيد ببينالى كتاب الفنان 2022 والقائم بمكتبة الإسكندريةحتى يوم 20/ 9/ 2022،حيث دقة التنظيم، وتوزيع الإضاءة الرائع واختيار تلك المجموعة من التجارب التى تستحضر الذاكرة فى الأماكن والحكايا الخاصة والنصوص الأدبية، لتتحول جميعها إلى حضور تشكيلى تحفظه طيات العمل أو تشتته بقصدية أن يجمع المتلقى ذلك الشتات بشغف التواصل مع جملة الفنان.

 

اقرأ ايضا | الأديب صاحب «العتبات»: روايتى تحاول الاستمتاع باللعب فقط!