إسراء النمر تكتب .. مكتبة الأسرة عودة روح أم حلاوة روح؟

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

فى أغسطس٢٠١١، تم إسناد رئاسة مشروع مكتبة الأسرة للأديب الراحل إبراهيم أصلان، الذى خصص توطئته لأى كتاب يصدر عن المشروع، لقول حقيقة غائبة عن كثيرين: «أن توفيق الحكيم صاحب حلم توفير مكتبة لكل أسرة، وليس بوسع أحد آخر أن يدعى غير ذلك»، ففى مطلع ستينيات القرن الماضى أجرى الكاتب الصحفى منير عامر فى مجلة «صباح الخير» حوارًا مع صاحب «عودة الروح»، الذى أخبره عن تمنيه لأن يأتى اليوم الذى يرى فيه جموعًا من الحمير النظيفة المطهمة.

وهى تجر عربات الكارو الخشبية الصغيرة، تجوب الشوارع، وتتخذ مواقعها عند نواصـى ميادين المحروسة، وباحات المدارس والجامعات، وهى محملة بالكتب الرائعة والميسورة، شأنها فى ذلك شأن مثيلاتها من حاملات الخضر وحبات الفاكهة.

ويواصل إبراهيم أصلان: «وفى ثمانينيات القرن الماضى عاود شاعرنا الكبير الراحل صلاح عبد الصبور التذكير بهذا الحلم القديم، وفى التسعينيات من نفس القرن، تولى الدكتور سمير سرحـان تنفيذه تحت رعاية السيدة زوجة الرئيس السابق. هكذا حظى المشروع بدعم مالى كبير، أسهمت فيه، ضمن من أسهم، جهات حكومية عدة، وخلال عقدين كاملين صدرت عنه مجموعة هائلة من الكتب، بينها مؤلفات ثمينة يجب أن نشكر كل من قاموا باختيارها، إلا أنه للحقيقة ليس غير، حفل بكتب أخرى مراعاة لخاطر البعض، وترضية للآخر، ثم أن المشروع أنعش الكثير من متطلبات دور النشر، بل اصطنع بعضها أحيانًا»..

إنها ليست توطئة فحسب، إنها شهادة للتاريخ، ففيها أعاد أصلان الحق لصاحبه، أى توفيق الحكيم، كما كشف عن زيف الكثيرين، فبعد ثورة ٢٥يناير ٢٠١١ توقفت كل الجهات الداعمة لمشروع مكتبة الأسرة -ما يقرب من ١٦ مؤسسة- عن الوفاء بأى دعم كانت تحمست له منذ انطلاقه فى صيف عام١٩٩٤، فما كان أمام اللجنة التى عملت فى وقت حرج وبميزانية وصلت لـ ٨ ملايين جنيه، إلا مضاعفة التدقيق فى كل عنوان تختار، دون أن تشغل نفسها لا بكاتب ولا بدار نشر ولا بأى نوع من أنواع الترضية والإنعاش، لتتوالى الأحداث والاضطرابات فى البلاد، ما أثر بالسلب على مكتبة الأسرة، فتراجع دورها، وخفت حضورها وتأثيرها عند الناس، خاصة أنه لم يظهر خلال العشر سنوات الماضية مشروع قومى فى القراءة ليسد الفجوة الهائلة التى تركتها.  


وكان يرأس مشروع مكتبة الأسرة، فى هذه الفترة،المثقف الدكتور فوزى فهمى،بالتحديد منذ أغسطس عام ٢٠١٤، وحتى وفاته فى أكتوبر ٢٠٢١، وفى توطئته للكتب التى صدرت فى عهده، قال فهمى إن «وزارة الثقافة نجحت عام ٢٠١٤ بتفعيل التكاتف المؤسسى، وذلك بتجاوز الأطر التقليدية، فى دعم مكتبة الأسرة، لتبدد التمايز فى ممارسة حق القراءة بالنشر المدعوم.

الذى يحرر الكتاب من استحالة وصوله إلى شرائح المجتمع، وقد استجابت لهذا التكاتف المؤسسى فى دعم مكتبة الأسرة كل من وزارة التربية والتعليم ووزارة التخطيط ووزارة السياحة»، ورغم ذلك لم تستطع اللجنة برئاسة فوزى فهمى أن تحقق كافة الرؤى والخطط التى وضعتها، مثل خطة نشر مائة رواية مترجمة، فلم يصدر حتى الآن منها سوى عدد محدود من الروايات المترجمة، فبعد انتهاء فترة تولى الدكتور جابر عصفور لوزارة الثقافة فى فبراير 2015، تعثر المشروع أكثر، ولم تكن اللجنة تجتمع إلا على فترات متباعدة، وذلك وفق ما أكده عدد من الأعضاء السابقين.


وفى يوليو الماضى، شكلت وزيرة الثقافة السابقة الدكتورة إيناس عبد الدايم لجنة جديدة لمكتبة الأسرة برئاسة عالم الاجتماع الدكتور أحمد زايد، وذلك قبل توليه منصب مدير مكتبة الإسكندرية، وتم الإعلان عن رؤية من شأنها مواكبة العصر، والتى تشمل إتاحة نسخة رقمية من إصدارات مكتبة الأسرة، خاصة الإصدارات أو الكتب التى سقطت حقوقها ولا تزال مؤثرة وغير متاحة فى الوقت نفسه، إلى جانب تخصيص ما يقرب من ٤٠% من إصدارات المشروع هذا العام لكتب الطفل.


وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة أشهر على تشكيل اللجنة، علينا أن نسأل: إلى أين وصل عمل اللجنة؟ وهل مواكبة العصر منحصرة فقط فى طرح الكتب إلكترونيًا؟ ما رؤى الأعضاء والمثقفون لعودة الروح من جديد لمكتبة الأسرة ومن ثم استعادة دورها؟ كيف ينظر الناشرون لهذه الخطوة وهل لديهم الاستعداد للتعاون مع المشروع؟ 


فى البداية يقول الدكتور أحمد زايد: «نحن حريصون على الحفاظ على مكتبة الأسرة، باعتبارها تراثاً ثقافياً، وواحدة من الإنجازات الحقيقية التى تم تنفيذها على أرض الواقع، وأعتقد أننا فى الفترة المقبلة سنحاول -كلجنة- أن نعيد للمشروع دوره التاريخى، فقد وضعنا نصب أعيننا بعض الأسس لنشر الكتاب، كأن يكون معنيًا بقضية إنسانية أو فكرية، وأن يبتعد قدر الإمكان عن التعقيد والغموض، وأن يكون من الكتب القديمة التى أصبحت مشاعًا فى حقوقها الفكرية، كما وضعنا شرطًا مهمًا وهو ألا ينشر أى عضو كتابا له فى مكتبة الأسرة».


وعن ميزانية المشروع، قال: «لا أستطيع أن أقول إنها ميزانية كبيرة، ولكنها كافية لنشر عدد معقول من الكتب خلال العام، وأتصور أن دور اللجنة أيضًا أن تطرح أفكارًا حول جلب مصادر أخرى لميزانية مكتبة الأسرة، فنحن بحاجة للتعاون مع القطاع الخاص، ومع الناشرين، ورجال الأعمال الكبار المهتمين بالثقافة، من أجل زيادة عدد الكتب المطبوعة وزيادة زخم المكتبة».


من المؤمنين أيضًا بمشروع مكتبة الأسرة، وضرورة استمراريته، الكاتب الصحفى إيهاب الملاح، أحد أعضاء اللجنة الحالية، والذى لفت الإنتباه إلى أن أقل من عامين فقط، ويُكمل المشروع ثلاثين عامًا بالتمام والكمال، يقول: «أزعم أن هناك أربعة أجيال كاملة تشكل وعيها بفضل مشروع مكتبة الأسرة، فمن خلال إصداراته عبر ما يقرب من عشرين سنة كاملة، وبالأخص فى السنوات العشر الأولى، تشكلت نواة مكتبة شخصية عظيمة، أظنها جديرة بالاعتبار والاحترام خاصة فى جانب الأعمال الإبداعية؛ الروايات والقصص القصيرة، والأعمال الفكرية الممتازة التى شكلت العقل والوجدان المصرى فى القرن العشرين».


ويرى الملاح أنه رغم ما عانى منه المشروع خلال السنوات الماضية، إلا أنه لم يتوقف ولم يمت، ولم يتخل عن دوره، حتى لو قل المعدل الذى تُنشر فيه الكتب عن المعدل المعتاد، «ففى مرحلة من مراحل نمو المشروع وتوسعه وازدهاره، كان يحظى بتمويل جهاتٍ عديدة؛ حكومية وخاصة، حتى بلغت ميزانيته فى بعض السنوات إلى ما يقرب من خمسين مليون جنيه (وهو مبلغ مهول وشديد الضخامة بحسابات وأرقام السنوات ما بين ٢٠٠٠و٢٠١٠)».


وبالعودة إلى الأرشيف، سنجد أن أكبر رقم تم تخصيصه لميزانية مكتبة الأسرة خلال العشر سنوات الماضية، كان يقدر بـ ٢٠ مليون جنيه، وذلك فى عام ٢٠١٤، فى عهد وزير الثقافة الأسبق الدكتور الراحل جابر عصفور، وبالرجوع للدكتور هيثم الحاج على رئيس الهيئة العامة للكتاب لمعرفة ميزانية مشروع مكتبة الأسرة للعام الحالى، قال إنها نفس ميزانية العام الماضى والتى تقدر بـ ٧ ملايين جنيه.


فيما أوضح الكاتب الصحفى سيد محمود، أن اللجنة اجتمعت حتى الآن حوالى ثلاث مرات، وأن النقاشات دارت حول كيفية الاستفادة من ميراث المكتبة والتأكيد على أهميتها وتأثيرها الواسع لمدة تزيد على ربع قرن، والنظر إليها باعتبارها أحد مكتسبات الحياة الثقافية وخدمة ضرورية فى ظل ارتفاع الأسعار، مضيفًا: «هناك تأكيد طيلة الوقت من قبل رئيس الهيئة العامة للكتاب على وجود سعى لزيادة ميزانية المكتبة، عن طريق مخاطبة بعض البنوك، وعدد من المؤسسات الاقتصادية، لتقديم الدعم، مقابل نشر إعلاناتها على أغلفة الكتب الخلفية، وذلك للتغلب على المعوقات التى طالت المشروع بعد توقفه عن إصدار الكتب بشكل منتظم منذ عام ٢٠١٦، إلى جانب التفكير فى كتب من السهل الحصول على حقوقها، أو التى بلا حقوق على الإطلاق».


كما أوضح أنه تم مناقشة عدد من العناوين، التى يقع أغلبها ضمن فئة الكتب الكلاسيكية، قائلًا: «بشكل شخصى أرى أن الثقافة المصرية غير راكدة، والإصرار على نشر الكلاسيكيات هو إصرار على الركود، لذلك من الضرورى التغلب على عقبة حقوق الملكية والفكرية لنشر أعمال جديدة ومعاصرة، لكن المشكلة تكمن أيضًا فى أن المعاصرة تفتح أبواب الصراعات والمنافسات التى لا تتم بشفافية كاملة، لهذا من الممكن أن تجد اللجنة فى الماضى آمانًا كبيرًا».


ولفت سيد محمود الانتباه إلى أن مشروع النشر فى قصور الثقافة سيضع مكتبة الأسرة فى ورطة، لأنه يقوم هذه الفترة على إعادة تدوير القديم، وهى وسيلة كانت تلجأ لها المكتبة كنوع من المقاومة، وأضاف: «لديّ بشكل عام مخاوف من توغل النشر الحكومى على حساب النشر الخاص، لأنه سيضاعف من خسائر الناشرين فى اللحظة الراهنة، الأفضل دائمًا البحث عن تعاون مشترك، كأن يأخد الناشر دعمًا من الحكومة، تساعده على إصدار الكتب، بشرط أن تتدخل الحكومة فى عملية التسعير، لكن الشواهد تقول إن الناشر الحكومى لم يعد الأفضل، لأنه رفع من سعر الكتاب كما أنه فشل فى تسويق وتوزيع إصداراته.. ومن الملاحظات المهمة أن ممثل اتحاد الناشرين لم يحضر أيًا من الاجتماعات، لينقل لنا تصورات الناشرين، فالشكوى الرئيسية والقديمة لهم من مشروع مكتبة الأسرة أنه يوقف عملهم فى فترة الصيف».


وختم سيد محمود -أحد أعضاء اللجنة- كلامه قائلًا إنه «لا بد أن يكون لهيئة الكتاب خطة عمل واضحة، ويتم إخبار كل الأعضاء بها، لأنه حتى الآن لم نصل إلى آلية لتنفيذ الأفكار والإقتراحات التى قدمتها اللجنة باعتبارها برنامج عمل واضح، حتى الآن لا نملك إلا حماس كل الأطراف، فكيف يتم ترجمة هذا الحماس إلى إجراءات؟». 
فيما يرى الناشر شريف بكر صاحب دار «العربى» أن هناك إصرارًا على التمسك بالماضى، «فمشروع مكتبة الأسرة كان يحقق فى فترة ما غرضًا كبيرًا وهو وصول الكتاب بأقل سعر للقارىء، وهناك أجيال كثيرة بالفعل استفادت منه، لكن اليوم فى ظل الزخم الموجود فى الكتب والكُتاب.

والتطور الهائل فى حركة النشر، والتقدم التكنولوجى، إلى أى مدى سيستطيع المشروع أن يقدم جديدًا، القرار الوحيد الجيد والإيجابى، والذى من الممكن الاكتفاء به، هو طرح كتب مكتبة الأسرة إلكترونيًا، ما يُدخل المكتبة فى هذه الحالة فى دائرة المنافسة، فميزة الساحة الأدبية أنها واسعة، كما أنه ليس هناك جهة ما تحتكر الكتب الجيدة».


وتساءل: «لماذا لا توفر الدولة الميزانية المقررة لمكتبة الأسرة لدعم الناشرين؟ لماذا يذهب الدعم من الأساس لجهة حكومية؟ وبأى منطق تطلب الدولة من الناشر أن يتبرع لها؟ لقد توصلت إلى أننا لا نرقى فى نظر الدولة إلى أن نكون صناعة، وإنما تجارة، فقد كانت لديّ من قبل تجربة تعاون سيئة مع مكتبة الأسرة، فقد أخذت منى كتابين مترجمين.

واضطررت لأن أطلب من المؤلف أن يتنازل عن حقوقه، التى لن تتجاوز الـ ٢٠ دولار، وهو رقم مهين ومخجل.. المكتبة تريد أن تأخذ من الناشر كتبًا بأسعار زهيدة جدًا دون مراعاة للحقوق أو الاختلاف بين الكتب والكُتّاب، لهذا أرفض التعاون معها ثانية، أو بالأحرى التبرع لها، خاصة أننا بسبب هيئة الكتاب يتم اتهامنا من قبل القراء بالسرقة لارتفاع الأسعار، رغم ارتفاع أسعار الكتب الصادرة عن مؤسسات النشر الحكومى».


فى المقابل يرى المفكر الدكتور نبيل عبد الفتاح أن «مكتبة الأسرة مهمة فى ظل وجود رؤيا مختلفة، لأنها كانت جزءًا من ثقافة الاستعراضات السلطوية فى عهد مبارك، وكانت مشروعًا دون رؤية متكاملة، من هنا صدرت كتب لبعض الكُتّاب لاعتبارات ذاتية، ليست موضوعية، ولصحفيين ورؤساء تحرير ومحررى صفحات ثقافية وفنية.. إلخ، كان الهدف من ذلك هو الموالاة، ومع ذلك صدرت بعض الكتب القديمة المهمة التى نفدت، ولم يتح للأجيال الجديدة قراءتها آنذاك».


وأضاف: «الدولة المصرية تعانى من مشكلات هيكلية فى تكوين وتفكير العقل السياسى، وتتمثل فى غياب الطلب السياسى على الثقافة، ويواكب ذلك غياب الطلب الاجتماعى الفعال عليها، من ثم نحن إزاء مشكلة إدراكية وسياسية بامتياز، ميزانية وزارة الثقافة محدودة، وغالبها يذهب إلى المرتبات والمكافآت، وما يتبقى محدوداً للعمل الثقافى، لذا تحتاج المكتبة إلى دعم مالى كبير حتى تستطيع أن تواكب تحولات عالمنا وقضاياه، لأن الشباب لم يعد يقرأ الورقى إلا قليلًا، المكتبة أيضًا لا بد أن تكون جزءاً من رؤيا سياسية ثقافية جديدة ومختلفة، بعيدًا عن العقل البيروقراطى النمطى، كما تحتاج إلى خيال سياسى وثقافى شاب!».


وهو ما أكده الناقد الدكتور محمد عبد الباسط عيد، أن وجود رؤية مغايرة هو ما سيحدد إذا كانت هناك بالفعل نية حقيقة لإحياء مكتبة الأسرة، لأن وجودها مهم وضرورى فى ظل ارتفاع الأسعار، ولن يحدث ذلك إلا إذا تم تحديد لمن نتوجه بالكتب وما الذى نسعى إليه، لأن هناك مشكلة واضحة فى طبيعة الكتب المختارة، التى تنحصر غالبيتها فى الكتب الأكاديمية والموسوعات، فى حين أن المستهدف الحقيقى هو القارىء العام، قائلًا: «لا أستطيع أن أفهم حتى الآن لماذا تطبع مكتبة الأسرة موسوعة مصر القديمة لسليم حسن أو موسوعة شخصية مصر لجمال حمدان، على أجزاء عدة، وهى موسوعات معقدة وضخمة، مؤكد أن أحدًا لن يقرأها سوى القارىء المختص، والأمر ينطبق على الكتب الأكاديمية، التى يجب استبعادها من النشر فى المرحلة المقبلة».


وأضاف: «لا بد من وجود خطة موضوعية ومدروسة ومطروحة للنقاش مع المثقفين، وألا تعمل اللجنة بمعزل عن الواقع، وأن تبحث فى القضايا التى تهم الناس فى اللحظة الراهنة، سواء كانت قضايا سياسية أو اجتماعية أو ثقافية.. إلخ».

اقرأ ايضا | الملتقى الدولى الثامن للإبداع الروائى العربى يناقش 9 محاور