سمية يحيى رمضان تكتب: عن الهوية والوطن والموضة

أم كلثوم
أم كلثوم

لماذا نركن إلى الأحكام المألوفة المسبقة التى لا تخرجنا من الركن المريح الذى لا يتطلب سوى الإدلاء برأى و ياحبذا لو كان نقدا لا يرتكن على معلومات أو حقائق؟! 

نحن نتغير للأفضل كل يوم و نصبح أكثر وعيا كل يوم و ربما كذلك نسعى لنكون أكثر إنصافا يوما بعد يوم ونحسن من أدائنا فى كثير من المجالات

فى إحدى حلقات برنامج البلاتوه يستفيض الساخر المذهل أحمد أمين فى التدقيق فى موضوع «الموضة» فيقول: «ده حتى اسمها صيحة» ! و يعلق: «يعنى أى حد يصيح  أمشى وراه وأنا مغمض؟» وهى دعوة صريحة  لإعمال العقل على نحو أصيل يعود بالنفع على حس الكينونة لدى المشاهد فى صيغة خفيفة الظل جدا، رشيقة العبارة تدخل القلب مباشرة الذى عادة ما يحيلها للعقل ليهضمها فتفتح شهيته على بعض التفكير: هل تريحنى هذه الموضة؟ هل تعوق حركتى؟ هل تعبر عنى وعن شخصيتى؟
كل منا يرتدى ما يجد فيه ردا على تلك الأسئلة على نحو أو آخر و يسعى وفقا لذائقته الخاصة أن يتميز من خلال ما يقدمه للآخرين عن نفسه أو ما يحب أن يعتقد الآخرون فيه إلا بالطبع لو كنا نتحدث عن الزى الموحد فى المدارس و إن كان الزى نفسه يعلن الانتماء لمؤسسة تعليمية بعينها، ولكن هذا حديث آخر.

 

فلنعد لأحمد أمين و «البلاتوه».  ربما كان أكثر ما أعجبنى فى تناوله هذا الموضوع بالذات، أنه لم يقع فى فخ المقارنات المعهودة «بيننا وبينهم» أيا ما كانت جنسية هؤلاء أو زمانهم، و التزم بمقارنة الفكرة فى سياقها التاريخى المحلى الصرف وفقا لهدفه .

 فأعفانا من قصة الطربوش و القبعة  أو الفستان «الشيك» فى حفلات أم كلثوم و أناقة ربطات العنق التى ازدراها شباب اليوم لأنها كما يقولون «تخنق» و لم يختلق مقارنة ضمنية بين الشياكة و الأناقة و ما هو سائد لدينا الآن و إن كان أول ما يطرأ لدى تقفى تداعيات هذا الموضوع  للذهن  هو الفارق بين المرأة التى يقال عنها أنيقة ونصف هذه الأناقة حتى ذكر اسم بيت شهير للأزياء للدلالة على القيمة المادية لهذه «الشياكة» والتى فى الغالب ما تكون باهظة.   أما  الأخرى التى نسميها «محجبة» تظل بدون تعليق و كأن هذا يصف حالها و ليس مدى أناقتها من عدمها.    
أما ما  يدهشنى فهو الكتاب من ذوى العقول الرصينة وكذلك وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى التى كثيرا هى الأخرى ما تقع فى ذات المقارنات المبتسرة التى تفاداها  الساخر المحترم أحمد أمين.

و هى مقارنات غالبا ما تنقسم ما بين  الحسرة: «شوف هما فين يا قلبى و احنا بقينا فين» التى غالبا ما تصاحبها صور عن القاهرة فى الثلاثينيات و الأربعينيات وحفلات أم كلثوم  الأحدث حيث النساء فى أوج «شياكتهن» و الرجال فى مكتمل أناقتهم.

و بالطبع يؤدى «البوست» دوره المؤقت فى انفراج الشعور بالحسرة على أية حال لأسباب تتعلق بمقتضيات نوعية هذا الفضاء سريع الإيقاع صغير المساحة فى حالة المجموعات المفتوحة و التى تقفز من فكرة لفكرة مسلحة بالصور و النكات و لا تسمح بطرح الأسئلة إلا على سبيل التنكيت و التبكيت.

وهو ما يحيلنا لأفكار تتداعى عن تلمس ذات الروح لدى العظيم بيرم التونسى الذى لحن له زكريا أحمد: «حاتجن يا ريت يا اخوانا ما رحتش لندن ولا باريس، دى بلاد تمدين ونظافة ولطافة  و حاجة تغيط»


حاول هذا المقال بقدر المستطاع التعرف على الأفكار السلبية التى ينقلها هذا النوع من المشاعر:

1-التحسر على الماضى دون وضع الماضى فى سياقه التاريخى .
2- الإحباط الناتج عن مقارنات شكلية و فى غير موضعها دون إضافة أية معلومة مفيدة. 
3-التمييز بين الناس و النساء منهم بالتحديد لما كان جسد المرأة هو «الفترينة» التى يعرض فيها مجتمع ما بضاعته الثقافية.  و تكون النتيجة استلاب للذات وتزكية ذوات الآخرين. فالواقع هو أن ما كانت ترتديه النساء من الطبقة الوسطى فى حفلات أم كلثوم و ما ترتديه نساء نفس الطبقة اليوم فى الأعم لا يميزهن بوصفهن مصريات. وهذا ليس عيباً أصيلاً فينا يستدعى كل هذا النواح أو كل هذا القهر وفقا للظرف الاجتماعى الذى تجد فيه المرأة نفسها مجبرة على تأكيد قناعات مستوردة فى جميع الأحوال واقعة بين سندان «الموضة» على النمط الفرنسى و مطرقة «الموضة».

على النمط الخليجى وهو بالقطع شعور لابد يؤدى لبلبلة فى ماهية انتمائها و الكثير من التشكك فى مدى حريتها فى التعبير عن نفسها هى بوصفها كائناً حراً جبل على الاختيار. هنا يلعب الاعلام واحدا من أهم أدواره فى رأيى فنجده ضمنا أو صراحة يعقد تلك المقارنات العجيبة بتواتر غير مفهوم و أحيانا من قبل من نشيد بجدارتهم و نعجب بأدائهم فنجد مثلا الاعلامية الجميلة بديعة الأداء الأنيقة جدا فى بساطة مبهرة تستدعى ما تلبسه نساء الأسرة الملكية البريطانية و هى تعلق على ما تلبسه ممثلاتنا فى حفلات التكريم فى مهرجان للسينما.  إذا كان حتما و لابد من عقد مقارنة ما فلتكن بين ما تلبسه الممثلات فى حفلات الأوسكار أو «كان».

و ما تلبسه مثيلاتهن المصريات أو بعضهن على ذات البساط فى مهرجاناتنا. فهل مثلا نحن مجتمع لا يثمن الاحتشام فى الملبس أو المسلك وإلا فلم نذهب بعيدا عما هو موجود بيننا بالفعل ولا يستدعى نسل أسرة كنا يوما ما من رعايا رعاياها؟ و هل نبتعد عن واقعنا عنوة  و نحن نفخر بقصر الجونلات فى الستينيات مثلا و بقصات الشعر الباريزية؟ ثم و دون أن يرمش لنا جفن نرتدى «الماكسى» بعد «المينى» مباشرة طاعة لأحكام آخر صيحة ،أو حتمية تعليم أبنائنا اللغات الأجنبية حتى لو جار هذا التعليم على اللغة التى أصبحت لغتنا القومية دون التساؤل عن منبع تلك النظرة المنبهرة بالآخرين شكلا فى الأساس ثم يجىء الموضوع بعد ذلك رغم أن الموضوع قد يكون حاضرا أمام أعيننا و لكن لسبب يستحق السؤال لماذا لا نراه؟.

و لنضرب مثلاً من برنامج استضاف العلامة العبقرى الدكتور الشيخ أسامة الأزهرى. كان الأزهر قد فرغ للتو من تحقيق أحد كتب التراث الهامة فأخرجها على نحو أكاديمى حديث ولم يكتف ولكن وفر ملخصا شافيا للكتاب و لكنه لم يكتف فطبع ملخصاً للملخص فى نقاط يسهل قراءتها و كانت توزع فى وسائل المواصلات العامة وراح الدكتور يشرح محتوى الكتاب.

و أسباب اختياره والمواضيع التى يتناولها لبث روح التسامح ونشر حس بالسلام و الطمأنينة فى النفوس وما أن انتهى العلامة الجليل حتى فاجأه المذيع المخضرم وهو يمسك بالكتاب فى يده و يلوح به أمام الكاميرا و يتساءل فى تعجب وهو يصرخ من شدة الحماس: احنا ليه ما عندناش كتب زى دى؟. تغاضى الدكتور أسامة عن الرد و راح يكمل حديثه عن الكتاب و ملخصاته والغرض منه.

و لم يسأل : أنتو مين اللى ما عندكمش كتاب زى ده؟ لو قولتلى انتو مين أبعتلكم من عندنا أى عدد تطلبونه من النسخ. إحنا عندنا كتير!!  وهو ما نعنيه عندما نتحدث عن نصف الكوب الفارغ. نصف الكوب الفارغ يمثل صورة ذهنية نصدرها لبعض من كثرة ما اعتدنا أن نقول: ما عندناش و يبقى عندنا و نصر على عدم الرؤية و ذلك فى ظنى أن الرؤية تستدعى الاطلاع والجهد و صياغة أسئلة حقيقية تنتظر إجابات صادقة. 


 القصد فى منتهى البساطة هو سؤال طال طرحه:لماذا نبخس حق أنفسنا إذا ما نجحنا فى تخطى عقبة ما ونجلدها عندما نخفق!لماذا نركن إلى الأحكام المألوفة المسبقة التى لا تخرجنا من الركن المريح الذى لا يتطلب سوى الإدلاء برأى وياحبذا لو كان نقدا لا يرتكن على معلومات أو حقائق؟!  تانى للأسف لأن كل الفخر و كل الإشادة بتاريخ مصر و كل الأناشيد التى تؤجج وجداننا و تتلقفها أعيننا بالأدمع لابد أن وراءه شيئا أو أشياء لم تفحص و لم تخلق لها القنوات التى تجعلها مفروغا منها. 


عندما سئل الساخر العظيم جورج برنارد شو عن سر تعصبه الشديد لكل ما هو أيرلندى و دفاعه المستميت عن وطنه قال: إن حس الانتماء للوطن لهو مثل العظام فى جسد الانسان. فالمرء لا يشعر بعظامه إلا عندما تؤلمه.  السؤال إذن هو «ما الذى يؤلمنا فى مصريتنا حتى أننا لا نفتأ نتحدث عنها إما من خلال مقارنات غير منطقية أو فى تشنج عصبى غير مبرر يصل إلى حد اصطناع العداءات و الواقع أنها كلها مظاهر لعدم الرسوخ و الاعتزاز الجائر على الآخرين فى أحيان كثيرة أيا كان هؤلاء «الآخرون».  

ويحضرنى مثالى أبعد ما يكونان عن بعضهما البعض لكنهما يفيان بالغرض هنا.  فى يوم كنت مدعوة لجزيرة بالى التى يقام فيها مهرجان دولى كل عام تحت اسم «ملتقى القراء و الكتاب» و هو تقليد سنوى بدأ بعد هجوم إرهابى بشع على الجزيرة التى يعيش أهلها على السياحة ونالت منظمته وهى استرالية متزوجة من إندونيسى يملك عديداً من فنادق الجزيرة الجميلة تشجيع و دعم الحكومة كما فعلت مصر بعد حادثة معبد حتشبسوت لتوصيل رسالة للعالم أن الإرهاب هو أسوأ و أفشل طرق إقناع الناس بأى أيديولوجية كانت.

وفى الليلة التى كنا سنكرم فيها روائية هندية شابة استعددت و أنا على قناعة أنى فى أوج «شياكتى»: الفستان الأسود الصغير كما يسمونه فى فرنسا وعقد اللؤلؤ و بروش قيم ولما دقت بابى الروائية المحتفى بها لاستعجالى لأنى كنت سأجلس عن يمينها فى العشاء فغرت فاهها قائلة: أنت لم تستعدى بعد؟  وأضافت متداركة: أنت ليس لديك زى وطنى؟ عندها و بعد أن كنت أتملى جمال السارى و ألوانه المدهشة والأساور الذهبية و الأقراط فجأة شعرت بكل عظامى تؤلمنى و بشدة.

وهكذا أجبت فى حدة دون وعى: ليس لدىّ زى وطنى لكن لدى لغة وطنية! كانت هى تكتب بالإنجليزية و شعرت فى الحال بما تسببت لها من ألم فى عظامها و ندمت فورا.  لكن السؤال ظل معى :ترى كيف يكون الزى الوطنى المصرى؟  و أول ما طرحت السؤال على نفسى تبين لى كم هو شكلى لا يشى بأى جوهر و لا يفصح عن أى قيمة حقيقية.  و لكن ظلت عظامى تؤلمنى كلما استدعيت أمثلة مما قرأت و أقرأ و أشاهد.

و الموضوع أكبر بزمان من مجرد زى وطنى أو لغة قومية. الموضوع له أصول شديدة العلائق بقرائتنا للتاريخ.  و رجعت لقامات كبيرة أعتد بأنها بلورت وجدانى فقرأت من ضمن ما قرأت «الشرق الفنان» وكأن الغرب ليس به فنون ثم وقعت على «تاريخ الفكر المصرى الحديث» لأستاذ الأساتذة لويس عوض و هناك وجدت ضالتى. فى كتابه المرجع يحدثنا الدكتور لويس عوض عن «أول مظاهرة نسائية فى مصر».

و يأخذ مرجعيته من كتاب كلوت بك «وصف مصر الصغير» وهو كتاب هزيل لا تتعدى صفحاته المئة و العشرين وهو بالطبع غير وصف مصر الذى وضعه علماء الحملة الفرنسية. فيقول كلوت بك أن نساء رشيد تحت حكم سارى عسكر عبدالله مينو الذى تزوج من زبيدة الميزونى و التى عرفت باسم زبيدة الرشيدية خرجوا فى مظاهرة كبيرة قاصدات بيت سارى عسكر للمطالبة بماذا؟  وفقا لرواية كل من كلوت بك و الدكتور لويس عوض للمطالبة بأن يفرض سارى عسكر على رجالهم أن يعاملهن ذات المعاملة الرقيقة الحنون التى يعامل بها سارى عسكر زوجته زبيدة! طبعا هذا كلام لا يستقيم.  

لقد ذهبت النساء فعلا لبيت سارى عسكر لمطالبته بإعادة فتح الحمامات التى كان قد أمر بإغلاقها خوفا من الدور الذى كانت تلعبه تلك الحمامات فى نقل أخبار المقاومة و تداول وجهات النظر فى كيفية التعامل مع هذه المصيبة التى حلت بهم بغته وبدون استعداد.  

وكانت النساء و حتى وقت قريب جدا يلعبن أدوارا غاية الأهمية فى نقل الأخبار وكانت الحمامات معاقل محتملة لتفريخ الثورات و الأرجح أن الحاكم العسكرى لرشيد قرر أن يسد بابا كان من المحتمل أن يسبب له تهديدا لا للحملة التى جاء معها فقط و لكن لشخصه هو بالذات.

ومن المرجح كذلك و لأن أباها كان صاحب أكثر من حمام فى رشيد أن  زبيدة توسطت بالفعل لدى زوجها الذى كان يزيح لها الكرسى لدى الجلوس إلى الطعام و يلتقط لها الفوطة إذا أسقطتها و يفتح لها الباب و يجعلها تمر قبله! و كلها تفاصيل مشكوك فى صحتها تماما عندما نقتفى أثر تلك الزيجة التعيسة  حتى نهايتها الأتعس. على كل مثل هذا يتكرر فى قراءتنا لتاريخنا و مقصد الدكتور لويس كان بالطبع مغايرا تماما لمقصد كلوت بك.

و لكن البصر يكون أحد لدى تملى النظر فى حدث ما بعد أن يكون قد حدث. القصد من كل هذا : السارى الهندى و الفستان الفرنسى، البساط الأحمر و ما ترتديه الممثلات عموما سواء فيما يقدمن من أعمال أو خارجها، تفسير التاريخ الثقافى من وجهة نظر المهيمن ثقافيا،المقارنات المعقودة على  الدوام إما لصالح «الآخر»  أو لخسف الأرض به، التركيز العفوى على نصف الكوب الفارغ، عدم تصديق أننا قادرين على تغيير مقاديرنا بأيدينا، إنما القصد منه هو الإشارة إلى أحب الأشياء لله سبحانه تعالى ألا وهو الإنصاف. الإنصاف. أن الحقيقة واضحة كشمس نهاراتنا: نحن نتغير للأفضل كل يوم و نصبح أكثر وعيا كل يوم و ربما كذلك نسعى لنكون أكثر إنصافا يوما بعد يوم و نحسن من أدائنا فى كثير من المجالات بما فى ذلك الإعلام ذو الجماهيرية الواسعة و إلا ما كنت كتبت هذا المقال بالذات.

اقرأ ايضا | شاهد.. «البلاتوه» يعرض أغنية ساخرة عن معاناة «الإنترنت»