يوميات الأخبار

هل كان صلى الله عليه وسلم .. فقيراً أم غنياً؟

حسن علام
حسن علام

حقيقة الزهد فى الدنيا إنما هو فى الترفع عن زخارفها، وعصمة النفس من التوسع فيها مع القدرة على ذلك

حياة الأنبياء والمرسلين والصحابة والأولين جديرة بالتأمل والدراسة من كافة جوانبها، فمنهم من كان غنياً كإبراهيم الخليل وأيوب وداوود وسليمان وعثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن معاذ وأبى أيوب الأنصارى وعبادة بن الصامت ونحوهم، وفيهم من كان فقيراً كالمسيح بن مريم، ويحيى بن زكريا، وعلى بن أبى طالب، وأبى ذر الغفارى، ومصعب بن عمير، وسلمان الفارسى.

أما سيدى رسول الله محمد «صلى الله عليه وسلم» الذى يحتفل العالم الإسلامى بذكرى مولده العطرة، فقد اجتمع له الأمران: الغنى تارة والفقر أخرى، تراه غنياً تأتيه الأموال بالخزائن إلى عاصمة ملكه، ويبقى رغم ذلك محتاجاً لا توقد فى بيته نار لطهى الطعام عدة أيام!!!

من أجل أن تقتدى بشخصية غيرت معالم التاريخ والإنسانية فى قامة سيدنا رسول الله «صلى الله عليه وسلم» فلابد أن نلم بكل تفاصيل حياته: كيف نشأ.. وكيف عاش..

طريقته فى الحياة وأسلوب معايشته مع جموع البشر وتعامله معهم.. وسيلته فى التطبيق.. حياته الخاصة.. أحواله فى بيته وأسرته، وكانت شخصية رسولنا الكريم هى الشخصية النموذجية الكاملة، فليس فى حياة نبينا العظيم سر مكتوم، ولا غموض لم يُكشف، ولا تجد فيما كُتب عنه أموراً مبهمة، ولا أساطير، والأمر كله واضح وضوح النهار كأنه الشمس يرى البشر تحت أشعة نورها كل شيء.

أغناه الله

كما هو معروف أن النبى «صلى الله عليه وسلم» من بنى هاشم، وقد كانت لهم الزعامة.. زعامة قريش فى مكة، وقريش أوسط قبائل العرب وأفضلها نسباً، وبنو هاشم كان فيهم الفتى الموسر، وفيهم من هو دون ذلك، وأما النبى «صلى الله عليه وسلم» فلم يكن معدوداً من الأغنياء أصحاب الأموال، فقد ولد سنة ٥٧٠ ميلادية فى مدينة مكة جنوب شبه الجزيرة العربية، وقد مات أبوه وهو لم يخرج بعد إلى الوجود، وماتت أمه وهو فى السادسة من عمره، وكانت نشأته فى ظروف متواضعة، ولم يتحسن وضعه المادى إلا فى الخامسة والعشرين من عمره عندما تزوج أرملة غنية هى السيدة خديجة بنت خويلد وعمل معها بالتجارة.

ومع ذلك لم يخطئ من نفى عنه الفقر الذى هو الحاجة إلى الخلق، فقد أغناه الله تعالى من فضله، لم يكن فقيراً قط، ولا كانت حالته حالة الفقراء، بل كان أغنى الناس بالله، وكان الله تعالى قد كفاه أمر دنياه فى نفسه وعياله ومعاشه «المصدر تاج الدين السبكى فى طبقات الشافعية»، أما قول الرسول «صلى الله عليه وسلم»: «اللهم أحينى مسكيناً» ففسره نفس المصدر بأن المراد به استكانة القلب لا المسكنة التى هى أن يجد ما لا يقع من كفايته، نعم كان أعظم الناس جؤارا إلى ربه، وخضوعاً له، وأشدهم فى إظهار الافتقار إليه،والتمسكن بين يديه، ونفى الفقر عن النبى «صلى الله عليه وسلم» باعتبار الغالب، وهذا لا يتعارض مع كونه قد يجوع أحياناً ويستسلف لكونه ينفق ما عنده فى الجهاد، وعلى فقراء المسلمين، ثم لا يلبث ربه «عز وجل» أن يفتح عليه من رزقه وفضله فيغنيه، ولذلك قال «ابن كثير» فى تفسير قوله تعالى فى سورة الضحي: «ووجدك عائلاً فأغني» فقال: إنى كنت فقيراً ذا عيال، فأغناك الله عمن سواه، فجمع له بين مقامى الفقير الصابر والغنى الشاكر.
الماء والتمر

ومع ذلك كان النبى «صلى الله عليه وسلم» منحازاً للفقراء، يتفقد ضعفاء المسلمين من الفقراء والمساكين والأرامل ويجالسهم ويدنيهم إليه ويحادثهم ويسأل عنهم ويصلهم بما يستطيعه من الإطعام وجميع النفقات، ومن أدعية النبى المأثورة: «اللهم إنى أسألك الهدى والتقى والعفاف والغني»، ومنها قوله  فى دعائه: «اقض عنا الدين وأغننا من الفقر»، هذه  أدعية قد تدل على أن رسولنا الكريم قد ذاق الفقر يؤكد ذلك ما روته السيدة عائشة «رضى الله تعالى عنها»: «أنه ربما يمر بهم الهلال والهلالان ولايوقد لهم نار فى بيت، وليس لهم طعام إلا الأسودان: الماء، والتمر»، وفى رواية أخرى لها قالت: «وخرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات»!

لكن قد يدخل هذا الكلام فى صفات النبى «صلى الله عليه وسلم» الزاهد، فحقيقة الزهد فى الدنيا إنما هو فى الترفع عن زخارفها، وعصمة النفس من التوسع فيها مع القدرة على ذلك، لا عن تعنت وتحريم لما أحل الله من الطيبات، ولكن عن تنزه أن يكون الإنسان عبد أهوائه أسير شهواته وملذاته، وهذا هو زهد الأنبياء والمرسلين والصديقين والصالحين.

وقد كان زهد رسول الله فى الدنيا زهد القادر المستطيع، فقد أوتى مفاتيح خزائن الأرض، وأحلت له الغنائم ولم تحل لأحد من الأنبياء قبله، وفتح عليه فى حياته بلاد الحجاز واليمن، وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق، وجلب إليه من أخماسها وجزيتها وصدقاتها ما لا يحصى، وهاداه جماعة من الملوك والأمراء، فما استأثر بشيء منه، ولاخرج عن طبيعته من التقشف والتقلل فى المأكل والمشرب والملبس والمسكن، إلى غير ذلك مما لا يعتبر التوسع فيه فضيلة!

الأغنى نفسا ومالا

والذين رددوا بأن الرسول «صلى الله عليه وسلم» كان فقيراً فى حياته رددوا قصصاً كثيرة تؤيد وجهة نظرهم منها أن النبى عندما انتقل إلى الرفيق الأعلى توفى ودرعه مرهونة عند يهودى، لكن الداعية الإسلامى المعروف الدكتور مبروك عطية «أستاذ ورئيس قسم اللغويات بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر» رد على هذه القصة بقوله:

- إن رسول الله «صلى الله عليه وسلم» كان من أغنى الناس نفساً ومالاً، وأن ثرواته عليه السلام بلغت «مليارات» على حد وصف الدكتور مبروك فهذه الكلمة ليست من عندى، إلا أن هذه الأموال كان ينفقها النبى على المسلمين، وأن قصة وفاة الرسول ودرعه مرهونة عند يهودى لا تعنى أن النبى استدان ذلك المال لنفسه، وإنما استدانه لسد حوائج بعض المحتاجين من المسلمين بعد أن نفد ما عنده فى بيت المال، وما يشاع من أن النبى «صلى الله عليه وسلم» كان فقيراً ليس صحيحاً على الإطلاق، فقد أحصيت ثروته  «صلى الله عليه وسلم» بيدى ووجدت  أنها «بالمليارات»!

وعندما سأل البعض الشيخ الداعية السعودى عبدالله بن محمد الطيار: هل الرسول «» فقير أم أنه غنى، استعان بهذا الحديث: «عن أنس بن مالك قال: دخلت على النبى  وهو على سرير مرمول بشريط تحت رأسه وسادة من آدم حشوها ليف، ما بين جلده وبين السرير ثوب، فدخل عليه عمر، فبكى، فقال النبى  «» ما يبكيك ياعمر؟ قال: أما والله ما أبكى يارسول الله إلا أن أكون أعلم أنك أكرم على الله من كسرى وقيصر، فهما يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت يا رسول الله بالمكان الذى أري؟.. فقال النبى «»: «أما ترضى يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قلت: بلى يارسول الله، قال: «فإنه كذلك»، ومعنى ذلك أن النبى «» اختار الآخرة عن الدنيا، وقد خُيِّر بين أن يكون ملكاً أو يكون عبداً، فاختار أن يكون عبداً، ولقد كان النبى تأتيه خيرات كثيرة فكان لا يتركها بين يديه حتى يوزعها وينفقها فى سبيل الله!

جبر الخواطر

وإذا كان الرسول «» أحب الفقراء ورعاهم وجبر بخاطرهم، فهذا لا يعنى بالضرورة أنه كان فقيراً، ولا يريد للأمة أن تكون فقيرة، إذ يعد الفقر على رأس كل الأزمات التى يواجهها العالم الإسلامى، وثقافة تمجيد الفقر منتشرة «للأسف» فى ثقافتنا الدينية بسبب بعض «مشايخنا» الذين يرددون بأن الفقراء أقرب للجنة ولرضا الله، ربنا سبحانه وتعالى يريد أن نعمل ونكد ونكسب ونعيش حياة كريمة، لكن بعض الدعاة يخدرون الفقراء بأحاديث فقر الرسول لترضى عامة الناس، والأفضل حثهم على الكسب الشريف، فعندما دعا النبى الكريم لخادمه أنس كان الدعاء بالغني: «اللهم كثر ماله وولده»، وهو القائل «»: «نعم المال الصالح للرجل الصالح»، فسيدى رسول الله لم يؤسس حضارة تقوم على ثقافة الفقر، كان رسول الله «» ينفق على تسع زوجات مهورهن وكسوتهن وطعامهن، و»كما قرأت» كان يوفر فى بداية كل سنة ميزانية السنة بالكامل، ناهيك عن أولاده وأحفاده وخدمه وضيوفه، حتى إنه فى عام الوفود قدم إليه ٧٠ وفداً وأكرمهم، واشترى أرض المسجد النبوى الشريف وأقام بيته على جزء من تلك الأرض، وكان يحب «الحلواء والعسل»، وكان يستخدم العطر «ثمنه كان مرتفعاً فى زمن الرسول»، وكان له وسيلة تنقل شخصية، فكان لديه ناقة تسمى «القصواء»، وبغلة تسمى «دلال»، وفرس يسمى «السَّكب»، ولأنه كان «» كريما كان ينفق على حوالى ١٢٨ شخصاً محتاجاً من ماله، وازداد عليهم ٤٠ نفساً أعتقهم قبل وفاته فصاروا ١٦٨ محتاجاً!

أما عن مصادر ثراء الرسول « صلى الله عليه وسلم » فكانت من مزاولة التجارة وبراعته فيها، وميراثه من والديه وزوجته الثرية السيدة خديجة، وخمس الغنائم والأنفال التى ينالها المسلمون من قتالهم للمشركين.

كل عام وأنتم بخير فى ذكرى مولده الشريف.