د. حسين عبد البصير يكتب عن: قصة الصراع على حجر رشيد بين فرنسا وبريطانيا

 حجر رشيد
حجر رشيد

يحتل حجر رشيد مكانة أسطورية فى تاريخ علم المصريات وفى تاريخ الكتابة البشرية جمعاء، ويعد محطة مهمة نحو توصل البشرية لأصولها العريقة ومعرفة جذورها العتيدة.

اكتشف حجر رشيد الضابط الفرنسي بيير-فرانسوا أكسافييه بوشار يوم 15 يوليو 1799 أثناء قيام قواته بتوسعة قلعة جوليان (قلعة قايتباى)، بمدينة رشيد في دلتا نهر النيل. وسمى باسم حجر رشيد نسبة للمدينة التي اكتشف بها. وأرسل إلى القائد الفرنسي الشهير نابليون بونابرت الذي أرسله إلى مقر المعهد العلمي المصري في القاهرة حتى يتمكن علماء الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) من دراسته. ثم أخذه القائد مينو، خليفة كليبر، القتيل، في قيادة الحملة الفرنسية على مصر، إلى مقر إقامته في الإسكندرية. 


بعد انتصار الإنجليز المدوي على الفرنسيين على حواف الأرض المصرية بالقرب من البحر المتوسط، أصر القائد الإنجليزي نيلسون كل الإصرار على الحصول على ذلك الحجر النفيس، الذي لم يكن يعلم أحد عظمته كاملة بعد، من براثن الفرنسيين. فبعد اتفاقية الجلاء عن مصر بين الفرنسيين والبريطانيين أو ما يعرف بـ «اتفاقية العريش» في عام 1801.

وصادرت القوات البريطانية حجر رشيد وشحن على إحدى السفن البريطانية إلى لندن حيث  وضع في مقر جمعية الآثار المصرية هناك. وندم الفرنسيون على ضياع الحجر أشد الندم. وقد دخل الحجر إلى المتحف البريطاني في نهايات عام 1802 بعد أن أهداه ملك المملكة المتحدة جورج الثالث للمتحف البريطاني.


ويزين حجر رشيد المتحف البريطاني، وقد صار درة التاج داخل المتحف. وقد وزع المتحف البريطاني نسخًا عديدة من حجر رشيد على المعاهد والجامعات الأوروبية بغية التوصل لسر الكتابات التي يحملها ذلك الحجر العجيب.

وبعد توزيع تلك النسخ، اجتهد عدد ليس بالقليل من المهتمين بحجر رشيد في فك طلاسم ذلك الحجر مثل عالم الطبيعة الفرنسي سلفستر دي ساسي وقارن النص الديموطي بالنص الإغريقي وتعرف إلى بعض الأسماء في النص الديموطي مثل بطليموس والإسكندر والإسكندرية.

وتلاه الدبلوماسي السويدي يوهان ديفيد أكربلاد الذي سار على نهج سلفه وركز على النص الديموطي وتوصل إلى بعض النتائج المهمة لكنه لم يقطع الشوط إلى نهايته. ثم جاء الطبيب البريطاني توماس يونج الذي اعتقد بوجود علاقة ما بين النصي الديموطي والنص الهيروغليفى. وكانت محاولاته أقرب إلى الصحة لكنه أخطأ في إيجاد النطق الصوتي الصحيح للكلمات الديموطية إلى أن جاء جان-فرانسوا شامبليون.


تعد محاولات جان-فرانسوا شامبليون هي المحاولات الأخيرة والناجحة لقراءة اللغة المصرية القديمة وفك أسرارها. وساعده في ذلك وجود حجر رشيد ومسلة فيله التي تزين إحدى ميادين إنجلترا ومعرفته باللغة القبطية وباللغة الإغريقية ونتائج الباحثين السابقين عليه خصوصًا كيرشر ويونج ورؤيته المنهجية في المقارنة والاستنباط والتحليل.

ونجح في النهاية في التعرف على علامات كثيرة. وتمكن شامبليون في النهاية من التوصل إلى الأبجدية المصرية القديمة عن طريق مقارنة الخطوط الثلاثة والأسماء الموجودة في الخراطيش. وقدم شامبليون اكتشافه الجديد في خطاب أرسله إلى البارون الفرنسي بون-جوزيف داسييه، سكرتير الأكاديمية الفرنسية للكتابات والآداب، كي يتلوه على مسامع أعضاء الأكاديمية في 27 سبتمبر عام 1822 معلنا يومئذ مولد علم المصريات كعلم أكاديمي بشكل رسمي. 


وبذلك نجح الفرنسيون في الانتصار على البريطانيين ليس في أرض المعارك العسكرية، ولكن تلك المرة في أرض المعارك العلمية والبحوث المعرفية. 
بوجود حجر رشيد داخل المتحف البريطاني، صار الحجر واحدًا من أروع روائع ذلك المتحف، إن لم يكن أروعها وأكثرها أهمية على الإطلاق، وأكثرها مقصدًا من قبل السائحين والزائرين البريطانيين على السواء، فهو بحق مفخرة الإنجليز. 


ومن الجدير بالذكر أنه بين عامي 2010و2011، تم عرض حجر رشيد من قبل المتحف البريطاني وهيئة الإذاعة البريطانية ضمن معرض «تاريخ العالم في مائة قطعة.»


يحتل حجر رشيد مكانة أسطورية في تاريخ علم المصريات وفى تاريخ الكتابة البشرية جمعاء، ويعد محطة مهمة نحو توصل البشرية لأصولها العريقة ومعرفة جذورها العتيدة. وصار قبلة لكل المهتمين بمصر والعالم والحضارة وفجر الضمير الإنساني من كل حدب وصوب في عالمنا المعاصر.


لعب ذلك الحجر دورًا مهمًا في فك رموز الكتابات المصرية القديمة. وكتب النص المنقوش عليه في ثلاث نسخ تمثل عددًا من الكتابات التي كانت شائعة في مصر في ذلك الزمن البعيد من عمر حضارتنا المصرية الخالدة.


ولعله من الغريب في الأمر أن بعض الغربيين سواء من البريطانيين أو الفرنسيين ينظرون إلى حجر رشيد باعتباره ميراثًا وملكًا لهم، وليس ملكًا لأرض مصر، صاحبة الحجر، وتلك الحضارة العظيمة التي أبدعت ذلك الحجر وغيره الكثير من آثارنا الفريدة التي تزين الكثير من المتاحف والمجموعات الخاصة في كل مكان في العالم، خصوصًا في الغرب.

 

والتي نطالب بعودتها إلى بلادنا، إلى أرضنا أرض مصر العظيمة. ويبخل الكثير من الغربيين علينا بوجود هذه الآثار العظيمة في أرضنا، ويودون أن تزين متاحف بلادهم، ويرفضون رجوع من سلبوه من آثارنا إلى بلادنا. ولن نكف عن المطالبة بعودة آثارنا المنهوبة إلى أرض مصر الطيبة. 


إن قصة اكتشاف حجر رشيد وفك أسرار النصوص المكتوبة عليه هي باختصار قصة تلاقى بل تلاقح الشرق والغرب، خصوصًا بين فرنسا وبريطانيا على الرغم من الصراعات العديدة التي كانت بينهما آنذاك، في لحظة تاريخية معينة قائمة على التعاون وبعيدة عن الصراع التقليدي بين حضارات الشرق والغرب من أجل فك شفرة سر حضارة من حضارات العالم القديم، بل سيدة العالم القديم، لا تتكرر كثيرًا في تاريخ التعاون بين الحضارات الإنسانية. 


ما قدمته رشيد، المدينة المصرية العريقة، من خلال هذا الأثر الفريد، وما قدمه من قبل الكهنة المصريون المبدعون أرباب العلوم والفنون والآداب في العالم القديم في ذلك النص المذهل المكتوب بخطوط عدة، وما قدمه العلامة الفرنسي جان-فرانسوا شامبليون وسابقوه من علماء وباحثين عن المعرفة باجتهاد، يعد عملاً خالدًا يكمل بعضه بعضا في فترات زمنية متقطعة على وجه الزمن ويرسل كل من تلك الأطراف المشاركة في ذلك العمل الإبداعي الكبير برسالة للآخر ويصل مضمونها بكل تأكيد إلى الآخر مهما طالت السنين؛ لأن العطاء الإنساني ينبع من نهر واحد تأتى الحضارة المصرية العريقة على بداية حين خطت بالإنسانية خطواتها الأولى نحو الكتابة والمعرفة وتدوين التاريخ والتمدن والتحضر بعد أن عاشت البشرية عصورًا طويلة في فترات مديدة من عصور ما قبل التاريخ، وخطت بها خطواتها الأولى نحو معرفة الإنسان المعاصر بأصوله المصرية القديمة التي يكن لها الجميع في العالم كله الإجلال والاحترام والشكر والتقدير في كل زمان ومكان؛ فمصر هي معبد وقدس أقداس العالم قديمة وحديثه.


لقد جاء اكتشاف مصر القديمة من خلال اكتشاف حجر رشيد. ويعد اكتشاف حجر رشيد الأثري واحدًا من أهم الاكتشافات الأثرية في تاريخ الإنسانية عبر عصورها، وهو مفتاح مهم لكشف رموز وأسرار اللغة المصرية القديمة، ونافذة مضيئة أطل العالم كله منها على سحر مصر القديمة.

اقرأ ايضا | «السياحة والآثار» تكشف أسرار تاريخية عن حجر رشيد| فيديو